دفع التطبيع:
لماذا جرى لقاء جاويش أوغلو – المقداد في موسكو؟

دفع التطبيع:

لماذا جرى لقاء جاويش أوغلو – المقداد في موسكو؟



احتضنت موسكو، في 10 مايو الجاري، أول اجتماع رسمي بين وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو ونظيره السوري فيصل المقداد، منذ اندلاع الحرب السورية عام 2011، وبمشاركة وزيري خارجية موسكو وطهران. وركّز الاجتماع على الملفات الخلافية، بالإضافة إلى توافق الطرفين على اقتراح روسي ببناء خارطة طريق لمعالجة القضايا ذات الأولوية لدى أنقرة ودمشق، ومنها مكافحة الإرهاب، وترتيبات عودة اللاجئين، فضلاً عن وضعية القوات العسكرية التركية داخل الأراضي السورية.

توقيت لافت

جاء اجتماع أوغلو والمقداد مع تطورات محلية وإقليمية مغايرة، أبرزها الانتخابات التركية التي تشهد منافسة غير مسبوقة بين التحالف الحاكم والمعارضة السياسية، ومثلت سوريا وقضية اللاجئين السوريين إحدى أبرز قضايا الانتخابات التركية الحالية، وتجلى ذلك في التصريحات التي أطلقها مرشح الطاولة السداسية في 8 مايو الجاري، عندما قال إنه حال فوزه “سيرحّل الإخوة السوريين في غضون عامين”.

كما تزامن الاجتماع مع انفتاح عربي واسع على سوريا، على خلفية قرار مجلس وزراء الخارجية العرب، الذي تم التوافق عليه بمقر الجامعة العربية بالقاهرة في 7 مايو الجاري، وتضمن استعادة سوريا مقعدها بجامعة الدول العربية والعودة إلى حاضنتها العربية، ومشاركتها في القمة العربية المقرر لها 19 مايو الجاري بالعاصمة السعودية الرياض.

بالتوازي مع ما سبق، جاء اللقاء في ظل استمرار القضايا الخلافية بين أنقرة ودمشق، فبينما تصر الثانية على ضرورة سحب أنقرة قواتها العسكرية من سوريا، وهو ما أكده الرئيس الأسد عشية زيارته لموسكو في مارس الماضي، حيث أكد على ضرورة أن يكون هناك اتفاق على وضع جدول أعمال واضح يقوم على انسحاب القوات التركية من مناطق شمال سوريا؛ فإن أنقرة من جهتها تطالب بإحياء العملية السياسية وضمان تمثيل المعارضة السورية وعودة اللاجئين، ناهيك عن أهمية تقديم دمشق الدعم المطلوب بشأن مكافحة التنظيمات الكردية، وبخاصة وحدات سوريا الديمقراطية “قسد” وأذرع حزب العمال الكردستاني وخلاياه في سوريا.

دلالات متنوعة

يطرح لقاء وزير الخارجية التركي ونظيره السوري، ومواصلة جهود التطبيع بين البلدين برعاية روسية إيرانية، العديد من الدلالات، التي يمكن بيانها على النحو التالي:

1- إعطاء دفع للتحالف الحاكم قبل الاقتراع: يعد هذا الاجتماع بمثابة دفعة دبلوماسية للرئيس رجب طيب أردوغان قبل أيام من الانتخابات المقرر لها 14 مايو الجاري، والتي تعد الأصعب من بين كل الانتخابات التركية. ويراهن التحالف الحاكم على قطع شوط معتبر في تطوير العلاقة مع دمشق، وذلك في إطار التأكيد على عودة أنقرة إلى نظرية “صفر مشاكل”، لا سيما وأن ثمة قطاعات معتبرة في الداخل التركي كانت قد انتقدت سلوك حكومة العدالة والتنمية بشأن التفاعل مع تطورات الأزمة السورية، وإصرار الرئيس أردوغان على وصول العلاقة مع دمشق إلى حدّ القطيعة من دون مقابل أو جني أرباح حقيقية لتركيا. وفي هذا السياق، يحاول التحالف الحاكم في تركيا تعويض شعبيته التي شهت تراجعاً لافتاً خلال الأعوام الثلاثة التي خلت، من خلال الاستثمار في ملف العلاقات الخارجية لتركيا، خاصة مع دمشق التي تمثل عمقاً استراتيجياً للدولة التركية.

2- قطع الطريق على الخصوم السياسيين لأردوغان: لا ينفصل لقاء وزير الخارجية التركي ونظيره السوري، عن سعي حزب العدالة والتنمية إلى قطع الطريق على خصومه السياسيين، الذين طالموا يحاولون توظيف القضية السورية لمصلحتهم، إذ تدرك المعارضة التركية أهمية المصالحة مع سوريا باعتبار ذلك أقصر الطرق لعودة اللاجئين السوريين الذين تحولوا إلى كرة نار ضاغطة بشدة، ليس فقط على أعصاب الاقتصاد التركي، وإنما على السياق الاجتماعي والنفسي للأتراك، وهو ما ظهر في حوادث العنف التي شهدتها تركيا خلال الفترة الأخيرة بين لاجئين سوريين ومواطنين أتراك. وتعتبر المعارضة التركية أن سياسة الباب المفتوح التي تبناها أردوغان تجاه السوريين كانت أحد العوامل الرئيسية في تدهور أوضاع الاقتصاد التركي، وكذلك تراجع مستويات المعيشة في البلاد.

