ورقة محورية:
كيف انعكست عودة سياسة “تصفير المشكلات” على الانتخابات التركية؟

ورقة محورية:

كيف انعكست عودة سياسة “تصفير المشكلات” على الانتخابات التركية؟



تكتسب الانتخابات التركية المقرر لها في 14 مايو المقبل، أهميتها ليس فقط من كونها تمثل اختباراً واضحاً لتوازنات القوى السياسية المختلفة، خاصة أنها تأتي في ظل صعود زخم المعارضة، وقدرتها على تحقيق اختراق واسع في الشارع التركي خلال الفترة الأخيرة على حساب حزب العدالة والتنمية الحاكم، وإنما أيضاً من حيث إنها جاءت في توقيت تتجه فيه تركيا نحو إعادة صياغة علاقاتها الخارجية، من خلال تصفير قضاياها الخلافية مع محيطها الإقليمي، وهو ما تجلى في التطور اللافت في العلاقة مع القاهرة والرياض وأبو ظبي، فضلاً عن السعي لحل الملفات الشائكة مع واشنطن.

ويبدو أنّ توجّه أنقرة نحو معالجة التوتر الحادث في علاقاتها الخارجية، والذي وصل إلى مستوى غير مسبوق خلال المرحلة الماضية، لا ينفصل عن الاستحقاق الانتخابي المقبل، الذي يشهد منافسة حامية الوطيس بين أردوغان وخصومه. وكانت المعارضة التركية قد نجحت نسبياً في توظيف ملف العلاقات الخارجية، وحالة التردي في علاقات أنقرة مع القوى الغربية، وبخاصة واشنطن والاتحاد الأوروبي، لتعزيز ضغوطها على حكومة حزب العدالة والتنمية، وتشويه صورتها في الوعي الجمعي التركي. ويُثير هذا الترابط الواضح تساؤلات عديدة حول تداعيات الانتخابات الراهنة على اتجاهات السياسة الخارجية التركية خلال المرحلة القادمة.

تحركات لافتة

كان الترابط بين الانتخابات التركية، والتحرك نحو معالجة ملفات السياسة الخارجية، واضحاً في توجهات القوى المتنافسة بالانتخابات، والتي يمكن بيانها على النحو التالي:

1- معالجة القضايا الخلافية مع السعودية والإمارات وإسرائيل: اتجه الرئيس التركي قبل أشهر من الاستحقاق الانتخابي المقبل نحو تسكين أوجاع الأزمات مع دول الإقليم، من خلال حل القضايا الخلافية، وتعزيز مساحات التفاهمات حيال القضايا الشائكة، وهو ما ظهر في تعزيز النمط التعاوني مع دول المنطقة، وبخاصة السعودية والإمارات وتل أبيب. ويُشار إلى أن الرئيس أردوغان قال في تصريحات له، في 5 ديسمبر الماضي: “إن بلاده ستزيد من أصدقائها”. ويرتبط تصحيح مسار السياسة التركية تجاه دول الإقليم في جانب منه، بالتراجع الحادث في مؤشرات الاقتصاد التركي، والتدهور الحادث في سعر العملة المحلية، وصعود معدلات التضخم لمستويات قياسية، وهو ما انعكس في تراجع شعبية الرئيس أردوغان وحزب العدالة والتنمية، ليس فقط في الشارع التركي وإنما في أوساط قواعده الانتخابية التقليدية.

