كسر عظم:
أبعاد الاستقطاب الحاد قبل الانتخابات التركية

كسر عظم:

أبعاد الاستقطاب الحاد قبل الانتخابات التركية



مثل الاستقطاب والتشظي السياسي أهم ملامح العملية الانتخابية التي من المقرر إطلاقها في تركيا خلال أيام، ووصل الاستقطاب للذروة بعد الهجوم والهجوم المضاد بين التحالف الحاكم وقوى المعارضة، والذي وصل إلى حد الاشتباك الجسدي. ويبدو أن ثمة مؤشرات عدة تكشف عن حدة الاستقطاب، ووصوله للذروةـ وفي الصدارة منها إصرار كل طرف على تشويه الآخر، وكثافة الإنفاق على الحملات الانتخابية، فضلاً عن التشكيك في ولاء كل طرف.

إذ تشهد تركيا استقطاباً سياسياً حاداً، وتصريحات وتصريحات مضادة بين القوى المتنافسة مع قرب انعقاد الانتخابات التشريعية والرئاسية المقرر لها 14 مايو الجاري. ووصل التشظي السياسي في البلاد الذروة، مع قلق حزب العدالة والتنمية من عدم القدرة على حسم الانتخابات بسبب التراجع الحادث في مؤشرات الاقتصاد الذي ظل المحدد الرئاسي لتصويت الناخبين الأتراك لمصلحة العدالة والتنمية طوال السنوات التي خلت.

في المقابل، تتصاعد حظوظ مرشح طاولة الستة كمال كليجدار أوغلو في المنافسة على منصب رئيس الدولة، بعد أن صارت أكبر من أي وقت مضى، في ضوء إعلان حزب الشعوب الديمقراطي التصويت له، بالإضافة إلى زخم المعارضة أوساط الأقلية العلوية، وقطاع واسع من الشباب، علاوة على سعي المعارضة العلمانية لاستمالة أصوات الكتلة المحافظة، بعد تعهد كليجدار أوغلو حال فوزه بسن قانون يؤكد على حق ارتداء الحجاب. 

أهمية الاقتراع

تحظى الانتخابات التشريعية والرئاسية التركية الراهنة بأولوية استثنائية من بين كل الانتخابات التي شهدتها البلاد طوال العقود التي خلت، فبالإضافة إلى كونها تتزامن مع مرور مائة عام على قيام الجمهورية العلمانية التركية التي أسسها أتاتورك، فإنها في المقابل تتمتع بأهمية حاسمة لحزب العدالة والتنمية وحليفه الحركة القومية، وكذلك لتيار المعارضة الذي ينضوي تحت تحالف الأمة، وبالتالي ستشهد صراعاً على أشده بينهما، إذ تسعى المعارضة التركية للسيطرة على البرلمان، والحصول على أغلبية مريحة تضمن لها إذا ما خسرت المقعد الرئاسي، بغرض حشد نوابها لطرح عودة البلاد إلى جهة النظام البرلماني. ومن ناحية أخرى، يحرص التحالف الحاكم على ضمان استمرار هيمنته على البرلمان لعرقلة محاولات إلغاء النظام الرئاسي، وتفادي الدخول في حكومة ائتلافية قد تحد من سياسات العدالة والتنمية، أو تؤدي إلى تغيير بوصلتها. ويدرك أردوغان أن فوزه بالرئاسة من دون البرلمان قد يعزز من ضغوط خصومه على تحركاته، وربما يدفعه نحو مهادنة المعارضة أو الرضوخ لها في بعض الملفات الخلافية معها.

بالتوازي، تمثل الانتخابات التركية الراهنة مؤشراً على شعبية أردوغان وحزب العدالة والتنمية في الشارع التركي، ونظراً لتأكيد العديد من استطلاعات الرأي تراجع شعبية الرئيس أردوغان بسبب تدهور الأوضاع المعيشية، والممارسات السلطوية في الداخل، إضافة إلى ضعف مناعة تركيا إقليمياً ودولياً خلال السنوات الأخيرة، وهو ما ظهر في توتر علاقاتها مع عدد واسع من الدول، وفي الصدارة منها واشنطن، وعدد من دول الاتحاد الأوروبي؛ لذلك فإن نتائج الانتخابات الحالية قد تكون مؤشراً على مدى شعبية أردوغان وتحالفه في الداخل التركي.

