تعزيز الهيمنة:
أبعاد فوز أردوغان بالانتخابات الرئاسية التركية

تعزيز الهيمنة:

أبعاد فوز أردوغان بالانتخابات الرئاسية التركية



انتهت الجولة الثانية من الانتخابات التركية بفوز الرئيس أردوغان بنسبة 52.43 في المائة من مجموع الأصوات مقابل 45.57 في المائة لمصلحة مرشح الطاولة السداسية، وحملت تلك النتيجة عدة دلالات، أبرزها تأكيد الثقة المجتمعية في النخب السياسية التقليدية، وتصاعد التيار القومي في الساحة الداخلية، واستمرار التأثير المعاكس للأوضاع الاقتصادية، ورفض الناخب التركي الخطاب العنصري لمرشح الطاولة السداسية، وتوظيف واستثمار الغضب من تحالف مرشح الطاولة مع الشعوب الديمقراطي. وقد يترتب على فوز أردوغان عدة تداعيات منها: استمرار الانعطافة شرقاً في السياسة الخارجية التركية، ومواصلة نهج التهدئة في الشرق الأوسط، وموازنة الخلافات مع القوى الغربية، واتباع سياسات أقل تشدداً في ملف اللاجئين، وممارسة سياسات أكثر تشدداً تجاه الأكراد.

على عكس جميع استطلاعات الرأي التي أُجريت في الشهور الأخيرة، أظهرت النتائج النهائية لانتخابات الرئاسة التركية التي أجريت جولتها الثانية في 28 مايو الجاري، التي أعلنتها لجنة الانتخابات، فوز الرئيس أردوغان على مرشح الطاولة السداسية كمال كليجدار أوغلو، بعد حصوله على 52.43 في المائة من مجموع الأصوات مقابل 47.57 في المائة من الأصوات لمرشح المعارضة، وهو ما يسمح بتعزيز هيمنة التحالف الحاكم الذي يقوده العدالة والتنمية على مفاصل المشهد في البلاد، خاصة أن تحالف الشعب حصل على 322 مقعداً مقابل 212 مقعداً لتحالف الأمة المعارض.

كماتمكن “أردوغان” من حصد الأغلبية في نحو أكثر من 50 ولاية تركية من أصل 81 ولاية، وقد جاء مرشح الطاولة السداسية كمال كليجدار أوغلو في المرتبة الثانية. وشهدت الجولة الثانية مشاركة كثيفة، حيث وصلت بحسب وكالة الأناضول إلى 83.99 في المائة من أصل 60 مليون و697 ألفاً و98 ناخباً، وهي المشاركة الأكبر عالمياً، ويرتبط ارتفاع مستوى المشاركة في جانب منه بحدة الاستقطاب السياسي بين المتنافسين، ودخول البلاد مرحلة الشحن السياسي طوال الشهور التي خلت.

دلالات كاشفة

حملت الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية التركية جملة من الدلالات، يمكن بيانها على النحو التالي:

1- تأكيد الثقة المجتمعية في النخب التقليدية: كشفت نتائج الانتخابات وفوز الرئيس أردوغان على منافسه مرشح الطاولة السداسية، أن الأتراك بعثوا رسالة واضحة لدعم الرئيس أردوغان وتحالف الشعب الحاكم. كما عبَّرت نتائج الانتخابات عن فرضية تصاعدت صحتها في السنوات الأخيرة لدى العديد من المراقبين، وهي أن الرئيس التركي برغم الانتقادات التي وُجهت له طوال الفترة الماضية إلا أنه لا يزال يحظى بشعبية كبيرة في الشارع التركي، وربما يرجع ذلك إلى أن العديد من الإنجازات التي شهدتها تركيا في قطاعات متعددة، وبالذات الصناعات الدفاعية، ومحورية الدور الإقليمي والدولي لتركيا، ارتبطت بشخص الرئيس أردوغان الذي يتولى السلطة منذ نحو عشرين عاماً.

