يسعى النظام السوري خلال المرحلة الحالية إلى استغلال الانفتاح العربي والإقليمي من أجل تعزيز موقعه التفاوضي وتحقيق أهداف عديدة خاصة بالحصول على تنازلات من جانب الدول العربية وتركيا، وانتزاع اعتراف دولي -وغربي تحديداً- به، والحفاظ على التنسيق الأمني مع الدول الغربية، وتوظيف ما سوف تؤول إليه التفاهمات السعودية-الإيرانية.
رغم التطورات الإيجابية الأخيرة التي طرأت على صعيد العلاقات بين سوريا والعديد من دول المنطقة، سواء الدول العربية أو تركيا؛ إلا أن ذلك لا يعني أن تسوية بعض الخلافات العالقة مع هذه الدول أصبحت قريبة. بل يمكن القول إن النظام السوري سوف يسعى خلال المرحلة القادمة إلى “إدارة” هذه الخلافات وليس “تسويتها”، ويتمثل أبرزها في اللاجئين والمخدرات، ولا سيما “الكبتاغون”، والإرهاب. ويوحي ذلك بأن الوصول إلى تفاهمات أو صفقات حول هذه الملفات قد يكون مهمة مؤجلة إلى حين استشراف ما سوف تؤول إليه هذه التطورات في النهاية.
ضغوط متعددة
بدأت دول عديدة في المنطقة تتعرض لضغوط قوية بسبب تصاعد الأعباء التي يفرضها استمرار تواجد اللاجئين على أراضيها، فضلاً عن تزايد عمليات تهريب المخدرات عبر الحدود السورية، بالتوازي مع استمرار المخاوف بشأن عودة الجهاديين من سوريا إلى دولهم الأصلية بعد انتهاء الصراع المسلح وتغير توازنات القوى الاستراتيجية لصالح النظام السوري، في ظل الدعم الواضح والقوي الذي قدمته كل من روسيا وإيران والمليشيات الشيعية التي قامت بتكوينها وتدريبها لضمان استمرار بقاء النظام في الحكم.
وربما يمكن القول إن أحد أهم الأسباب التي دفعت هذه الدول إلى إجراء تغيير في سياستها إزاء النظام السوري، خلال المرحلة الماضية، سواء باتجاه تطوير العلاقات معه وإنهاء القطيعة التي حدثت بعد اندلاع الأزمة في مارس 2011، أو باتجاه توسيع نطاق الاتصالات القائمة بالفعل منذ سنوات عديدة؛ هو تقليص حدة هذه الضغوط التي وصلت إلى مرحلة لا يمكن احتمالها في بعض الحالات.
ومع ذلك، لا يبدو أن النظام السوري سوف يتجاوب بسرعة مع مثل هذه التحركات من أجل تسوية هذه الملفات وإنهاء أو تقليص هذه الضغوط. صحيح أنه سارع إلى التجاوب مع مبادرات تحسين العلاقات، إلا أن الصحيح أيضاً أنه ما زال يرى أن استمرار هذه الملفات، ومن ثم الضغوط، تعزز موقعه وتمنحه فرصة للجلوس إلى طاولة المفاوضات من موقع قوة.
أهداف رئيسية
يسعى النظام السوري من خلال تبني سياسة “ترحيل الملفات”، أو “إدارة الخلافات”، إلى تحقيق أهداف عديدة يتمثل أبرزها في:
1- انتزاع مكاسب سياسية من الدول المستضيفة: ويبدو ذلك جلياً في حالة تركيا. إذ تواصل الأخيرة جهودها من أجل تطبيع العلاقات مع النظام السوري، عبر المباحثات التي تجريها مع الأخير بمشاركة إيران وروسيا، حيث عُقدت سبعة لقاءات بين مسؤولي الدول الأربع خلال الفترة الماضية، ويتوقع أن تتواصل في المرحلة القادمة، لا سيما بعد انتهاء الانتخابات الرئاسية والتشريعية التركية، التي أجريت في الفترة من 14 إلى 28 مايو الفائت، التي استحوذت على اهتمام المسؤولين الأتراك خلال المرحلة الماضية.
وقد كان لافتاً أن النظام السوري حرص في الفترة الماضية على توجيه رسائل بأنه “ليس في عجلة من أمره” في اتخاذ خطوات موازية لتطبيع العلاقات مع أنقرة، وهو ما يتناقض مع المحاولات التركية الحثيثة لإعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم، والذين يصلون، حسب بعض التقديرات، إلى نحو 3.6 ملايين سوري، وهي المحاولات التي بدت جلية في شروع أنقرة في بناء وحدات سكنية للاجئين في شمال سوريا، لتشجيع اللاجئين على العودة الطوعية إلى بلادهم.
وهنا، فإن النظام يسعى إلى استغلال هذا الملف لممارسة ضغوط على أنقرة في ملفات أخرى، ويتمثل أبرزها في إنهاء التواجد العسكري التركي في شمال سوريا، والذي تستند أنقرة لتبريره إلى “الخطر” الذي تفرضه المليشيات الكردية الموجودة في تلك المناطق، لا سيما مليشيا “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) التي تحظى بدعم أمريكي مستمر، في ظل الرؤية التي تتبناها الولايات المتحدة الأمريكية وتقوم على أن تلك المليشيا تمارس دوراً لا يمكن إغفاله في الحرب ضد تنظيم “داعش”.
