تقليص الدعم:
هل تغير تركيا سياستها إزاء ملف المرتزقة في ليبيا؟

تقليص الدعم:

هل تغير تركيا سياستها إزاء ملف المرتزقة في ليبيا؟



يبدو أن تركيا بدأت في إجراء تغيير في موقفها إزاء ملف المرتزقة الذين قامت بإرسالهم إلى ليبيا، على نحو انعكس في استمرار توقفها عن دفع مستحقاتهم منذ نحو 6 أشهر، فضلاً عن رفض إعادتهم إلى بلادهم. وفي هذا السياق، كشف المرصد السوري لحقوق الإنسان، في 11 سبتمبر الجاري، عن أن أنقرة تقوم بتضييق الخناق على المقاتلين السوريين في معسكرات ليبيا، على نحو دفع بعضهم إلى الدعوة لتنظيم مظاهرات والتهديد بمغادرة مناطق القتال. لكن ذلك لا يبدو أنه يعكس تحولاً في السياسة التركية إزاء الأزمة في ليبيا بشكل عام، بقدر ما يشير إلى محاولة تركية لاستيعاب متغيرات جديدة فرضتها استحقاقات داخلية عديدة، سياسية واقتصادية، فضلاً عن تطورات رئيسية طرأت سواء على مستوى علاقات تركيا مع العديد من القوى الإقليمية في المنطقة، أو على صعيد تدخلها في الصراع الليبي.

دوافع عديدة

يمكن تفسير هذا التغير الذي طرأ على العلاقة بين تركيا والمرتزقة السوريين في ليبيا في ضوء دوافع عديدة يتمثل أبرزها في:

1- تصاعد حدة الأزمة الاقتصادية: تواجه تركيا في الفترة الحالية أزمة اقتصادية غير مسبوقة، بشكل انعكس في انهيار سعر صرف الليرة التي فقدت نحو 55% من قيمتها خلال عام واحد- حسب العديد من التقديرات- وفشل الإجراءات التي اتخذتها حكومة حزب العدالة والتنمية من أجل احتواء تداعياتها. ويتوازى ذلك مع ارتفاع معدل التضخم الذي وصل إلى نحو 80% على أساس سنوي، وهو معدل غير مسبوق منذ عام 1998، على نحو تسبب في تدهور الأوضاع المعيشية. لذلك، يمثل الامتناع عن دفع رواتب المرتزقة السوريين الموالين لها في ليبيا إحدى الآليات التي ربما لجأت إليها الحكومة في سياق محاولاتها التعامل مع الأزمة الاقتصادية الراهنة، خاصة أن المرتزقة يتقاضون رواتب تتراوح- وفقاً لتقديرات عديدة- بين 800 و2000 دولار شهرياً، وهو أمر بات يُثقِل كاهل الميزانية التركية. وهنا، فإن اتجاهات مختلفة ترى أن أنقرة لا تسعى إلى التخلص من الأعباء التي يفرضها المرتزقة، وإنما إلى تقليصها إلى حد كبير، بحيث تتوافق مع الضغوط الاقتصادية التي أسفرت عنها الأزمة الحالية.

2- تحييد الضغوط الدولية المستمرة: لا ينفصل هذا التوجه الجديد عن رغبة أنقرة في تحييد الضغوط الدولية والإقليمية التي تمارسها قوى عديدة توجه اتهامات مستمرة إلى الأخيرة بالمسئولية عن تفاقم الأزمة السياسية في ليبيا وعرقلة الجهود التي تبذل من أجل الوصول إلى تسوية لها. وفي رؤية هذه القوى، فإن تحركات تركيا على الأرض، وفي الصدارة منها الاحتفاظ بالمرتزقة الموالين لها، كان لها دور في الانقسام السياسي والمؤسسي الذي تعاني منه ليبيا خلال المرحلة الحالية. وقد وجّهت قوى إقليمية ودولية عديدة، فضلاً عن أطراف ليبية مختلفة، دعوات بضرورة إخراج المليشيات المسلحة والمرتزقة من ليبيا، خاصة بعد الاشتباكات الدامية التي وقعت بداية من 27 أغسطس الفائت، بين القوات والمليشيات التابعة لكل من حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة والحكومة المكلفة من البرلمان برئاسة فتحي باشأغا.

