تواجه الأجسام السياسية الليبية بشكل عام إشكالية تآكل شرعيتها السياسية، فبعد سنوات طويلة من وجود هذه الأجسام لم تتمكن من تحقيق الحد الأدنى المطلوب لإنهاء الانقسام السياسي وتوحيد البلاد، وإعادة الاعتبار للدولة؛ بل يُنظر إليها باعتبارها جزءاً من الأزمة. لكن يُخشى من أن تتعرض ليبيا لحالة من الفراغ المؤسسي قد يضاعف من طبيعة الأزمة الراهنة، مع انتكاس المرحلة الانتقالية الأخيرة التي تولتها حكومة الوحدة، وإعادة إنتاج الانقسام مرة أخرى، وذلك مع قيام البرلمان بتكليف حكومة بديلة بقيادة فتحي باشاغا. ومع تطبيع هذا الواقع بعمل الحكومة المكلفة من البرلمان من سرت والحكومة المقالة من طرابلس؛ يروج لطرح توسعة الرئاسي كمخرج من المأزق الراهن، لكنّ هذا الطرح يُواجَه بالعديد من التحديات، منها حكومة الأمر الواقع الرافضة لتسليم السلطة، ومواقف المليشيات المسلحة المعارضة لتوسع “المنفي”، وصراع الأجسام السياسية المتآكلة الشرعية؛ ومن ثمّ فإن خيار توسّع المجلس الرئاسي يصعب تحققه.
فقد أعلن رئيس المجلس الرئاسي “محمد المنفي” في لقاء له بمدينة مصراتة قبل أيام أنه سيتدخل في الوقت المناسب لإعادة التأكيد على وحدة التراب والمؤسسات، بحيث تكون ليبيا واحدة للجميع وبالجميع. وفُسرت هذه التصريحات على أنها اتجاه لإنهاء الازدواج الحكومي في ليبيا الذي يعيد بدوره الأزمة الليبية إلى مربع الانقسام المؤسسي والجهوي، لكن تقارير محليه رجّحت أن يكون “المنفي” يتجه إلى تشكيل مجلس رئاسي موسع، وأنه يُجري مشاورات مع مختلف القوى السياسية لهذا الغرض، بالإضافة إلى البعثة الأممية، لكن مصادر أكدت أن هذا التصور قائم بالفعل لكنه لم يتبلور بعد، وأشارت تلك المصادر إلى أن الأمر يحتاج إلى دعم دولي وإقليمي ولا يتوقف فقط على القوى المحلية.
مركزية مصراتة
مبدئياً يُنظر إلى “المنفي” على أن سياساته خلال توليه رئاسة المجلس الرئاسي كانت متوازنة، ولم يكن منحازاً إلى طرف سياسي، بينما كان ينسق سياسياً مع البعثة ومع حكومة الوحدة على اعتبار أن الحكومة لا تزال تعمل في إطار المرحلة الانتقالية التي أعلنت عنها البعثة، وبالتالي فإنه لم ينسق مع البرلمان من جهة بشأن حكومة باشاغا، كما لم يُصدر مرسوماً رئاسياً بشأن حكومة “عبدالحميد الدبيبة”، لكنه قد يعمل على هذه الخطوة في المرحلة المقبلة مع قرب انتهاء المرحلة الانتقالية. لكن من اللافت أن “المنفي” أطلق هذه التصريحات من مصراتة، وهي المدينة التي يُنظر إليها باعتبارها مركز صناعة القرار السياسي في الغرب الليبي، وهي نقطة قد تكون موفّقة من هذه الجهة، خاصة أن العديد من قوى مصراتة المسلحة أعلنت أنها لن تنخرط في الصراع. لكن من زاوية أخرى، يرى مراقبون أن هذا الإعلان لو جاء من طرابلس العاصمة لحظي برمزية سياسية أفضل، خاصة في ظل سيادة تنافس المدن (مصراتة مقابل بنغازي)، أما من حيث التوقيت فالإعلان يأتي في الشهر قبل الأخير على انتهاء صلاحية الأجسام السياسية (المجلس الرئاسي وحكومة الوحدة) بانتهاء المرحلة الانتقالية في نهاية يونيو المقبل.
مواقف الأطراف
كما سلفت الإشارة، لم يكشف “المنفي” عن طبيعة خطته لتقويض حالة الانقسام، لكن يعتقد أن هناك تنسيقاً مع البعثة في هذا السياق، وبالتالي فإن البعثة أو بالأحرى واشنطن قد ترى في “المنفي” مخرجاً من الأزمة، وليس لتسوية الخلاف بين الحكومات، كذلك يُنظر إلى أن رئاسة أركان غرب ليبيا بقيادة “محمد الحداد” قد تؤيد طرح “المنفي”، خاصة وأن “الحداد” أعلن أكثر من مرة أنه لا يريد إقحام أركان غرب ليبيا (التابعة للرئاسي) في الأزمة السياسية. وبانتهاء صلاحية حكومة “الدبيبة” الذي احتفظ لنفسه خلال المرحلة الانتقالية بحقيبة الدفاع، فإن “الحداد” سيتحرر من هذه التعبية. وفي تلك المرحلة، فإن رئاسة الأركان ستأتمر بأمر الرئاسي فقط، لكن يتعين أن يحظى الرئاسي بدعم من البعثة الأممية، حتى يبقى جسماً سياسياً إلى ما بعد انتهاء المرحلة الانتقالية.
