أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية أنها تسعى إلى محاصرة المصادر التي تحصل منها إيران على المعدات التقنية التي تستخدمها في صناعة الطائرات من دون طيار، وذلك في ضوء ما كشفت عنه تقارير إعلامية أمريكية، نقلاً عن تقارير استخبارية ومسئولين أمنيين أمريكيين وأوكرانيين، من أن فحص الطائرة من دون طيار الإيرانية “شاهد 136” أشار إلى حصول طهران على 40 مكوناً من مكوناتها البالغة 52 مكوناً من 13 شركة أمريكية، بينما الـ12 مكوناً الأخرى تحصل عليها من شركات في سويسرا واليابان والصين وتايوان. لذلك يشكك مراقبون في أن اتّباع واشنطن لإجراءات سبق تجريبها من قبل، سواء بالنسبة لفرض عقوبات على طهران، أو فيما يتعلق بأزمة تصدير تكنولوجيا أمريكية مثل أشباه الموصلات أو “الرقائق الإلكترونية” لدول مثل الصين وروسيا؛ قد تؤتي ثمارها على النحو المتوقع، على اعتبار أن الشركات التي تنتج هذه المكونات هي شركات خاصة بالأساس، كما أن طرق التحايل من الخارج لإنشاء شبكات للتغطية على وصول هذه المكونات إلى المصدر تشكل تحدياً في تعقب المستخدم الأخير.
متغيرات متعددة
وكدلالة رئيسية، يطرح هذا السياق فرضية مفادها تصاعد ملفات الأزمات وضيق هامش المواجهة المحتملة ما بين واشنطن وطهران، وهو ما يمكن الإشارة إليه في سياق أربع نقاط رئيسية، هي على النحو التالي:
1- تطورات الموقف الأمني بين طهران وواشنطن في المنطقة: أعلنت طهران، قبل أيام وخلال المناورة “ذو الفقار 1401″، عن مُسيّرتين جديدتين (“أبابيل 5″، “كمان 12”) في إطار تطوير قدراتها العسكرية، وقامت بتحميل هذه الطائرات على المدمرة البحرية “سهند”، في مؤشر على تخطيط الجيش الإيراني للتقدم على خط المواجهة باتجاه مضيق هرمز وخليج عمان.
وبعد أن كانت تختبر إطلاق الطائرات من قاعدة “ماكران” للعبور إلى الجانب الآخر، أصبح بإمكانها تحريك تلك الطائرات على حاملة طائرات تضم إلى جانب تلك الطائرات الجديدة نوعيات أخرى مثل (“أرش”، و”مهاجر 6”).
وهنا، فإن الرسالة الإيرانية تتعلق بأنه كما أن الولايات المتحدة الأمريكية طورت من هيكلها العسكري لضم قوة غير مأهولة (القوة الخاصة 59)، فإن إيران هي الأخرى تنشئ قوة غير مأهولة للتعامل مع هذا التحدي في نطاق خليج عمان وبحر العرب وصولاً إلى باب المندب.
2- الدعم الإيراني لروسيا في الحرب الأوكرانية: لم يعد تحدي الطائرات من دون طيار الإيرانية مقصوراً على تهديد الوجود العسكري أو المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط، وإنما أصبح يشكل تهديداً في مناطق أخرى بسبب وجود الطائرة “شاهد 136” في الساحة الأوكرانية، وهو التهديد الذي يمكن أن يتضاعف إذا ما صدّرت إيران مسيّرات “درونز” أخرى أكثر تقدماً من “شاهد 136” إلى روسيا، أخذاً في الاعتبار نقطتين: الأولى، ما سبق وأعلن عنه مجلس الأمن القومي الأمريكي (9 ديسمبر الفائت) من أن موسكو وطهران أبرمتا صفقة مقاتلات روسية (SU-35) لصالح الأخيرة، وجزء من قيمة الصفقة التي ستسددها طهران عبارة عن طائرات من دون طيار وصواريخ، فضلاً عن ما كشفت عنه التقارير المشار إليها سلفاً من ضلوع موسكو في تصدير التكنولوجيا لطهران لدعم إنتاج صناعة الدرونز، فروسيا التي سبق وأعلنت أنها تتبنى إنشاء منظومة وطنية لإنتاج هذه الطائرات في غضون العامين المقبلين، سيكون من المفيد لها الاعتماد على الشركات الإيرانية مرحلياً.
والثانية، أن واشنطن منحت كييف منظومة “باتريوت” التي ستدخل الميدان الأوكراني في الفترة المقبلة، والتي ستحد من استخدام روسيا للصواريخ والمقاتلات، وقد تلجأ إلى الحصول على المزيد من “الدرونز” كبديل لذلك.