3- احتواء التوتر مع الأطراف المحلية: كان لافتاً أن تركيا حرصت في الفترة الماضية على فتح قنوات تواصل مع معظم الأطراف المحلية الليبية على اختلاف اتجاهاتها وتوجهاتها، وهو ما انعكس في الزيارة التي قام بها السفير التركي لدى طرابلس كنعان يلمز، في 5 فبراير الماضي، إلى بنغازي في شرق ليبيا، تلبية لدعوة وجهها رئيس بلدية بنغازي صقر بوجواري، ومجلس النواب وغرفة التجارة والصناعة والزراعة في المدينة، حيث ركز على رغبة أنقرة في إعادة تطوير بعض المشروعات الاقتصادية التركية غير المكتملة في تلك المنطقة.

وفي هذا السياق، فإن أنقرة تحاول، على ما يبدو، إجراء تغيير في موقفها من ملف المرتزقة للتماهي مع التوجه الجديد الذي تتبناه إزاء العلاقة مع القوى الرئيسية في شرق ليبيا، خاصة أن بعضها يضع ضمن أولوياته ضرورة العمل على إخراج المرتزقة من ليبيا، باعتبار أن ذلك يمثل أحد الشروط الأساسية التي لا يمكن تجاهلها لإنجاح الجهود التي تبذل من أجل الوصول إلى تسوية سياسية للأزمة الليبية.

4- اقتراب موعد الاستحقاق الرئاسي: يتزامن هذا التغير مع اقتراب موعد الاستحقاق الانتخابي التركي المقرر له في يونيو 2023، حيث يدرك الرئيس التركي رجب طيب أردوغان- الذي يسعى لتجديد ولايته في الانتخابات الرئاسية المقبلة- مدى أهمية تقليص تداعيات الأزمة الاقتصادية التي تواجهها البلاد في المرحلة الحالية، قبل أن ينخرط في الحملة الانتخابية، خاصة أن هذه الأزمة سوف تكون أحد الملفات التي ستركز عليها القوى السياسية المناوئة له والساعية إلى الحيلولة دون تجديد ولايته الرئاسية وتقليص عدد المقاعد التي سوف يحصل عليها حزب العدالة والتنمية في الانتخابات البرلمانية، حيث تتبنى تلك القوى رؤية قائمة على أن السياسة الخارجية التي اتبعتها تركيا في عهد أردوغان فرضت تداعيات سلبية عديدة على مصالحها، سواء بسبب تفاقم الخلافات مع قوى رئيسية عديدة في المنطقة، أو بسبب التدخلات المكلفة في العديد من الملفات، ولا سيما الملفين السوري والليبي. وقد كانت تلك الضغوط والانتقادات أحد المتغيرات الرئيسية التي دفعت أنقرة إلى إجراء تغيير في سياستها باتجاه التهدئة مع العديد من القوى الإقليمية الرئيسية في المنطقة على نحو بدا جلياً في الفترة الماضية.

خطوة تكتيكية

على ضوء ذلك، يمكن القول في النهاية إن هذا التوجه الجديد الذي تتبناه أنقرة ربما يتسم بطابع تكتيكي ولا يعبر بالضرورة عن الاستراتيجية التي تتبعها أنقرة في التعامل مع التطورات الطارئة على الساحة الإقليمية، خاصة في دول الأزمات، وفي مقدمتها سوريا وليبيا. إذ لا يبدو أنها سوف تتراجع بشكل نهائي عن استخدام المليشيات والمرتزقة كآلية رئيسية لمواصلة تدخلاتها في تلك الأزمات، خاصة أنها بدأت في استخدام هذه المليشيات في مناطق بعيدة عن الأزمات الرئيسية في المنطقة، على غرار الحرب التي اندلعت في الفترة الماضية بين أرمينيا وأذربيجان حول إقليم ناجورني قره باغ، والذي شهد تجدد المواجهات المسلحة فيه مرة أخرى في 13 سبتمبر الجاري. فضلاً عن أن موافقة البرلمان التركي، في 23 يونيو الماضي، على تمديد بقاء القوات العاملة في ليبيا لمدة 18 شهراً بداية من 2 يوليو الماضي، توحي بأن هناك حدوداً لأى تغير محتمل في السياسة التركية إزاء هذا الملف تحديداً.