مكاسب محتملة:
كيف تستغل تركيا تراجع الاهتمام الروسي بسوريا؟

مكاسب محتملة:

كيف تستغل تركيا تراجع الاهتمام الروسي بسوريا؟



تسعى تركيا إلى توظيف التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا لجني أكبر المكاسب السياسية والاقتصادية والأمنية في سوريا، وتجيد تركيا مهارة استغلال الأزمات، ولعل ذلك يعود بالأساس إلى البراجماتية التي تتسم بها السياسة الخارجية لحزب العدالة والتنمية ناهيك عن إدراك تركيا حاجة موسكو إلى تحييد تركيا في الأزمة الأوكرانية، بالنظر إلى الأهمية الاستراتيجية لأنقرة التي تمتلك مفاتيح البوسفور والدردنيل في البحر الأسود، كما أن تركيا قد تكون رئة اقتصادية لموسكو في المرحلة المقبلة بعد توجه الغرب إلى فرض سلسلة من العقوبات المالية على روسيا بسبب توغلها العسكري في أوكرانيا.

الواقع أن انشغال روسيا بحربها في أوكرانيا، يشكل فرصة سانحة لتركيا لتوسيع نفوذها العسكري والاقتصادي في سوريا، وكشف عن ذلك الغارات العسكرية التركية على أهداف كردية في الداخل السوري، والتي من ضمن أهدافها تقويض مشروع الإدارة الذاتية لقوات سوريا الديمقراطية، وتعزيز حضور الفصائل السورية الموالية لها في مناطق الشمال السورية الغنية بالنفط والغاز والإمكانيات الزراعية الهائلة.

أهداف متعددة

تراهن تركيا على توظيف الأزمة الأوكرانية، وحشد الاهتمام العسكري الروسي باتجاه أوكرانيا مقابل تخفيف الانخراط في صراعات الإقليم لتحقيق جملة من المكاسب في سوريا التي تمثل أولوية أمنية وسياسية لتركيا. وفي هذا السياق، تتطلع أنقرة من وراء تصاعد الصراع في أوكرانيا إلى تحقيق جملة من الأهداف الاستراتيجية، يمكن بيانها كالتالي:

1- تعزيز الحضور الاقتصادي داخل إدلب: تعتقد تركيا أن الصراع الروسي الأوكراني، وتصاعد أمد الحرب بين الطرفين، في ظل حدود نتائج جولات الحوار التي جرت خلال الأيام الماضية بين موسكو وكييف لحلحلة الأزمة، قد يؤدي إلى تراجع الوجود الروسي في سوريا، وهو ما ستسعى تركيا إلى استغلاله من خلال توسيع استثمارها الاقتصادي في سوريا. ومع تراجع الاهتمام الروسي بمجريات الحدث السوري خلال الشهور الماضية، شهدت محافظة إدلب حضوراً اقتصادياً تركياً كبيراً، حيث شرع السكان والجهات الإدارية بإدلب في تداول العملة التركية، بدلاً من العملة السورية المحلية، بعد أن فقدت جانباً واسعاً من قيمتها أمام الدولار. كما باتت الحدود السورية التركية في إدلب منفذاً لاستيراد السلع التجارية والغذائية والصناعية من تركيا. وشرعت حكومة الإنقاذ في المناطق الموالية لتركيا، في إحداث عدد من المشاريع التنموية والاقتصادية بمعاونة الشركات التركية.

2- إعادة التموضع في سوريا على حساب موسكو: تبدو تركيا حريصة على الاستثمار بكثافة في الأزمة الأوكرانية لمصلحة إعادة تموضعها في سوريا، وهنا يمكن فهم إعمال تركيا المادة 19 من معاهدة مونترو 1936 التي تتيح لها إغلاق مضيقي البوسفور والدردنيل أمام ملاحة الدول المشاطئة على البحر الأسود. ومن شأن هذا القرار التأثير على حضور موسكو في سوريا، حيث تعتمد الأولى في نقل عتادها العسكرية واحتياجاتها اللوجستية إلى سوريا على الجسر البحري الذي يمتد من سيفاستوبول إلى طرطوس، عبر البوسفور والدردنيل.

ويُشار إلى أن البحر الأسود هو شريان الحياة اللوجستي للقوات الروسية في سوريا منذ انخراطها في الأزمة في عام 2015. وقد أدى التدخل الروسي إلى تقويض فاعلية الدور التركي في سوريا. وبحلول عام 2017، خصَّصت موسكو معظم السفن الحربية الحديثة التابعة لأسطول البحر الأسود للعمل ضمن قوة أسطول البحر الأبيض المتوسط، وهو ما عزَّز النفوذ الروسي في تلك المنطقة الحيوية التي تتعارض فيها مصالح أنقرة مع مصالح موسكو في عدة ملفات مثل قبرص وليبيا.

في هذا السياق، فإن إغلاق البوسفور والدردنيل يبدو في جوهره خطوة تركية مستترة للجم النفوذ الروسي في سوريا، وإعادة تموضع الدور التركي، حيث لن تتمكن سفن أسطول البحر الأسود التابعة لروسيا من السفر ذهاباً وإياباً إلى سوريا. كما أن قرار تركيا بتعطيل الملاحة في البوسفور والدردنيل يجعل موسكو تعتمد فقط على الجسر الجوي الذي يربط بين روسيا وقاعدة حميميم في اللاذقية، وهي مخصصة فقط لنقل المواد اللوجستية، لكن لا يمكنها أن تكون ميناء دائماً للأسطول الحربي الروسي الضخم.