على صعيد ذي شأن، تعتبر هذه الانتخابات اختباراً حقيقياً للمعارضة التركية، ومدى قدرتها على النجاح في تجاوز خلافاتها، وتوحيد هدفها. كما أنه لا يمكن إغفال أن النتائج التي ستفرزها العملية الانتخابية ستكون مؤشراً حقيقياً على الوزن الفعلي للمعارضة بين المواطنين الأتراك، ومدى تمكنها من تجذير حضورها في الشارع، والاشتباك مع هموم المواطن، وكذلك إثبات قدرتها على إعادة سيناريو الانتخابات المحلية 2019 عندما فازت بغالبية البلديات الكبرى، ومنها إسطنبول وأنقرة وأنطاليا وأزمير وغيرها.

إضافة لما سبق، فإن هذه الانتخابات ستبدو كاشفة عن مدى شعبية حزب الشعوب الديمقراطي، والأقلية العلوية، وجيل Z، وقدرة هذه الفئات على التأثير في مجربات المشهد الانتخابي، لا سيما وأن جانباً واسعاً من هذه الكتل التصويتية أبدى انحيازاً لافتاً لمصلحة المعارضة التركية.

مؤشرات الاستقطاب

ثمة العديد من المؤشرات التي تكشف عن تصاعد حدة الاستقطاب في الانتخابات الحالية، وحدة التنافس بين القوى المشاركة، وهو ما يمكن بيانه على النحو التالي:

1- مهاجمة المعارضة العلمانية: شن الرئيس التركي طوال الأسابيع التي خلت هجوماً حاداً على طاولة الستة المعارضة بصفة عامة، وعلى كمال كليجدار أوغلو بصفة خاصة، حيث قال في مارس الماضي: “هؤلاء (طاولة الستة) عار على الإنسانية… دعونا نرى أي نوع من الخزي ينتظرهم في الأيام المقبلة. لقد قلت عنهم قبل ذلك إنهم جلسوا وتحدثوا ثم تفرقوا”. كما استهدف في 3 أبريل الماضي كليجدار أوغلو، على خلفية وقوفه بالحذاء على سجادة صلاة، وسعى أردوغان إلى استثمار هذه الواقعة بعناية، حيث قال: “لم يتبقَّ سوى 40 يوماً وخلال تلك الفترة قد يسير البعض بأحذيتهم فوق سجاد الصلاة. إنهم يتلقون تعليماتهم من بنسلفانيا، وبالنسبة لهم هذا الأمر شرعي وقد يفعلونه”. كما حرص أردوغان على اتهام أوغلو بالخيانة والعمالة، حيث وصفه بأنه متحالف مع “مدبري الانقلابات والوصاية والإمبريالية العالمية”.

اتهامات أردوغان لخصومه لم تقتصر على ما سبق، ففي 8 مايو الجاري، وخلال مؤتمر انتخابي في إسطنبول، اتهم أوغلو بــ”المخمور”، وأضاف: “لن يسمح شعبي للسكارى والمغيبين باجتذاب أنظار الناس. سيد كمال، يمكنك أن تشرب منه براميل (الخمر). لا شيء سيشفيك”. كما اتهم المعارضة بدعم المثليين، وتابع: “حزب العدالة والتنمية والأحزاب الأخرى في تحالفنا لن تؤيد أبداً مجتمع الميم لأن الأسرة مقدسة بالنسبة لنا”.

2- تشويه الصورة الذهنية لأردوغان وتحالفه الانتخابي: سعت المعارضة بدورها إلى تشويه الصورة الذهنية للرئيس أردوغان، والذي تصفه بالمستبد، وظهر ذلك في توظيف كليجدار أوغلو مقاطع فيديو بثها أحد المقربين السابقين من أردوغان في 7 مايو الجاري، وكشف فيها عن تربح أردوغان عندما كان رئيساً للوزراء بنحو مليار دولار من مناقصة عام 2007، تتعلق بأعمال مشروع إنشاء “مطار أنطاليا” جنوب تركيا.

لم يكن هذا الاتهام هو الأول من نوعه، ففي 2 مايو الجاري اتهم كليجدار أوغلو أردوغان بالتفريط في تركيا، وأنه لم يستطع أن يحمي البلاد من الإرهابيين. كما اتهمت المعارضة الرئيس التركي بتدمير الاقتصاد من خلال إصراره على الإمساك برسم السياسة النقدية، والتدخل في عمل البنك المركزي.

