تتسم استراتيجيات مكافحة الإرهاب بالديناميكية، على مستوى تحديث الخطط والتكتيكات العسكرية والأمنية المستخدمة لمواجهة التنظيمات الإرهابية، وفقاً لطبيعة كل مرحلة عملياتية، ودراسة قدرات هذه التنظيمات على التكيف الميداني مع طبيعة العمليات العسكرية.
وتُعد استراتيجية “استهداف الملاذات” مرحلة متقدمة من مراحل عمليات مكافحة الإرهاب، لمواصلة الضغط على التنظيمات الإرهابية، وحرمانها من التمركز في نطاقات جغرافية خارج سيطرة الدولة كلياً أو جزئياً، لإعادة بناء القدرات مجدداً.
وقد لجأت العراق إلى التركيز على “استهداف الملاذات”، جنباً إلى جنب مع العمليات العسكرية التقليدية، لمواجهة هجمات تنظيم “داعش” الإرهابي، على نحو حقق نجاحات ضد التنظيم، وفقاً لتقييمات رسمية عراقية، صادرة عن المتحدث باسم قيادة العمليات المشتركة اللواء تحسين الخفاجي، في 11 مايو الجاري.
تحجيم النشاط
تركز القوات العراقية على استهداف “ملاذات” تنظيم “داعش”، من خلال ملاحقة عناصره في مختلف النطاقات الجغرافية، إلى حد الإعلان عن مقتل 105 من عناصره، في عمليات مكافحة الإرهاب، مع التأكيد على عدم وجود ملاذ آمن للتنظيم، وفقاً للمتحدث باسم قيادة العمليات المشتركة في 11 مايو الجاري.
وتعتمد استراتيجية “استهداف الملاذات” على أنماط هجومية استباقية ضد التنظيمات الإرهابية، بنقل المعارك إلى معاقل التنظيم، وقطع خطوط الإمداد لمجموعاته الإرهابية النشطة، دون الاعتماد كلية على الأنماط الدفاعية لمواجهة عمليات التنظيم.
وبعيداً عن خسائر “داعش” في العراق، فإن ثمة مؤشرات تكشف عن تراجع النشاط العملياتي للتنظيم داخل الأخيرة، منذ مطلع عام 2023، من بينها إعلان ماثيو ماكفارلين القائد العام لقوة المهام المشتركة – عملية العزم الصلب، في 24 أبريل الفائت، عن “تراجع النشاط العملياتي لداعش في العراق، بواقع 68% منذ مطلع يناير الماضي وحتى الأسبوع الأول من شهر أبريل الفائت، مقارنة بالفترة ذاتها من عام 2022”.
وبشكلٍ عام، فإن ثمة تراجعاً في معدل النشاط العملياتي لـ”داعش” خلال العام الجاري، إذ لم يتجاوز النشاط العملياتي حاجز 20 عملية خلال الشهر الواحد، من خلال حصر العمليات المعلنة من قبل التنظيم عبر مواقع التواصل الاجتماعي، كما يوضح المخطط التالي، واللافت أن هذا التراجع مستمر منذ أواخر العام الماضي، إذ أعلن التنظيم تنفيذ 9 عمليات في أكتوبر، و5 عمليات في نوفمبر، و13 عملية في ديسمبر 2022.
عوامل مؤثرة
بالنظر إلى سياق تصريحات المتحدث باسم قيادة العمليات المشتركة، بشأن أنه تم استهداف القتلى في مناطق جغرافية معقدة، كان يعتقد التنظيم أنها ملاذ آمن، يبدو أن ثمة عوامل تشير إلى فاعلية استراتيجية “استهداف الملاذات”، ويتمثل أبرزها في:
1- الضربات الجوية الدقيقة بالمناطق الوعرة: عقب انسحاب القوات الأمريكية المشاركة في التحالف الدولي لمواجهة “داعش” من العراق، سادت تخوفات من تأثيرات هذا الانسحاب على عمليات مكافحة الإرهاب، خاصة وأن القوات الأمريكية كانت تتولى عمليات القصف الجوي وإمداد القوات الجوية العراقية بالمعلومات عن تحركات عناصر “داعش”،وهو ما كان مثار تخوفات أيضاً على مستويات رسمية. ولكن خلال الفترة الماضية، تنفذ القوات الجوية العراقية القصف بشكل منفرد على أهداف “داعش”، مع الاعتماد على سلاح الجو في تحقيق تفوق نوعي في المعارك ضد التنظيم.
