توتر إضافي:
ما مستقبل العلاقة بين أنقرة وموسكو بعد رفض الهجوم على أوكرانيا؟

توتر إضافي:

ما مستقبل العلاقة بين أنقرة وموسكو بعد رفض الهجوم على أوكرانيا؟



تصاعد التوتر بشكل ملحوظ بين أنقرة وموسكو على خلفية الدعم التركي للنظام السياسي في كييف، وتفاقمت هذه التوترات إثر تعاقد أنقرة على توريد طائرات مسيرة، ودعم التعاون الدفاعي مع أوكرانيا. ودخلت العلاقة بين البلدين مرحلة جديدة من التصعيد بشأن تطورات الأزمة الأوكرانية، خاصةً بعد إدانة الخارجية التركية، في 24 فبراير الجاري، الهجومَ الروسي على أوكرانيا وَوَصْفِهِ بـ”غير المقبول”، ومن قبلها إعلان أنقرة في 22 فبراير الجاري معارضتها اعتراف الرئيس بوتين باستقلال مناطق دونيتسك ولوجانسك شرق أوكرانيا؛ مما أثار سأم موسكو.

وفي بيان لها، قالت الخارجية التركية: “إنه لا يمكن قبول القرار الروسي الأخير، إذ يتعارض مع اتفاقيات مينسك، ويُشكل انتهاكاً للسيادة والوحدة السياسية والجغرافية لأوكرانيا”. كما ندد الرئيس أردوغان بالقرار، وأكد على أن قرار روسيا الاعتراف باستقلال جمهوريتي لوهانسك ودونيتسك “غير مقبول، ويمثل انتهاكاً صارخاً لسيادة أوكرانيا”. وأشار إلى أن بلاده عليها اتخاذ حزمة من التدابير بحكم أنها تقع على البحر الأسود، دون توضيح تلك التدابير، قائلاً: “لا نستطيع التخلي عن مسؤولياتنا”.

دوافع محركة

ثمّة عددٌ من الاعتبارات التي تقف وراء رفض تركيا الهجوم الروسي على أوكرانيا، ومناهضة إعلان الرئيس الروسي في 21 فبراير الجاري الاعتراف باستقلال الانفصاليين شرق أوكرانيا، وهو ما يُمكن بيانه على النحو التالي:

1- محاصرة التمدد الروسي: لا يُمكن فصل التحركات التركية الرافضة لقرار موسكو باستقلال لوهانسك ودونيتسك عن رغبة أنقرة في محاصرة تمدد روسيا في مناطق النفوذ التركي في القوقاز ومنطقة آسيا الوسطى والجمهوريات السوفيتية الناطقة بالتركية. كما ترى تركيا أن نجاح موسكو في تأمين استقلال لوهانسك ودونيتسك، قد يمثل علامة فارقة في تعزيز التمدد الروسي بالإقليم، وإبقاء دول الاتحاد السوفيتي السابق ضمن نفوذها، وهو ما قد ينعكس على الدور التركي. وهنا، يمكن فهم رفض تركيا قرار موسكو، وكذلك مواصلة إصرارها على عدم الاعتراف بسيطرة روسيا على شبه جزيرة القرم في عام 2014. في المقابل، تعتقد أنقرة أن دعم موسكو استقلال مقاطعتي لوهانسك ودونيتسك بعد ضمها شبه جزيرة القرم، يمنحها مزيداً من الهيمنة في البحر الأسود على حساب حضور أنقرة وحليفتها أوكرانيا.

2- حماية العلاقة مع كييف: تستهدف تركيا من وراء رفض القرار الروسي حماية مصالحها مع أوكرانيا، حيث تتمتع أنقرة وكييف بعلاقات استراتيجية وثيقة، كشف عنها تطور الشراكة الاستراتيجية والاقتصادية بين البلدين، حيث بلغ حجم المبادلات التجارية بين البلدين بنهاية عام 2021 ما يقرب من 7,4 مليارات دولار، ويتوقع أن يصل إلى نحو 10 مليارات دولار بعد توقيع الرئيس التركي في فبراير الجاري اتفاقية التجارة الحرة عشية زيارته لأوكرانيا. كما أن أنقرة تتمتع بنفوذ واسع في أوكرانيا، حتى إنها أسهمت في استقلال الكنيسة الأوكرانية عن الكنيسة الروسية.