2- توسيع خيار التهدئة مع مصر وتونس وسوريا: ويأتي في مقدمتها تعزيز التهدئة مع القاهرة، والذي بدأ مع إلزام المنصات الفضائية التي تبث من إسطنبول وتناهض القاهرة بميثاق الشرف الإعلامي، وترحيل أخرى خارج تركيا، بالإضافة إلى نقل المحادثات الاستكشافية بين البلدين من مستواها الأمني إلى جانبها الدبلوماسي، وهو ما ظهر في الزيارات المتبادلة على مستوى وزيري الخارجية، وتصاعد الحديث عن فرص عودة السفراء خلال المرحلة المقبلة بالتوازي مع إعادة صياغة السياسة التركية مع دول المغرب العربي، وبخاصة تونس، حيث كشفت التحركات التركية الأخيرة، ومنها الإقرار بشرعية البرلمان التونسي الجديد، والتعامل بحذر مع قضية اعتقال الغنوشي، عن أن الرئيس أردوغان مستمر في تصفير مشاكل بلاده الخارجية. في سياق متصل، شرعت أنقرة قبل العملية الانتخابية في مد جسور الثقة مع دمشق، وقطع شوط معتبر على صعيد إعادة تطبيع العلاقة، وذلك في إطار سعي الرئيس التركي للتخلص من ملف اللاجئين السوريين، وهو الملف الذي تحول إلى ورقة انتخابية ضاغطة بيد خصومه السياسيين.

3- معالجة التوتر مع دول الجوار وخاصة اليونان: في إطار اتجاه أنقرة إلى تحسين علاقاتها مع العديد من القوى الإقليمية في المنطقة، سعت إلى تهدئة التوتر مع دول الجوار، وفي الصدارة منها اليونان، حيث يتواجد عدد معتبر من الأتراك ذوي الأصول اليونانية، ويقدر عددهم بحسب تقديرات يونانية بما يقرب من 100 ألف، ويتركز معظمهم في إسطنبول وأزمير وأنقرة. وتشكل الأقلية اليونانية في تركيا أولوية مهمة في الانتخابات المقبلة، خاصة في ظل اشتداد المنافسة بين الحزب الحاكم والمعارضة، بالإضافة إلى أن اليونانيين الأتراك يقومون بدور مهم في الحركة التجارية بتركيا، ولديهم عدد واسع من المؤسسات التجارية والصناعية، ويمكنهم التأثير على القواعد العمالية التي تنشط معهم.

4- الانخراط في التهدئة مع اشنطن والاتحاد الأوروبي: سعت تركيا خلال الآونة الأخيرة نحو تعزيز مساحات التهدئة مع القوى الغربية، وبخاصة واشنطن والاتحاد الأوروبي، وبدا ذلك في توظيف تطورات الأزمة الأوكرانية، حيث أكدت أنقرة رغم رفضها للعقوبات الغربية على موسكو، على إدانة التحركات الروسية ضد كييف. كمااتجهت أنقرة –في الوقت الحالي– إلى تعزيز وساطتها بين موسكو وكييف، وبخاصة فيما يتعلق بصادرات الحبوب الأوكرانية. في المقابل، وافقت أنقرة مؤخراً على عضويه فنلندا بحلف الناتو، كما وعدت بتمرير عضوية السويد حال تسوية القضايا الخلافية بين أنقرة وأستكهولم. كما كشفت أنقرة على لسان عدد من مسؤولي الصناعات الدفاعية في مارس الماضي عن أنها قد لا تحتاج إلى دفعات أخرى من منظومة الدفاع الروسية S400، بعدما قطعت شوطاً على صعيد صناعاتها الدفاعية المحلية.

الأرجح أن التحركات التركية المغايرة تجاه القوى الغربية، تأتي في سياق تحقيق انتصارات داخلية لحزب العدالة والتنمية قبل الاستحقاق الانتخابي المقبل، وتحقيق جملة من المكاسب مع الأطراف الغربية يمكن توظيفها في تحشيد القواعد العلمانية لمصلحة الرئيس أردوغان وحزبه. وكان بنك الاستثمار الأوروبي، الجهة المعنية بالإقراض في الاتحاد الأوروبي، قد أعلن في مارس الماضي عن موافقته على تقديم 500 مليون يورو لدعم جهود إعادة الإعمار في تركيا في أعقاب الزلزال المدمر، ليضع حداً لحظر شبه كامل كان قد فرضه منذ أربع سنوات على تقديم مساعدات مالية لتركيا بسبب تحركاتها شرق المتوسط للتنقيب عن مكامن الطاقة. كما أبدت واشنطن بجسب تصريحات المتحدث الرسمي باسم الرئاسة التركية، إبراهيم قالن، في 15 أبريل الجاري، مرونة كبيرة بشأن بيع طائرات F16 الأمريكية لبلاده.