ومن شأن تلك الضربات أن تستهدف العناصر الإرهابية في مناطق جغرافية وعرة، والتي تستغلها مجموعات التنظيم في الاختباء والتمركز، وتنطلق منها العمليات، كما أن سلاح الجو يقدم عمليات دعم وإسناد للمعارك الميدانية خلال التقدم باتجاه مناطق تمركز عناصر “داعش”.
وتُشير بعض التقارير الإعلامية إلى تنفيذ سلاح الجو العراقي نحو 35 ضربة جوية منذ مطلع 2023، ضد أهداف لـ”داعش”، وتحديداً في صلاح الدين وديالى وكركوك ونينوى.
2- الجهود الاستخباراتية والمعلوماتية المتقدمة: وهى جهود اكتسبت أهمية خاصةفي ظل التحولات التي لجأ إليها تنظيم “داعش” على مستوى تقسيم عناصره إلى مجموعات صغيرة، وتحديد نطاقات نشاطهم عملياتياً، بما يُعرف بنمط “التمرد الريفي”، الذي يرتكز على تنفيذ عمليات ليست كبيرة أو معقدة، لإظهار قدرته على البقاء، رغم الضغوط الخارجية التي تتمثل في عمليات مكافحة الإرهاب، والعقبات الداخلية التي تتعلق بتراجع القدرات التشغيلية واللوجيستية والتمويلية.
هذا النمط من التمرد الذي تعتمد فيه مجموعات “داعش” على الحركة دون الرصد، في ظل أعداد العناصر المحدودة، والاختباء في مناطق وعرة جغرافياً، يستدعي جهوداً استخباراتية ومعلوماتية متقدمة، لكشف تحركات هذه المجموعات الصغيرة، وإمداد سلاح الجو بمعلومات تفصيلية عن مناطق تمركزها، تمهيداً لقصفها، لكي تتكبد خسائر بشرية ومادية كبيرة، تعيق تنفيذ عمليات باتجاه المناطق الحيوية واستهداف المدنيين.
ويتضح أن القوات العراقية ركزت خلال الفترة الماضية على زيادة الجهود الاستخباراتية والمعلوماتية، وهو ما أكد عليه المتحدث باسم قيادة العمليات المشتركة، عند الإشارة إلى وجود “تطور استخباراتي لملاحقة ومتابعة الخلايا والمفارز التابعة لداعش”.
3- التنسيق بين مختلف الأطراف: خلال العام الفائت، بدا أن ثمة توجهاً من قبل وزارة الدفاع العراقية لزيادة التنسيق مع مختلف الأطراف لدعم جهود عمليات مكافحة الإرهاب، وضمان فاعلية الاستراتيجيات الموضوعة، وتحديداً مع قوات “البيشمركة” التابعة لإقليم كردستان العراق.
وسعى الطرفان خلال عام 2022، من خلال سلسلة من الاجتماعات بين قادة عسكريين من الجانبين، لبحث أولويات العمل المشترك لمواجهة “داعش”. ورغم أن بعض الخطوات، مثل تشكيل لواءين من الجيش والبيشمركة، لم تُفعَّل لأسباب تمويلية خلال العام الفائت؛ إلا أن مساحة التنسيق تزايدت في الوقت ذاته، وربما كان ذلك سبباً في تبادل المعلومات بين الجانبين حول تحركات “داعش” لتوجيه ضربات نوعية من خلال عمليات ميدانية لمعاقله بين حدود المحافظات وإقليم كردستان، والتي كان يستغلها “داعش” في ظل الفراغ الأمني.