بالتوازي، سعت المعارضة إلى توظيف كارثة زلزال 6 فبراير الماضي لتشديد الضغوط على التحالف الحاكم، فقد حرصت على تكثيف سهام النقد لسير عمليات الإنقاذ، والغياب الحكومي عن ميدان الكارثة في البداية، كما طالبت بالكشف عن مصير إنفاق “ضريبة الزلازل” التي تحصلها البلديات التركية، ناهيك عن مطالبتها بضرورة محاسبة شركات المقاولات التابعة للحكومة التركية التي كانت لها صلة بالمباني المدمرة، لأنها لم تراعِ المعايير العالمية في البناء.

3- زيادة وتيرة العنف الانتخابي: وصل الاستقطاب الانتخابي إلى مستوى غير مسبوق بين أنصار الرئيس التركي، والداعمين للمعارضة التركية سواء داخل تركيا أو مراكز تصويت الناخبين الأتراك بالخارج. فعلى سبيل المثال، شهدت مراكز اقتراع في العاصمة الهولندية أمستردام اشتباكاً بالأيدي، وهو ما استدعى الشرطة الهولندية للتدخل لفض الاشتباك. كما تم الاعتداء على مؤتمر انتخابي نظمته المعارضة التركية بحي أرضروم بمدينة إسطنبول في 7 مايو الجاري، بحضور أكرم إمام أوغلو، حيث قام أشخاص مجهولون بإلقاء الحجارة عليه، وأنصار المعارضة، وهو ما اعتبرته المعارضة استفزازاً من قبل أنصار الرئيس التركي، وأشارت إلى أن ذلك يكشف عن حالة الارتباك والقلق التي تعتري التحالف الحاكم.

على صعيد ذي شأن، وصل العنف الانتخابي للذروة في الشهور الثلاثة التي خلت، وكشف عن ذلك حوادث الاعتداء على المقرات الحزبية سواء التابعة للمعارضة أو التحالف الحاكم، وهو ما ساهم في إثارة مخاوف القواعد الانتخابية، وزاد من حدة الاستقطاب في الداخل التركي، خاصة في ظل تصاعد التهديدات والتهديات المضادة بتصفية الخصوم، ففي الوقت الذي توعدت المعارضة فيه بمحاكمة أردوغان ودوائر السلطة المقربة منه، وهدد أنصار الرئيس التركي المواطنين الكرد حال دعمهم كليجدار أوغلو.

4- التوسع في النفقات الانتخابية: شهدت الانتخابات التركية الراهنةوفقاً لبعض التقديرات، الكثير من أوجه الأنفاق، والذي وصل إلى مستوى غير مسبوق، وذلك في إطار حرص المتنافسين على السيطرة على المقعد الرئاسي والغالبية البرلمانية. ففي الوقت الذي اتجه الرئيس التركي إلى التوسع في مؤتمراته الانتخابية، وحنلات الدعاية، قرر زيادة الأجور بنحو 50 في المائة، بالإضافة إلى تخفيض الضرائب، وتأجيل استحقاقات المواطنين للبنوك. ومن جهته، كثفت المعارضة من المؤتمرات الجماهيرية، واللقاءات الشعبية في مناطق مختلفة في البلاد.

5- تفجير الانتماءات الدينية والطائفية: ظهر بصورة لافتة في الانتخابات التركية الحالية، ولأول مرة انفجار الهويات الأولية، وتجلى ذلك في إعلان مرشح المعارضة عن انتمائه للطائفة العلوية، حيث نشرفيديو قال فيه “أنا علوي”. كماخصّص فيديو آخر للكُرد، وقال عنهم “إنهم جزء من هذا الوطن، ولا يحق لأحد أن يقول عنهم إنهم إرهابيون”. في المقابل، سعى حزب العدالة والتنمية، وفي إطار تحفيز قواعده التصويتية من المحافظين والمتدينين، إلى اعتبار بعض المحسوبين على السلطة أن التصويت للمعارضة التركية، هو تصويت للكفر. كما اعتبر آخرون أن دعم المعارضة هو ترسيخ لإرهاب حزب العمال الكردستاني، وتصاعدت هذه الدعاوى بعد إعلان حزب الشعوب الديمقراطي الجماح السياسي للأكراد التصويت رسمياً لمرشح طاولة الستة.

في الختام، يمكن القول إنه مع اقتراب الاستحقاق الانتخابي المقرر لها 14 مايو الجاري، سيزداد الاستقطاب الحزبي بين التحالف الحاكم، وطاولة الستة المعارضة والداعمين لها، خاصة مع استمرار الهجوم والهجوم المضاد بين الرئيس أردوغان وخصومه.