2- تصاعد التيار القومي في الساحة الداخلية: أظهرت نتائج الانتخابات الرئاسية في تركيا عُمق التحولات التي شهدتها البلاد في السنوات الأخيرة وأدت إلى صعود التيار القومي المعادي للأكراد واللاجئين، وهو ما كشف عنه تسابق أردوغان ومنافسه مرشح الطاولة على أصوات المرشح القومي الخاسر سنان أوغان، وسعي الرئيس التركي لعقد صفقة معه انتهت بإعلان تحالف الأجداد الذي يقوده أوغان دعمه للرئيس أردوغان. ونجح الرئيس التركي أردوغان في تأمين جانب معتبر من أصوات القوميين، خاصة في ظل حفاظه على تحالفه مع حزب الحركة القومية، بالإضافة إلى نيل تأييد حزب الاتحاد الكبير.

3- استمرار التأثير المعاكس للأوضاع الاقتصادية: ألقت الأوضاع الاقتصادية الحادة، وتراجع مستويات المعيشة، وانخفاض القوة الشرائية، بأثرها على اتجاهات التصويت في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية، فكانتأحد الاعتبارات الرئيسية التي يمكن في ضوئها فهم فوز أردوغان بهامش غير كبير على منافسه، فقد شهد الاقتصاد التركي ارتفاعاً غير مسبوق في معدلات التضخم التي تجاوزت حاجز 85 في المائة، ناهيك عن تفاقم معدل البطالة، وخسارة العملة المحلية (الليرة) أكثر من ثلث قيمتها أمام الدولار، ما يعني أن بعض الأتراك صوَّتوا عقابياً ضد أردوغان الذي يقود بنفسه السياسة النقدية للبلاد في السنوات الأخيرة.

4- رفض الناخب التركي الخطاب العنصري لمرشح الطاولة السداسية: لا يمكن إغفال أن فوز الرئيس رجب طيب أردوغان في الجولة الثانية يدلل، بطريقة أو بأخرى، على رفض قطاع واسع من الناخبين الخطابَ العنصري الذي روج له مرشح الطاولة السداسية ضد اللاجئين، إذ رفض عدد من أنصار الأحزاب المشاركة في الطاولة السداسية، بخاصة “حزب المستقبل والديمقراطية والتقدم والسعادة”، مفردات خطاب كليجدار أوغلو ضد السوريين وضد المحافظين.

5- توظيف واستثمار الغضب من تحالف مرشح الطاولة مع الشعوب الديمقراطي: نجح أردوغان في استثمار إعلان حزب الشعوب الديمقراطي (الجناح السياسي للأكراد) دعمه لمرشح الطاولة السداسية في تبرير هجومه على الأكراد من جهة، ومن جهة أخرى تحشيد القواعد القومية والمحافظة لصالحه في الجولة الثانية. وسعى أردوغان خلال حملته الانتخابية في الجولة الثانية إلى تبني خطاب مناهض للأكراد، وظهر ذلك في إعلانه استمرار عمليات الجيش التركي ضد مقاتلي الكردستاني في شمال سوريا والعراق، ومواصلة العمل على تفكيك أوصال المشروع الكردي باعتباره يمثل خطراً على الأمن القومي لتركيا.

تداعيات محتملة

من المتوقع أن يساهم فوز أردوغان في إحداث تحولات في جانب معتبر من توجهات السياسة التركية الخارجية، وكذلك حسابات الداخل السياسي، ويمكن بيان ذلك على النحو التالي:

1- استمرار الانعطافة شرقاً في السياسة الخارجية التركية: كانت أنقرة من الدول التي تبنت موقف الحياد الإيجابي تجاه التدخل الروسي في أوكرانيا، وهو ما تجسَّد في معارضة أنقرة جميع العقوبات المفروضة على روسيا التي اقترحها الاتحاد الأوروبي، فضلاً عن تحركات الرئيس أردوغان للوساطة بين أطراف الأزمة، وهو ما عكسه نجاح أنقرة في حل أزمة تصدير الحبوب الأوكرانية.