في سياق متصل، أبدى الغرب تعاطفاً لافتاً مع تركيا عشية أحداث الزلزال المدمر في 6 فبراير الماضي، فقد أجرى الرئيس الأمريكي “جو بايدن” اتصالاً هاتفياً مع نظيره التركي فور وقوع الزلزال، وأكد دعم بلاده لأنقرة، ثم قدم 85 مليون دولار مساعدات إنسانية لتركيا، كما قدم عددٌ كبير من الدول الأوروبية مساعدات لأنقرة، وأعلن الاتحاد الأوروبي عن دعم سياسة الإعمار في تركيا بما يقرب من مليار دولار.

وهنا، فإن التهدئة قد أضافت مكسباً جديداً للرئيس التركي قبل الاستحقاق الانتخابي المقبل. فمع أن ثمة ملفات عالقة بين الطرفين إلا أن سعي أنقرة في الفترة الماضية لاحتواء هذا الخلاف، قد يمثل نقلة نوعية لإقناع الناخب التركي بجدوى تحركات حكومة العدالة والتنمية نحو تطوير العلاقات التركية مع الغرب من دون التخلي عن المصالح الاستراتيجية لأنقرة.

تثبيت التوجه

في ضوء أهمية ملف العلاقات الخارجية في السياسة التركية، فمن المتوقع أن تواصل التحالفات الانتخابية للقوى السياسية في تركيا توظيف ملف العلاقات الخارجية في الانتخابات المقبلة، ويمكن القول إن الطاولة السداسية التي تجمع أطياف المعارضة، يتوقع أن تتجه نحو زيادة الاستثمار في الارتدادات السلبية التي أفرزتها السياسة الخارجية لحزب العدالة والتنمية، وفي الصدارة منها أزمة اللاجئين السوريين، والتوتر الحادث في علاقات أنقرة مع الغرب، حيث من المتوقع أن يتجه الرئيس أردوغان وحزب العدالة والتنمية إلى تثبيت التحولات التي بدأت قبل شهور، والتي تركز على تصفير القضايا الخلافية بين أنقرة ومحيطها الإقليمي والدولي، بالإضافة إلى استثمار التوافق الحادث بين تركيا وبعض عواصم الإقليم، ومنها أبو ظبي والرياض وتل أبيب، بشكل أكبر لإثبات مرونة السياسة الخارجية التركية من جهة، ومن جهة أخرى التعاطي مع طموحات الكتل الانتخابية التي كانت قد وجهت انتقادات حادة للتوجهات التركية خارجياً.

في المقابل، قد تسعى المعارضة في إطار استثمار الملفات الخارجية في العملية الانتخابية المقبلة، إلى ممارسة ضغوط أكبر على الرئيس التركي وحكومة حزب العدالة والتنمية من أجل اتخاذ مزيد من الإجراءات التي تحد من الانخراط التركي في جانب معتبر من صراعات الإقليم، وكذلك تأكيدها على أن هذا الانخراط لم يسفر عن إنتاج مصالح حقيقية لتركيا. وهنا، ربما يتعمد الحزب الحاكم الإسراع في تثبيت توجهاته الجديدة، سواء حيال دول الإقليم أو القوى الغربية، من أجل تعزيز قدرته على إيصال رسالة للناخب التركي مفادها أن تحولات السلطة الحاكمة حيال إعادة صياغة العلاقات الخارجية، يرتبط بالأساس بحماية المصالح التركية.

ختاماً،

يمكن القول إن التحولات التي شهدتها السياسة الخارجية التركية ترتبط في جانب منها بالاقتراع المقرر له 14 مايو المقبل، وأن انخراط الرئيس أردوغان وحزبه، وكذلك المعارضة، في استثمار ملف علاقات تركيا الخارجية، يرتبط بالتفاعلات الانتخابية في الداخل.