كشفت الانتخابات التركية عن استمرار حضور الرئيس رجب طيب أردوغان في صدارة المشهد السياسي برغم تصاعد حدة أزمة الاقتصاد وتفاقم أزمة اللاجئين السوريين في الداخل التركي، وهي تحديات تبدو مرشحة للاستمرار خلال الولاية الجديدة. بيد أن تحديات السياسة الخارجية التي تواجه تركيا في التوقيت الحالي، وما تفرضه من توازنات وحسابات معقدة، قد تكون أكبر أولويات الرئيس أردوغان في العهدة الجديدة. فعلى سبيل المثال، كرَّس أردوغان جانباً معتبراً من خطاب تنصيبه، في 3 يونيو الجاري، لرغبة بلاده في زيادة “عدد أصدقائها” وتحويل المنطقة إلى “واحة سلام”، في تصريحات تندرج في إطار التهدئة لإخراج بلاده من عزلتها المتزايدة على الساحتين الإقليمية والدولية. وأضاف أن “تركيا لا تملك ترف أن تدير ظهرها لا للغرب ولا للشرق”. وهي تصريحات تكشف عن احتمال مواصلة أنقرة سياسات التهدئة على الصعيدين الإقليمي والدولي.
ترتبط التحولات المحتملة نحو التهدئة في السياسة الخارجية التركية بعوامل عدة، في الصدارة منها تأزم الوضع الاقتصادي، والذي وصل إلى مستوى غير مسبوق مع احتدام الحرب في أوكرانيا، بالإضافة إلى محاولات أنقرة لتجاوز أزمتها الاقتتصادية، إذ لا تزال تركيا تعاني من معدلات تضخّم مرتفعة وصلت إلى أكثر من 85 في المائة، فضلاً عن ارتفاع أرصدة الديون الخارجية، وتفاقم معدلات البطالة. كما أن الاستدارة المحتملة في توجهات تركيا الخارجية ترتبط في جانب منها بالرغبة في تخفيض منسوب التوتر مع واشنطن وأوروبا بسبب تباين القضايا الخلافية، وكذلك توتر علاقات تركيا مع محيطها الإقليمي، وهو ما ظهر -على سبيل المثال- في تفاقم الخلاف مع الدول العربية، وصعود الخلاف مع أرمينيا وتوتر العلاقة مع اليونان.
في المقابل، لا يمكن إغفال أن إمدادات الطاقة وتأمينها تعتبر محدداً مهماً في السياسة الخارجية التركية، إذ تمثل رغبة أنقرة في تأمين احتياجاتها من الطاقة في ظل تصاعد العقوبات الغربية على موسكو وطهران اللتين تمثلان المصدرين الرئيسيين للطاقة في تركيا. لذلك، فإن قضية الطاقة تمثل محدداً رئيسياً في خيارات السياسة الخارجية التركية خلال المرحلة المقبلة، خاصة في ظل سعيها إلى شراكات جديدة.
قي هذا السياق، فإن المحدِّدات السابقة قد تشكل الملامح الرئيسية لتحركات السياسة الخارجية التركية في عهدة أردوغان الجديدة، والتي يتوقع أن تتجه نحو التقارب أكثر من محيطها العربي، وتعزيز العلاقات معها، وقد برزت الأهمية الاستراتيجية للمنطقة العربية في مواجهة التوترات مع القوى الغربية من جهة، والتعويل على الاستثمارات الخليجية في دعم الاقتصاد التركي خلال المرحلة المقبلة من جهة أخرى.
على صعيد متصل، قد تتجه تركيا في العهدة الجديدة نحو تعزيز خطوات الانفتاح مع القاهرة، ومواصلة تحركاتها للتطبيع مع النظام السوري، ناهيك عن تعزيز مكانتها في مناطق نفوذها القديمة والتقليدية في آسيا الوسطى، وبخاصة في الجمهوريات الناطقة بالتركية. كما يتوقع أن تحافظ تركيا على علاقات الضرورة مع موسكو، من خلال التزام نهجها الحيادي حيال التدخل الروسي في أوكرانيا، وهو ما تجسَّد في معارضة أنقرة جميع العقوبات المفروضة على روسيا التي اقترحها الاتحاد الأوروبي، فضلاً عن احتمال مواصلة الرئيس أردوغان تحركاته للوساطة بين أطراف الأزمة، وهو عكسه نجاح أنقرة في حل أزمة تصدير الحبوب الأوكرانية.
بيد أن العلاقات التركية الغربية، خاصة مع الولايات المتحدة، ستكون مرشحة للتوتر من دون أن تصل إلى حد القطيعة، وذلك على خلفية استمرار الدعم الأمريكي لقوات سوريا الديمقراطية “قسد” التي تصنفها تركيا “إرهابية”، ومعارضة الكونجرس منح تركيا طائرات إف 16 المتطورة، ناهيك عن الإصرار على استبعادها من إنتاج مقاتلات إف 35. لكن في المقابل، قد تسعى تركيا إلى ضبط التوتر مع أوروبا، خاصة في ظل توجه أنقرة وأثينا إلى مقاربة جديدة لتصفية الخلافات أو على الأقل الوصول إلى تفاهمات مقبولة حولها، ناهيك عن رغبة أنقرة في استثمار الدعم الأوروبي في عمليات إعادة إعمار المناطق المنكوبة بسبب الزلزال الذي ضرب مناطق جنوب تركيا في 6 فبراير الماضي.
على جانب آخر، ربما تتجه أنقرة خلال المرحلة المقبلة نحو مواصلة عسكرة الأزمة مع التيارات الكردية شمالي العراق وسوريا، والحفاظ على انخراطها العسكري في هذه المناطق، باعتباره الحل الأمثل لتقطيع أوصال المشروع الكردي في الإقليم.
موضوعات ذات صلة
1- تعزيز الهيمنة: أبعاد فوز أردوغان بالانتخابات الرئاسية التركية، 29 مايو 2023.
2- الطريق الثالث: لماذا يتصاعد حضور التيار القومي في تركيا؟، 18 مايو 2023.
3- دفع التطبيع: لماذا جرى لقاء جاويش أوغلو-المقداد في موسكو؟، 14 مايو 2023.
4- كسر عظم: أبعاد الاستقطاب الحاد قبل الانتخابات التركية، 11 مايو 2023.
5- تأثير الانتخابات.. هل تصعد تركيا في الملفات الخارجية لخدمة حسابات داخلية؟، 7 مايو 2023.
6- ورقة محورية: كيف انعكست عودة سياسة “تصفير المشكلات” على الانتخابات التركية؟، 3 مايو 2023.