وعلى الرغم من انتقاد تركيا الحملة العسكرية الروسية في أوكرانيا، فإن الرئيس التركي، بوجه عام، يرى خطأ العقوبات على روسيا، ويرى ضرورة الحوار والتعاون مع موسكو. وهنا، يمكن القول إن ثمة مؤشرات ترجح أن يحافظ أردوغان بعد فوزه بالسلطة على شراكة بلاده الوثيقة مع موسكو، ومنها انتقاد أردوغان (في 12 مايو الجاري) اتهامات للمعارضة التركية بشأن تدخل روسيا في الانتخابات الأخيرة. كما أن أنقرة لديها ارتباطات مصلحية مع موسكو، فإلى جانب مساهمة الثانية في بناء محطة “أكويو” التركية للطاقة النووية، وافق الرئيس الروسي (في أغسطس 2022) على اتفاق يقضي بدفع أنقرة جزءاً من ثمن الغاز الطبيعي لموسكو بالعملة الروسية المحلية الروبل.

2- مواصلة نهج التهدئة في الشرق الأوسط: من المُرجح أن يؤدي فوز الرئيس أردوغان بالسلطة لدورة ثالثة إلى تعزيز فرص التهدئة بين أنقرة ومحيطها الإقليمي، ولا سيما مع سعي أردوغان إلى تصفير المشاكل، وتجاوز القضايا الخلافية مع دول الإقليم. ومن ثم فإن الفترة القادمة قد تشهد المزيد من الاختراقات في الملفات الشائكة مع القاهرة واليونان وقبرص وأرمينيا، وتصاعد لهجة الود الموجهة تجاه دول الخليج، وبخاصة الإمارات والسعودية.

كما يُتوقع أن تتزايد فرص التطبيع بين أنقرة ودمشق. ويبدو أن العلاقات التركية-الإسرائيلية قد تشهد نقلة نوعية خلال المرحلة المقبلة، ولا سيما مع تبني تركيا مقاربة أقل تشدداً تجاه الممارسات القمعية التي تمارسها حكومة نتنياهو ضد الفلسطينيين في غزة، حيث اقتصر موقف أردوغان وحكومته على إدانة عملية “السهم الواقي” التي أطلقتها إسرائيل في 9 مايو الجاري مع الدعوة إلى ضبط النفس.

3- موازنة الخلافات مع القوى الغربية: على الرغم من التحالف الاستراتيجي الذي يجمع بين أنقرة والقوى الغربية، ومنها الولايات المتحدة، فإن فوز الرئيس أردوغان بالسلطة من المرجح أن يحمل معه صعوبة في تجاوز الملفات الشائكة مع أوروبا وواشنطن، حيث شهدت العلاقة بين أردوغان والدول الغربية خلافات واضحة. وتتمحور الخلافات بين الجانبين بشكل أساسي في رفض أنقرة الموافقة على انضمام السويد بحلف الناتو، ومعارضتها اللحاق بالعقوبات الغربية المفروضة على موسكو بسبب الحرب الروسية الأوكرانية، بالإضافة إلى أن الاتجاهات في علاقات تركيا مع القوى الغربية، وبخاصة واشنطن، تعكس تغييراً في التوجه الاستراتيجي العام لأنقرة، حيث سعت إلى استقلالية أكبر في العمل كقوة إقليمية داخل نظام عالمي متعدد الأقطاب.

ويُعزز هذا التوتر حالة الغضب التي تعتري التحالف الحاكم في تركيا من المقاربة الغربية تجاه الانتخابات التركية، وقناعة أردوغان بسعي القوى الغربية لإسقاطه في الانتخابات الأخيرة. فعلى سبيل المثال، اتهم وزير الداخلية التركي سليمان صويلو (في 12 مايو الجاري) واشنطن بالتدخل في الانتخابات التركية.

