أدى التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا إلى تحول كبير في توجهات السياسة الخارجية التركية، من خلال التأكيد على تبني نهج حيادي تجاه الأزمة. وبالرغم من العلاقات الاستراتيجية مع موسكو خلال السنوات التي خلت، فإن الأزمة الأوكرانية دفعت حكومة حزب العدالة والتنمية إلى تعزيز مساحات التفاهم مع القوى الغربية ودول حلف الناتو التي تمثل العلاقة معها أولوية في الاستراتيجية التركية. ويبذل الرئيس “أردوغان” وأعضاء حكومته قصارى جهدهم للتأكيد على التزام أنقرة بنهج حيادي تجاه أطراف الأزمة والقوى المنخرطة فيها، وهو ما ظهر في الدور الذي تلعبه أنقرة في جهود الوساطة بين موسكو وكييف، استناداً إلى موقع تركيا كعضو في الناتو تتمتع بعلاقات جيدة مع روسيا وأوكرانيا.
وقد جرى التأكيد على أن مواقف تركيا مغايرة للمواقف الأوروبية والأمريكية التي دعت إلى رفع العصا الغليظة رداً على التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا، وكشف عن ذلك تقديم الولايات المتحدة مشروع قانون لطرد روسيا من الأمم المتحدة. وفي الوقت الذي سعت فيه القوى الأوروبية إلى محاصرة موسكو، فقد امتنعت تركيا، في 25 فبراير الفائت، عن التصويت على تعليق عضوية روسيا في معظم هيئات مجلس التعاون في أوروبا رداً على العملية العسكرية في أوكرانيا. لكنها -في المقابل- أكدت دعمها الحفاظ على وحدة وسيادة الأراضي الأوكرانية، من خلال إدانة قرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الاعتراف باستقلال الإقليمين الانفصاليين في شرق أوكرانيا.
وتأكيداً للموقف التركي الذي اتسم بالحياد، صوتت تركيا على قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة المعنون “العدوان على أوكرانيا”، الذي صدر في 2 مارس 2022 بأغلبية 141 صوتاً في نهاية جولة طارئة استثنائية ونادرة بدأها مجلس الأمن الدولي أواخر فبراير الفائت، ويطالب القرار روسيا بالتوقف فوراً عن استخدام القوة ضد أوكرانيا، وسحب موسكو جميع قواتها العسكرية على نحو فوري وكامل وغير مشروط من أوكرانيا، ويؤكد التمسُّك بسيادة واستقلال أوكرانيا ووحدة أراضيها بما فيها مياهها الإقليمية. كما أغلقت تركيا مضيقي البوسفور والدردنيل في وجه ملاحة الدول المشاطئة لتركيا على البحر الأسود، وذلك بموجب اتفاقية مونترو 1936 التي تمنح تركيا حق التحكم في إدارة المضيقين وقت الحرب.
بالتوازي مع ما سبق تستمر تركيا في رفضها الانخراط في العقوبات الغربية على موسكو، وسعت إلى توظيف علاقاتها الاستراتيجية مع كييف وأوكرانيا لتقريب وجهات النظر وحلحلة الأزمة، وظهر ذلك في استضافة تركيا لقاء يجمع وزير الخارجية الأوكراني “دميترو كوليبا” ونظيره الروسي “سيرجي لافروف” عقد في 10 مارس الماضي في مدينة أنطاليا التركية، كما استضافت جولة جديدة من المفاوضات جمعت موسكو وكييف في نهاية مارس المنقضي.
والواقع أن النهج الحيادي لتركيا لا ينفصل عن مساعي أنقرة لتعزيز مكانتها الإقليمية، خاصة أن وساطة تركيا في الأزمة الأوكرانية تَلقى ترحيباً دولياً واسعاً من واشنطن وقادة الاتحاد الأوروبي إضافة إلى أطراف الأزمة. كما أن التعامل البراجماتي التركي مع الأزمة الأوكرانية كشف في جانب آخر عن قدرة أنقرة على مواجهة التحديات، والتأكيد على مكانتها الجيوسياسية والاستراتيجية في الناتو، إلى جانب محوريتها في خطة أوروبا لإيجاد بدائل للغاز الروسي عبر مد خط لنقل غاز شرق المتوسط لأوروبا مروراً بالأراضي التركية، وغيرها الكثير من المتغيرات الكبيرة.
ختاماً، فإن توجهات السياسة التركية تجاه الأزمة الأوكرانية ترتبط في جوهرها بتحقيق أهداف محددة لدى صانع القرار في تركيا. فبالإضافة إلى توظيف الأزمة في تعزيز المكانة الدولية، وتقليص الارتدادات الاقتصادية للأزمة، واستثمار الوساطة التركية في تعزيز مكانة الحزب الحاكم محلياً؛ فإن التحرك التركي الذي اتسم بالحياد جاء في سياق مساعي أنقرة للحفاظ على علاقتها مع أطراف الأزمة، خاصة أنها ترتبط بعلاقات محورية مع موسكو وكييف.
موضوعات متعلقة
1- عوائد الوسيط: لماذا تهتمّ تركيا برعاية المفاوضات الروسية الأوكرانية؟
2- دوافع متنوعة: لماذا لا تُشارك تركيا في العقوبات الاقتصادية على موسكو؟
3- أهداف مترابطة: لماذا أغلقت تركيا مضيقي البوسفور والدردنيل بعد أزمة أوكرانيا؟
4- توتر إضافي: ما مستقبل العلاقة بين أنقرة وموسكو بعد رفض الهجوم على أوكرانيا؟
5- مكاسب محتملة: كيف تستغل تركيا تراجع الاهتمام الروسي بسوريا؟