3- إزعاج الخصوم على الساحة السورية: ترى تركيا أنالتدخل العسكري الروسي في أوكرانيا قد يسمح بإعادة تغيير أوزان الفاعلين الإقليميين والدوليين في المشهد السوري لمصلحة تركيا، ويصب في زيادة قدرتها على مواجهة خصومها في الأزمة السورية، ولا سيما الولايات المتحدة التي لديها علاقات جيدة مع قوات سوريا الديمقراطية، وتدعم مشروع الإدارة الذاتية للأكراد السوريين. كما تعارض التوجه التركي بتصنيف حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري “منظمة إرهابية”.

في المقابل، يسمح التراجع الروسي في المشهد السوري بتوفير بيئة خصبة لتعزيز القدرات التركية في مواجهة خصومها الإقليميين على الساحة السورية، وبخاصة إيران التي تدعم النظام السوري، وتعارض التدخلات العسكرية التركية شمال سوريا. ويشار إلى أن التنافس والصراع التركي مع إيران على شمال غرب سوريا، وتحديداً إدلب، قائم على قدم وساق، ومن فإن تراجع موسكو التي تمسك بمفاصل الصراع شمال غرب سوريا، وتبدو أكثر تنسيقاً مع طهران، قد يشكل فرصة ذهبية لتركيا لتحجيم النفوذ الإيراني في مناطق النفوذ التركي داخل الأراضي السورية.

4- تثبيت نفوذ الفصائل الموالية لتركيا: تراهن تركيا على استثمار الأزمة الأوكرانية وانشغال الرئيس بوتين بتطورات التدخل العسكري الروسي في كييف لتعزيز وجود الفصائل الموالية لها في سوريا، وتقوية وجودها، حيث يمنح الانشغال الروسي في أوكرانيا فرصاً أكبر لصمود اتفاق وقف إطلاق النار في محافظة إدلب وحمص وحماة واللاذقية، والذي تم توقيعه في 5 مارس 2020، وهو ما قد يسمح للفصائل السورية الموالية لتركيا بتعزيز وجودها العسكري في مواقع إضافية في الشمال السوري، خصوصاً أن قدرات النظام السورى في هذه المناطق قد تشهد فتوراً، حيث تعتمد بالأساس على القدرات الجوية الروسية في مواجهة الفصائل الموالية لتركيا.

في هذا السياق، فإن الانشغال الروسي بالأزمة الأوكرانية قد يؤدي إلى حالة من الفراغ داخل سوريا، الأمر الذي يترك مساحة أكبر لتركيا وللفصائل القريبة منها في المشهد السوري، لا سيما وأن الفصائل السورية الموالية لتركيا تعاني من المحددات الروسية لدورها في سوريا، إضافة إلى دور موسكو في لجم الطموحات التركية في مواجهة المشروع الكردي شمال سوريا.

تحديات ماثلة

ثمّة مكاسب محتملة قد تجنيها تركيا في سوريا بعد انشغال روسيا بتطورات المواجهة العسكرية في أوكرانيا، وتركيز التفكير الروسي على مواجهة الضغوط الدولية التي تتعرض لها، وفي الصدارة منها اتجاه القوى الأوروبية وواشتطن نحو فرض عقوبات مالية تستهدف محاصرة الاقتصاد الروسي. لكن في المقابل ثمّة تحديات قد تواجه تحقيق هذه المكاسب، أولها: أنه حال نجاح موسكو في الانتصار في الأزمة الأوكرانية أو على الأقل انتهاء الأزمة بتفاهمات بين روسيا والغرب؛ فإن ذلك قد يمثل تحدياً للمكاسب التركية المحتملة في سوريا، فانتصار روسيا في الأزمة الأوكرانية سيقلص هامش مناورة الرئيس التركي بشكل كبير مع موسكو حول مجريات الأزمة في سوريا. وثانيها: أن الانتصار الروسي في الأزمة الأوكرانية قد يشكل عبئاً إضافياً على الفصائل السورية الموالية لتركيا، فربما يدفع فوز موسكو على الساحة الأوكرانية نحو فرض شروطها على أنقرة، للتخلّص من التنظيمات الإسلامية القريبة منها، وهو الأمر الذي قد ينعكس على الحضور التركي في سوريا.

خلف ما سبق، فإن احتمال توسيع رقعة الحرب في أوكرانيا، وإطالة أمدها، قد يدفع موسكو نحو تكثيف ضغوطها على تركيا في سوريا، رداً على إغلاقها مضيقي البوسفور والدردنيل في البحر الأسود، وكذلك إصرارها على توريد المسيرات التركية إلى الحكومة الأوكرانية. وبرغم تركيز روسيا جهودها العسكرية على الساحة الأوكرانية، إلا أن ذلك لا ينفي أن لديهاالموارد الكافية للاستمرار في عسكرة المشهد السوري، حيث تمتلك قوات عسكرية موازية لها في سوريا، مثل “مجموعة فاجنر”، وهي شركة أمنية روسية تمتلك قدرات عسكرية هائلة، وتعمل لمصلحة النظام الروسي في مناطق الصراعات.

مكاسب مشروطة

ختاماً، يمكن القول إن ثمة مكاسب تركية محتملة على الساحة السورية بسبب انشغال موسكو بحسم الصراع في أوكرانيا، ناهيك عن التأثيرات المحتملة للعقوبات الغربية على التحركات الروسية في مناطق الصراعات، إلا أن هذه المكاسب تظل مرهونة بمسارات الصراع في أوكرانيا، والقدرات الروسية على حسمها.