بالتوازي مع ذلك، تطورت العلاقات بين أنقرة وكييف إلى حد كبير، حيث تعد الثانية من أبرز مستوردي المسيرات التركية، فقد حصلت على ست طائرات مقاتلة للكتيبة 383 في سلاح الجو الأوكراني من طراز تي بي 2. كما أسس البلدان في أغسطس 2019 شركة مشتركة تحت اسم “Black Sea Shield” متخصصة في الصناعات الجوية، وتستهدف تطوير أجيال جديدة من الطائرات المسيرة. ووصل التعاون الدفاعي إلى الذروة في يوليو الماضي، عندما أعلن الرئيس الأوكراني عن وضع هيكل أول فرقاطة أوكرانية حديثة يتم بناؤها بالتعاون مع هيئة الصناعات الدفاعية التركية، ومن المقرر الانتهاء منها بحلول عام 2023.

3- استثمار القرار لإصلاح العلاقة مع واشنطن: تسعى تركيا لتوظيف رفض القرار الروسي باستقلال الانفصاليين شرق أوكرانيا لإصلاح العلاقة مع واشنطن، وحلّ القضايا الخلافية العالقة، خاصة أن الأزمة بشأن أوكرانيا أكدت القيمة الاستراتيجية لتركيا بالنسبة للولايات المتحدة وحلف الناتو. وتعي واشنطن أن تركيا هي التي تتحكم في حركة المرور من وإلى البحر الأسود، الذي تشترك في حدوده مع روسيا. كما تتحكم تركيا في مضيق البوسفور الذي يُعد المجرى الملاحي الأهم لعبور السفن الروسية إلى منطقة الشرق الأوسط.

في هذا السياق، فإن الموقف التركي الرافض لاستقلال الانفصاليين شرق أوكرانيا، يتماهى مع الموقف الأمريكي، وهو ما يوفر بيئة خصبة يمكن البناء عليها لتحسين العلاقة مع الولايات المتحدة، وحل الخلافات الشائكة، فضلاً عن تخفيف انتقادات أعضاء الكونغرس لتركيا. ويبدو أن الموقف التركي الرافض للقرار الروسي باستقلال الانفصاليين، قد ساهم في تحريك المياه الراكدة بين أنقرة وواشنطن؛ حيث أعلن الرئيس التركي، في 23 فبراير الجاري، عن أن محادثات بلاده مع الولايات المتحدة بشأن تطوير مقاتلات (F-16) تسير “بشكل جيد”.

4- التماهي مع الموقف الأوروبي: يمثل الرفض التركي لاعتراف الرئيس بوتين باستقلال جمهوريتي الانفصاليين شرق أوكرانيا، رسالة للقوى الأوروبية التي تُعارض لحاق تركيا بالاتحاد الأوروبي، وتتخذ مواقف مناهضة تجاه المصالح التركية. وحيث إن العالم الأوروبي يرفض التدخلات التركية في أوكرانيا، فإن الرفض التركي لقرار الرئيس بوتين الأخير في 21 فبراير، قد يمثل في جوهره رسالة طمأنة للقوى الأوروبية، فضلاً عن التأكيد على أن تركيا لا تزال حجر الزاوية في حفظ الأمن الأوروبي، وحائط صد أول أمام التهديدات القادمة من روسيا جنباً إلى جنب مع التأكيد على أن التقارب التركي الشديد مع روسيا هو توافق ضرورة بالأساس، ومحكوم في جانب واسع منه بالنفوذ السياسي والعسكري الروسي في سوريا، والجمهوريات السوفيتية الناطقة بالتركية، ورغبة أنقرة في تأمين مصالحها بالشرق الأوسط ومنطقة القوقاز.