أما بالنسبة لمواقف المليشيات المسلحة المعارضة لتوسع “المنفي”، فمن الصحيح أن مليشيات مصراتة رفضت الانخراط في الأزمة، لكن يعود الدافع في ذلك إلى أن كلاً من “الدبيبة” و”باشاغا” ينحدران منها، وبالتالي ليس من مصلحة المليشيات أن تخوض حرباً فيما بينها في مصراتة، لكن من الأهمية بمكان الإشارة إلى التطور الأخير المتمثل في وصول “عبدالحكيم بلحاج” و”شعبان هدية” إلى طرابلس، وتصاعد نغمة “طرابلس للطرابلسيين” فيما يعني أن السلاح سيلعب دوره في طرابلس لتأمين حكومة “الدبيبة”، ليس ضد “باشاغا” في المقام الأول، ولكن ضدّ القيادة العامة بقيادة “خليفة حفتر” والنواب بقيادة “عقيلة صالح”. لكن من زاوية أخرى أيضاً فإن شعار “طرابلس للطرابلسيين” مؤشر على أن هناك قوى تريد سحب بساط القرار السياسي من مصراتة وتمركزه في طرابلس، وسيكون لذلك تداعياته وفي المقدمة منها أن هذه المليشيات التي أعادت تموضعها بقوة في المشهد سيكون لها قرارها من توسعة الرئاسي، والمؤكد أنها تعارضه.
تحديات عديدة
يواجِه طرحُ “المنفي” مجموعةً من التحديات، التي تؤثر على تحققه، وهي:
1- حكومة الأمر الواقع الرافضة لتسليم السلطة: هناك تطورٌ موازٍ وهو أن حكومة باشاغا بدأت بالفعل عملها هذا الأسبوع من مدينة سرت، بالإضافة إلى انتقال البرلمان إلى هناك لعقد جلسات الموازنة، وهو طرح كان كاشفاً لدور “عقيلة صالح” في هذه المسألة، والذي سبق وطرحه خلال مفاوضات جنيف 2020، باعتبار سرت تمثل حلاً وسطاً غير جهوي، ولكنّ تأخير هذا الطرح كل هذه الفترة ثم تنفيذه على أرضية وجود حكومتين أفقد الفكرة أهميتها، وستتحول سرت بمرور الوقت إلى المنافس لمصراتة، وعلى الجانب الأخر، فإن حكومة “الدبيبة” ستظل تواصل عملها في طرابلس حتى بعد نهاية يونيو في حال ظلت الأوضاع السياسية على ما هي عليه، فقد أعلن الأخير أنه لن يسلم السلطة إلا لحكومة منتخبة. ويسعى كل طرف من الحكومتين إلى كسب ود الجانب الأمريكي، فباشاغا أعلن (في 11 مايو الجاري) عن إعادة فتح حقول النفط، وهي ورقة مررتها القيادة العامة له لكسب ود الجانب الأمريكي بعد ضغوط من السفير الأمريكي “ريتشارد نولارد” على كافة الأطراف في القاهرة. وفي المقابل، يغازل “الدبيبة” بورقة الانتخابات، وأنه يتماهى مع البعثة في هذا الأمر.
2- صراع الأجسام السياسية المتآكلة الشرعية: انطلق فى مونترو السويسرية لقاء يهدف إلى ترتيب وضع الأجسام السياسية، ومحاولة حسم مصيرها في مرحلة ما بعد يونيو، إلا أن هذا اللقاء لا يشترط أن يكتب له النجاح خاصة في ظل معارضة “عقيلة صالح” لحل الرئاسي في ظل تمرد بعض الأعضاء الذين يطالبون بحل البرلمان، أو الدعوة إلى الاستقالات الجماعية. وعلى الجانب الآخر، فإن المجلس الأعلى للدولة هو الآخر يواجه نفس التمرد من التيار الذي يقوده “سعد بن شرادة”، والذي يرى ضرورة تقارب المجلسين وتمرير حكومة باشاغا كحل انتقالي. إلا أن “خالد المشري” -رئيس المجلس- يرى هو الآخر أن هذا الوضع قد يؤدي إلى فراغ سياسي في البلاد.
معارضة النخبة
خلاصة القول، من غير المتصور أن يترجم طرح توسعة الرئاسي كبديل للانقسام الحكومي كأمر واقع، أو كسيناريو محتمل، حتى وإن حاولت البعثة تسويقه، فمن المؤكد أن هناك نخبة سياسية ليس من مصلحتها التخلي عن مواقعها. فعلى الأرجح ستعود ليبيا إلى مربع الانقسام السياسي مرة أخرى، وسيضاعف من ذلك ضعف قدرة البعثة على التسويق لخطة سياسية لما بعد انتهاء المرحلة الانتقالية الحالية.