بيد أن هذا التوتر لا يعني وصول العلاقة إلى حد القطيعة، فقد تتعامل أنقرة ببراجماتية تضمن تعزيز استفادتها من القوى الغربية أو على الأقل تحييد الضغوط الغربية في القضايا الخلافية. إذ يعي أردوغان أن التحالف الغربي، وبخاصة الناتو، لا يزال يمثل ضمانة أمنية لتركيا، ولذلك ربما يسعى إلى موازنة علاقاته مع الغرب بما يدعم الاستفادة من مزاياه الجيوسياسية، وجذب مزيد من تدفقات الاستثمار الغربي الذي تشتد حاجة تركيا إليه. وتجدر الإشارة إلى أن تركيا تحولت بفضل الحرب الروسية الأوكرانية إلى وجهة مفضلة لانتقال العديد من الشركات الأمريكية والأوروبية التي انسحبت من روسيا بعد فرض عقوبات غربية عليها.

4- اتّباع سياسات أقل تشدداً في ملف اللاجئين: يقوم الخطاب السياسي للرئيس أردوغان على قناعات أيديولوجية دينية محافظة؛ إذ يتمسك أردوغان بقناعاته فيما يتعلق برفض ما يصفه بـ”السياسات العنصرية” ضد اللاجئين السوريين المقيمين في تركيا، ونظرته إلى خطاب كليجدار أوغلو والأحزاب اليمينية المتطرفة تجاه هذا الملف على وجه الخصوص بأنه “تطرف وعنف ويناهض مبادئ الإنسانية والأخوة”؛ مما يعني أن أردوغان وتحالف الجمهور سوف يستمران في تبني سياسات وقوانين أقل تشدداً في التعامل مع قضية اللاجئين، وربما يساعد على ذلك قطع تركيا شوطاً معتبراً على صعيد تفكيك القضايا الخلافية مع دمشق تمهيداً للتطبيع الكامل، وهو ما قد يوفر بيئة خصبة للعودة الطوعية والآمنة للاجئين السوريين إلى ديارهم من دون مخاوف. واللافت هنا أن أردوغان يشتهر بأطروحاته المتسامحة أو الأقل حدة تجاه اللاجئين، فقد قال في تصريحات له إنه لن يرحل اللاجئين، وسوف يدعم العودة الطوعية وليس العودة القسرية.

5- ممارسة سياسات أكثر تشدداً تجاه الأكراد: يقوم الخطاب السياسي للعدالة والتنمية وشريكه الحركة القومية على قناعات قومية، ترى أن حزب العمال الكردستاني، وروافده السياسية، تمثل خطراً على الأمن القومي للبلاد. ولذلك قد يتمسك أردوغان بقناعاته فيما يتعلق بأهمية استمرار المواجهة مع الأكراد سواء داخل تركيا عموماً، وفي شمال سوريا والعراق بشكل خاص، مما يعني أن أردوغان والائتلاف الحاكم سوف يتبنَّى سياسات وقوانين أكثر تشدداً في التعامل مع القضية الكردية، وربما يساعد على ذلك التداعيات السلبية التي أنتجتها مواقف حزب الشعوب الديمقراطي بعد دعوته عشية الجولة الثانية أنصاره للتصويت لمرشح الطاولة السداسية. بالتوازي، وفي إطار أعمال العنف التي تشهدها بعض المناطق التركية بسبب ممارسات حزب العمال الكردستاني، فربما تشهد الفترة المقبلة تصعيداً للعنف ضد قواعد الكردستاني شمال سوريا والعراق.

ختاماً، يمكن القول إن فوز أردوغان بفترة رئاسية جديدة قد يمنحه مساحة أكبر لاستمرار هيمنته على مقاليد المشهد التركي، وتحقيق مزيد من الهيمنة على مؤسسات الدولة وعملية صنع القرار في تركيا. كما أن فوز “أردوغان” وحزبه في الانتخابات سيعطيه دفعة للمضي قدماً في سياسته الإقليمية والدولية، وفي مقدمتها تحقيق مزيد من إصلاح علاقاته الإقليمية مقابل استمرار التوتر مع الغرب، وكذلك الاستمرار في مواجهة التهديدات الكردية سواء في الداخل التركي أو خارج الحدود.