كما يسعى النظام إلى دفع تركيا نحو إنهاء دعمها لفصائل المعارضة السورية، وبالتالي إضعاف الأخيرة، وتكريس توازن القوى الذي فرضته التطورات الميدانية على الأرض خلال الأعوام الأربعة الأخيرة.
وربما تكون المفارقة هنا، أن النظام السوري تبنّى الآلية نفسها في إدارة علاقاته مع تركيا، التي سبق أن اتبعتها في إدارة علاقاتها مع الدول الأوروبية، حيث سعت إلى استغلال ورقة اللاجئين في الأعوام الماضية لممارسة ضغوط على الأخيرة في ملفات مختلفة.
2- الحصول على شرعية دولية: وهو هدف يكتسب أهمية خاصة بالنسبة للنظام السوري، الذي ما زال يتعرض لعزلة دولية، خاصة من جانب الدول الغربية، التي بدت حريصة حتى الآن على عدم الانفتاح على النظام السوري، وتوجيه رسائل تفيد بتحفظها على التطورات الأخيرة التي طرأت على صعيد العلاقات بين سوريا والدول العربية وتركيا.
فقد وجهت الولايات المتحدة الأمريكية انتقادات قوية لقرار مجلس وزراء الخارجية العرب، في 7 مايو الفائت، بعودة سوريا إلى جامعة الدول العربية، واعتبرت أن “النظام السوري لا يستحق ذلك”، وأكدت أنه “المبكر عودة سوريا إلى الجامعة العربية”. فيما أكد الاتحاد الأوروبي أنه ما يزال يتمسك بعدم التطبيع مع سوريا، وعدم رفع العقوبات ضدها، أو المشاركة في إعادة إعمارها دون تغيير سياسي.
كما طرح مشرعون في الكونجرس الأمريكي، في 12 مايو الفائت، مشروع قانون لـ”مكافحة التطبيع مع النظام السوري”، وهو مشروع يمنع الإدارة الأمريكية من الاعتراف بأي حكومة سورية بقيادة الرئيس بشار الأسد، كما يدعو إلى توسيع قانون “قيصر” الذي يفرض عقوبات على النظام السوري.
هنا، فإن النظام السوري يسعى عبر “ترحيل” بعض الملفات إلى ممارسة ضغوط مضادة على الدول الغربية، خاصة فيما يتعلق بتهريب المخدرات، ولا سيما الكبتاغون، وتعزيز فرص الوصول إلى تفاهمات مع هذه الدول في إطار مقايضة تتضمن العمل على تقييد عمليات التهريب مقابل الحصول على اعتراف سياسي مجدداً يضفي شرعية دولية على النظام.
3- الحفاظ على التنسيق الأمني مع الدول الغربية: يحاول النظام توظيف استمرار التهديدات التي يفرضها تنظيم “داعش” وغيره من التنظيمات الإرهابية من أجل الحفاظ على التنسيق الأمني القائم مع أجهزة أمنية واستخباراتية غربية. إذ تخشى هذه الأنظمة من احتمالات نجاح “داعش” في تكوين خلايا نائمة أو استقطاب متعاطفين معه في الداخل، على نحو يوجه تهديدات مباشرة لأمن هذه الدول.
وقد بدا ذلك جلياً في إعلان السلطات الألمانية، في 31 مايو الفائت، على تفكيك خلية تضم حاملين للجنسية الألمانية كانت تسعى إلى جمع تبرعات وإرسالها إلى التنظيم داخل سوريا، أو لإطلاق سراح بعض العناصر الإرهابية أو أسرهم من السجون والمخيمات التي تخضع لإشراف مليشيا “قسد”، وهو ما يبدو أنه سيمثل باستمرار عنصراً ضاغطاً على الدول الغربية يدفعها إلى مواصلة التنسيق الأمني مع النظام.
4- توظيف انعكاسات التوافقات الإقليمية الأخيرة: ربما يحاول النظام في الفترة الحالية انتظار ما سوف تؤول إليه التوافقات الإقليمية الجديدة من أجل توظيفها لصالحه، خاصة ما يتعلق بما سوف يسفر عنه اتفاق بكين لاستئناف العلاقات بين السعودية وإيران، والذي تم توقيعه في 10 مارس الماضي برعاية صينية، لا سيما على صعيد الأزمتين اليمنية واللبنانية. وقد كان لافتاً أن النظام بدأ في توجيه رسائل تفيد بأنه أصبح معنياً بشكل أكبر بتطورات الملف اللبناني على مستوى التفاعلات التي تجري حالياً حول اختيار رئيس جديد للبلاد، خلفاً للرئيس المنتهية ولايته ميشال عون الذي قام بزيارة سوريا، في 7 يونيو الجاري، حيث التقى الرئيس السوري بشار الأسد.
استحقاقات صعبة
في ضوء ذلك، يمكن القول -في النهاية- إن عودة سوريا إلى الجامعة العربية، فضلاً عن تحسن علاقاتها بالعديد من دول المنطقة، لا تعني أن ثمة تغييراً كبيراً في السياسة الخارجية السورية قد يجري في الفترة القادمة. إذ إن النظام لا يبدو أنه في وارد أن يقدم تنازلات كبيرة في الملفات الخلافية العالقة مع الدول المعنية بتطورات الأزمة السورية، على الأقل إلى حين الحصول على تنازلات من جانب هذه الدول تعزز من المكاسب التي يحققها النظام بعد تغير توازنات القوى الداخلية لصالحه في الأعوام الأخيرة.