تداعيات محتملة

تفتح إدانة أنقرة للهجوم الروسي على أوكرانيا، في 24 فبراير، وكذلك رفض اعتراف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين باستقلال الكيانات الانفصالية شرق أوكرانيا؛ الباب واسعاً أمام احتمال تصاعد الضغوط الروسية على تركيا، وهو ما قد يفرض تداعيات سلبية على تركيا، يمكن بيانها على النحو التالي:

1- منع تجديد عقود توريد الغاز: تحصل تركيا على نحو 33,6% من احتياجاتها الغازية من موسكو التي تعتبر المورد الأول لها، لكن مع تطورات الأزمة في أوكرانيا، ومعارضة أنقرة للاعتراف الروسي باستقلال جمهوريتي دونيتسك ولوهانسك، فقد تهدد موسكو بقطع الوقود عن تركيا كما فعلت مع أوروبا في الأسابيع الأخيرة، وهو الأمر الذي قد يحمل في طياته أزمة إضافية للاقتصاد التركي المأزوم بطبيعته. كما يتوقع أن تتجه موسكو نحو رفض تجديد عقود الغاز مع تركيا في الوقت الحالي، أو على الأقل إبرام عقود قصيرة الأجل، خاصة أن العقود طويلة الأجل التي أبرمتها تركيا لاستيراد الغاز الطبيعي مع شركة غاز بروم الروسية انتهت بنهاية العام الماضي، وكانت تغطى نحو 8 مليارات متر مكعب من واردات تركيا من الغاز.

2- تجميد الصفقات الدفاعية: في ظل تصاعد القضايا الخلافية بين موسكو وأنقرة، والتي زادت وتيرتها بعد مناهضة تركيا التحركات الروسية في الأزمة الأوكرانية؛ قد يتعرض التعاون العسكري بين أنقرة وموسكو لهزة عميقة، ومخاطر متنوعة، قد تتمثل في تراجع الصادرات الدفاعية الروسية من منظومة S400 إلى تركيا، وكذلك وقف دعم تركيا ببعض المكونات العسكرية وقطع الغيار التي تحتاجها هيئة الصناعات الدفاعية التركية، فضلاً عن احتمال تباطؤ بعض المشاريع الدفاعية المشتركة بين البلدين.

3- فرض عقوبات على قطاع السياحة التركي: ربما تتجه موسكو نحو فرض عقوبات نوعية على تركيا بعد معارضتها قرار موسكو بالاعتراف بالمناطق الانفصالية شرق أوكرانيا، واصطفافها إلى أوكرانيا والمواقف الغربية المناهضة لموسكو. وقد يصل هذا التصعيد إلى مرحلة غير مسبوقة خلال المرحلة المقبلة، من خلال عودة روسيا إلى إجبار شركات السياحة الروسية على تعليق رحلاتها إلى تركيا، وهي الرحلات التي عادت لتوها في يونيو الماضي بعد فترة من التوقف. وتمثل السياحة الروسية أولوية للاقتصاد التركي، حيث استقبلت تركيا أكثر من ثلاثة ملايين سائح روسي خلال العام الماضي، وذلك بحسب بيانات وزارة السياحة التركية.

ضبط التوتر

ختاماً، يمكن القول إن الرفض التركي للاعتراف الروسي باستقلال الانفصاليين شرق أوكرانيا لا ينفصل عن رغبة أنقرة في تحقيق جملة من المصالح مع القوى الغربية، واختراق القضايا الخلافية مع واشنطن، فضلاً عن لجم التمدد الروسي في المناطق التي تحمل أولوية جيوسياسية لتركيا. ورغم تداعيات محتملة للخطوة التركية على واقع ومستقبل العلاقة مع موسكو، إلا أنهما قد يسعيان إلى ضبط حدود التوتر بالنظر إلى المصالح المشتركة. فمن جهتها جددت تركيا على لسان المتحدث باسم الرئاسة إبراهيم قالن، في 20 فبراير الجاري، التزامها باتفاقية مونترو 1936 التي تحدد نظام مرور السفن عبر مضيقي البوسفور والدردنيل، وهي إشارة لروسيا بعدم السماح بمرور سفن حربية أكثر مما تنص عليه الاتفاقية إلى حوض البحر الأسود، فضلاً عن دعوة الرئيس التركي، في 23 فبراير الجاري، نظيره الروسي لزيارة أنقرة في أقرب وقت. وفي المقابل، تعاملت موسكو بهدوء نسبي مع الخطوة التركية الرافضة لاستقلال الانفصاليين شرق أوكرانيا، وظهر ذلك في تصريحات المتحدث باسم الكرملين في 22 فبراير الجاري، حيث قال: “إن الخلافات بين روسيا وتركيا بشأن أوكرانيا لا تمنع البلدين من بناء علاقات ثنائية”.