3- تنامي حضور الجيش الإيراني في مشهد المواجهة: يُمنح الجيش الإيراني هامشاً غير مسبوق من امتلاك القدرات العسكرية، بينما كان الحرس الثوري يحظى بالكثير منها، وهو ما ظهر مع استخدامه الواسع للطائرات من دون طيار التي كان الحرس الثوري يهيمن عليها. لكن المهم في هذا السياق هو أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت تلاحق شبكات الحرس الثوري من شركات وأفراد يقومون بجمع المعدات المزدوجة الاستخدام (المدني العسكري) من الدول الغربية، في حين أن تقارير بريطانية كشفت مؤخراً عن ضلوع الجيش الإيراني هو الآخر عبر شركات خاصة في الحصول على هذه المعدات، ومنها على سبيل المثال شركة Quds Aviationالمورد الرئيسي للطائرات من دون طيار، وهي بالفعل كانت تحت العقوبات ومع ذلك تمكّنت من توسيع دورها وإمكانياتها.
4- المقاربة الأمريكية-الإسرائيلية في التعامل مع الأزمة: لجأت الولايات المتحدة الأمريكية إلى إسرائيل للقيام بوساطة مع روسيا، ووفقاً لنيد برايس المتحدث باسم الخارجية الأمريكية، فإن إسرائيل لديها وضع أفضل من الولايات المتحدة الأمريكية للقيام بهذا الدور، وذلك بعد حوار أمريكي–إسرائيلي بين جاك سوليفان مستشار الأمن القومي الأمريكي ومسئولين إسرائيليين، في 29 ديسمبر الفائت، في هذا الأمر.
إلا أن هذه المقاربة ربما تكشف، من جانب آخر، موقف كلٍّ من تل أبيب وواشنطن من المواجهة مع إيران، حيث أشار رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مؤخراً إلى أنه يمكن لإسرائيل أن توجه ضربات لمواقع نووية إيرانية من دون العودة إلى واشنطن، في حين أن التطورات الجديدة تعني أن واشنطن باتت بحاجة إلى الاعتماد على تل أبيب وليس العكس على نحو ما كان متصوراً من قبل.
عقبات رئيسية
وفقاً لإجمالي هذه النقاط الأربع، يمكن القول إن الطائرات من دون طيار في الساحة الأوكرانية أصبحت معطى جديداً في المقاربة الأمريكية تجاه العلاقة المتأزمة بل والمتصاعدة مع إيران، وفي ضوء هذه التطورات أصبح من المستبعد التقارب بين الطرفين في الملف النووي.
كذلك، وفيما يتعلق بموقف واشنطن من فرض قيود على وصول معدات وتقنيات إلى طهران، ربما يكون من الصعوبة بمكان أن تحرز السياسة الأمريكية المعلن عنها تقدماً في المدى المنظور، وهو ما يعود لعدد من التحديات، منها على سبيل المثال:
1- على الرغم من أن الولايات المتحدة الأمريكية هي المصدر الرئيسي للحصول على معدات تصنيع الدرونز الإيرانية بما يتجاوز ثلثي المكونات، إلا أن سوابق موقف الشركات الأمريكية تكشف أنها تتعلل بقواعد السوق، خاصة وأن فرض إجراءات فحص الشركات المتعاقدة على تلك المكونات لا يؤدي فقط إلى تعطيل الشركات المحتمل أنها تصل في الأخير إلى إيران، وإنما يؤدي إلى تعطيل أوامر التعاقد مع كافة المستوردين على نحو ما أشير إليه في أزمة “الرقائق الإلكترونية”.
وربما يكون الأمر أصعب في تتبع المستخدم الأخير بعد تلك الدورة، فقد يكون المستورد شركة مقبولاً تعاملها مع الشركات الأمريكية، لكنها تورد لمصادر أخرى ينتهي بها الأمر إلى إيران، وبالتالي هناك حاجة لفرق أخرى لتعقب كافة مراحل سلاسل التوريد، وهي مسائل معقدة ومكلفة ومحدودة النتائج.
2- من غير المعروف ما هو حجم مخزون إيران من تلك المعدات، إذ إنها تمتلك مخزوناً هائلاً كونها تصدر الطائرات من دون طيار للوكلاء في الإقليم، بما يعني أن لديها فائضاً استراتيجياً بالأساس، كما يمكنها أن تقوم باللجوء إلى بدائل أخرى سريعاً بعد إفصاح وسائل الإعلام الأمريكية عن كل هذه التفاصيل، وقد يكون من بين البدائل الإيرانية تعقيد الشبكات التي تتعاطى مع سلاسل توريد هذه المنشآت أكثر مما هي عليه.
3- لا يُفترض أن إسرائيل ستنجح بسهولة في الوساطة مع روسيا، ففي المقابل سوف تطلب موسكو ثمناً للتراجع عن الحصول على هذه المنظومة، قد يكون من بينها تخلي أو تعطيل واشنطن إدخال منظومة “باتريوت” إلى الساحة الأوكرانية. في الأخير، من المتصور أن قواعد الاشتباك بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران تتطور بشكل متسارع، مع تعدد ساحاتها في الشرق الأوسط والساحة الأوكرانية، وملفاتها من انخراط إيران في الإقليم بما يهدد الوجود والمصالح الأمريكية، والملف النووي الإيراني، إلى ملف المسيّرات بأبعاده المختلفة، وستصب تداعيات هذه الملفات في تعميق حدة الأزمات بين طهران وواشنطن أكثر مما هي عليه في المرحلة الحالية.