3- محاصرة التيارات الكردية في سوريا: استهدف لقاء مولود جاويش أوغلو مع نظيره السوري في جانب معتبر منه، تعزيز مساحات التوافق بين أنقرة ودمشق لتعزيز الضغوط على حزب العمال الكردستاني، وقوات سوريا الديمقراطية “قسد” في شمال سوريا. وكانت المخاوف التركية قد تصاعدت مؤخراً بعد الزيارة غير المعلنة التي أجراها رئيس هيئة الأركان الأمريكية الجنرال مارك ميلي، في 4 مارس 2023، لمناطق سوريا الديمقراطية.

ولذلك، تعتقد أنقرة أن محاصرة التيارات الكردية في سوريا، ومنع تمددها في الإقليم، يدفع نحو أهمية توسيع الترتيبات مع دمشق. وهنا، يمكن فهم إصرار تركيا على عدم الانخراط في تطبيع كامل مع دمشق من دون الحصول على تعهدات سورية رسمية تدعم حق أنقرة في التدخل بالأراضي السورية لمحاربة تنظيم حزب العمال الكردستاني، وأذرعه في سوريا، وكذلك ضرورة اتخاذ نظام الأسد إجراءات عملية على الأرض تضمن محاصرة التيار الكردي في الداخل السوري.

وربما تكتسب تلك المساعي التركية أهميتها لدى دمشق في هذا التوقيت، في ضوء إبداء تركيا تأكيداً على الحفاظ على وحدة الأراضي السورية، وإمكانية ترتيب لقاء رئاسي بين الأسد وأردوغان، وهو ما يعني تخلي أنقرة عن نهجها القديم، والذي ظل لأكثر من عقد يرتكز على ضرورة إسقاط الأسد. والأرجح أن هذا التوجه التركي الجديد يلقى قبولاً لدى نظام الأسد الذي يرى أن استعادة العلاقة مع أنقرة فرصة لتعويض ضعف مناعته في الإقليم من جهة، ومن جهة أخرى موازنة ضغوط واشنطن التي أبدت معارضة قوية بشأن التطبيع التركي السوري، واشترطت لعودة سوريا لمحيطها الدولي والإقليمي ضرورة تسوية سياسية للأزمة السورية، وإجراء انتخابات جديدة برعاية الأمم المتحدة.

4- الرغبة في دفع العلاقات الثنائية: يكشف اللقاء الذي جمع بين أوغلو والمقداد في موسكوعن رغبة الطرفين التركي والسوري في استكمال الجهود لتجاوز القضايا الخلافية والملفات الشائكة، والتي تمثل حجر عثرة أمام التطبيع الكامل بينهما، حيث يتوقع أن يسفر هذا اللقاء عن توفير أجواء مغايرة، وتوفير بيئة خصبة للقاء يجمع الرئيس أردوغان ونظيره السوري خلال الشهور المقبلة. على صعيد متصل، تعتبر أنقرة التي تعاني من أزمة اقتصادية غير مسبوقة أن دفع العلاقات مع دمشق يمكن أن يوفر فرصاً أكبر لعودة المنتجات التركية إلى سوريا التي كانت تُعد من أهم الأسواق المستهلكة للسلع التركية. وفي المقابل، يمكن أن تستفيد دمشق من دور تركي في عمليات إعادة إعمار سوريا التي يتوقع أن تتم خلال المرحلة المقبلة، خاصة بعد عودة سوريا للجامعة العربية، وتقديم أطراف عربية وعوداً بالمساعدة في إعادة بناء الدولة السورية.

5- ترسيخ الدور الروسي الإيراني على الساحة السورية: هدفت موسكو وطهران من رعايتهما للقاء وزير الخارجية التركي ونظيره السوري إلى تأكيد حضورهما على الساحة السورية، خاصة في ظل عودة الانخراط الأمريكي المكثف إلى الساحة السورية. كما سعت روسيا وإيران عبر هذا اللقاء إلى موازنة الضغوط الغربية عليهما في القضايا الخلافية، سواء المتعلقة بالتشدد الغربي إزاء البرنامج النووي الإيراني، والاستمرار في الانتقادات للممارسات السياسية في الداخل الإيراني. أما روسيا، فبدورها تراهن على بناء اصطفاف إقليمي يعزز من قدرتها على مواجهة الضغوط الغربية عليها في الصراع الروسي الأوكراني. وفي المقابل، يُعد اللقاء بين وزير خارجية تركيا ونظيره السوري في موسكو وبحضور إيران، رسالة للغرب مفادها أن الجهود الروسية الإيرانية لتعزيز التقارب بين أنقرة ودمشق دليلٌ على قدرة البلدين على التأثير في صراعات الإقليم، وفرض رؤية مغايرة على خلاف ما تريده واشنطن وحلفاؤها الأوروبيون.

ورقة رابحة

في النهاية، يمكن القول إن لقاء وزير خارجية تركيا ونظيره السوري يمكن أن يعطي دفعة أكبر لمسار التطبيع بين البلدين، لكن الأهم أن هذا اللقاء يمثل ورقة رابحة قد يسعى الرئيس أردوغان إلى استثمارها لمصلحة تعبئة الداخل التركي للتصويت لتحالفه الانتخابي قبل الاقتراع الساخن في 14 مايو الجاري.