وعلى جانب آخر، فإن الحكومة العراقية كانت أكثر انفتاحاً على التعاون مع “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) في شمال شرقي سوريا خلال العام الفائت، بدعم الدعوة لتفكيك مخيمات عناصر “داعش” وترحيل الأجانب إلى بلدانهم من السجون، فضلاً عن التنسيق غير المباشر، برعاية التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة، وفقاً لتقارير إعلامية في سبتمبر 2022.
4- استمرار الدعم الأمريكي للعمليات: اتصالاً برعاية الولايات المتحدة للتنسيق غير المباشر بين مختلف الأطراف المشاركة في العمليات العسكرية ضد “داعش” في العراق وسوريا، فإن القيادة المركزية الأمريكية أعلنت استمرار العمليات المشتركة، دون الإشارة إلى الطرف الذي نفذت معه العمليات ضد “داعش” في العراق.
وخلال مراجعة نشاط القيادة المركزية في عمليات مكافحة الإرهاب، تبين أن القوات الأمريكية شاركت في 25 عملية بالعراق وحدها، ولكنها لم تنفذ تلك العمليات بصورة أحادية، وهو ما أسفر عن مقتل 9 عناصر من “داعش”، واعتقال 7 آخرين خلال شهر أبريل الفائت فقط، في حين أعلنت تنفيذ 29 عملية بالعراق خلال شهر مارس الماضي، بشكل أدى إلى مقتل 7 عناصر من “داعش”، واعتقال 7 آخرين.
وتكشف المراجعات التي تقدمها القيادة المركزية الأمريكية فاعلية القوات الأمريكية المشاركة ضمن التحالف الدولي لمواجهة “داعش” في دعم عمليات الجيش العراقي، والتي ربما كانت داعماً في عمليات القصف الجوي، وتقديم معلومات استخباراتية حول تحركات عناصر التنظيم في المناطق الوعرة.
5- الاعتماد على وسائل تكنولوجية: تتجه الحكومة العراقية إلى زيادة الاعتماد على وسائل تكنولوجية متنوعة في عمليات مكافحة الإرهاب، وخاصة فيما يتعلق بكاميرات المراقبة وأجهزة كشف الحركة في المناطق الوعرة، وهي تلك المستخدمة في تأمين الحدود مع سوريا، خاصة مع الاتجاه إلى بناء حاجز أسمنتي عبر الحدود مع سوريا.
ومن غير المستبعد استخدام القوات العراقية لطائرات مسيرة من دون طيار، في عمليات الرصد وجمع المعلومات عن مواقع وتحركات عناصر “داعش”، خاصة مع امتلاك العراق طائرات صينية من نوع “CH-4B”، بإمكانها حمل أسلحة. ورغم أنها واجهت في السابق مشكلات تشغيلية، فإن القوات العراقية تمكنت على ما يبدو من التغلب عليها.
عقبات قائمة
على الرغم من فاعلية العمليات الهجومية الاستباقية وفقاً لاستراتيجية “استهداف الملاذات” في عمليات مكافحة الإرهاب، والتي ربما ساهمت في تحجيم نشاط تنظيم “داعش”، في ضوء حشد الجهود والإمكانات المختلفة، لتوجيه ضربات لمعاقل “داعش” ومجموعاته؛ إلا أنّ “استهداف الملاذات” بعمليات عسكرية وأمنية لا يكفي وحده لهزيمة التنظيم والقضاء على خلاياه ومجموعاته؛ إذ إن استمرار عدم قدرة الدولة على فرض سيطرتها على جميع الأراضي يسمح للتنظيم بإعادة التموضع في تلك “الملاذات” مجدداً، في ظل قدرته على التكيف مع المتغيرات الميدانية، بغض النظر عن تأثيرات هذا التكيف على زيادة القدرات وتصاعد النشاط العملياتي.