يمكن القول إن ثمة اتجاهين رئيسيين يتبنيان رؤى مختلفة إزاء الوجود العسكري الإيراني في سوريا: الأول، يرى ضرورة تقليص هذا الوجود لتقليص تداعيات الهجمات العسكرية الإسرائيلية المتكررة، وتجنب الانخراط في مواجهة مباشرة مع إسرائيل، مع تكليف المليشيات الشيعية بدعم الحضور الإيراني. في حين يرى الثاني أن هذا الوجود لا يمكن الاستعاضة عنه، باعتبار أن إيران استثمرت كثيراً من مواردها في سبيل تكريسه، فضلاً عن أن إعادة القادة إلى داخل إيران لا يقلص الهجمات الإسرائيلية التي وصلت إلى داخل إيران نفسها، إلى جانب أنه سوف يوجه رسائل خاطئة قد تفهمها إسرائيل، وحتى النظام السوري، على نحو خاطئ.
رغم أن الوجود العسكري الإيراني في سوريا وفر فرصة لإيران من أجل تعزيز حضورها وتمددها على المستويات المختلفة، مستفيدة في هذا السياق من الدور الذي قامت به في إنقاذ النظام السوري من خطر السقوط بعد اندلاع الأزمة في مارس 2011؛ إلا أنه في الوقت نفسه فرض تحدياً لا يبدو هيناً بالنسبة لها، باعتبار أنه جعل القادة العسكريين والمواقع التابعة لإيران “رهينة” في مرمى الهجمات التي تشنها إسرائيل، على غرار الهجوم الذي شنته في 20 يناير الفائت، وأسفر عن مقتل قائد استخبارات الحرس الثوري صادق أوميدوار ونائبه علي آغازاده، وقبلها الهجوم الذي أدى إلى اغتيال القيادي المسؤول عن نقل الدعم العسكري للمليشيات الموالية رضي موسوي في 25 ديسمبر الماضي. من هنا، ربما تبدأ إيران في تبني ما يمكن تسميته “إعادة تموضع”، عبر استدعاء القيادات العسكرية إلى طهران، حيث أشارت تقارير عديدة إلى أن الحرس الثوري بدأ في تقليص نشر كبار ضباطه في سوريا.
دوافع عديدة
رغم أن إيران لم تنفِ أو تؤكد هذه التقارير، التي قد تكتسب أهمية خاصة في ضوء الاستعداد الأمريكي الحالي لتوجيه ضربات عسكرية قد تشمل مواقع تابعة لإيران والمليشيات الموالية لها، رداً على الهجوم الذي تعرضت له القاعدة الأمريكية “تي 22” في شمال شرق الأردن في 28 يناير الفائت، إلا أنه في النهاية يمكن القول إن الاتجاه الداعي إلى تبني هذه السياسية يستند إلى اعتبارات عديدة يتمثل أبرزها في:
1- انتفاء الهدف من الانتشار العسكري الإيراني في سوريا: يرى هذا الاتجاه أن الانتشار العسكري الذي بدأته إيران في مرحلة ما بعد اندلاع الأزمة في مارس 2011، حقق الهدف منه وهو المساعدة في إبقاء النظام السوري في السلطة وعدم استنساخ التجارب التي مرت بها دول عربية أخرى مثل ليبيا وتونس واليمن ومصر. ووفقاً لذلك، فإن استمرار هذا الوجود يمكن أن تكون تكلفته عالية على المستويين الاقتصادي والعسكري، في وقت تواجه فيه إيران أزمة اقتصادية تتفاقم تدريجياً بسبب العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة الأمريكية، فضلاً عن أن إسرائيل تستغل هذا الوجود لرفع كلفة الدعم الذي تقدمه إيران للمليشيات المسلحة المناوئة لها، على غرار حركة حماس وحزب الله والمليشيات الشيعية التي قامت بتكوينها وتدريبها للمشاركة في الصراع السوري.
2- الاعتماد على النفوذ الاقتصادي والاجتماعي: يرى هذا الاتجاه أن إيران استطاعت تعزيز نفوذها على المستويات المختلفة داخل سوريا، خاصة الاقتصادي والاجتماعي. فإلى جانب القروض والمنح والدعم الاقتصادي الذي قدمته للنظام السوري، ويوفر لها ورقة ضغط تتعمد استخدامها في إدارة بعض الخلافات غير المعلنة مع الأخير؛ فإنها قامت بشراء عقارات وأراضي في العاصمة السورية ومحافظات سورية مختلفة، على نحو يضع عقبات عديدة أمام محاولة تقليص هذا النفوذ حتى لو كانت الجهة التي تسعى إلى ذلك هي النظام السوري نفسه.
3- تكليف المليشيات الشيعية بالمهمة: يمكن أن تستعيض إيران، وفقاً لهذا الاتجاه، عن حضورها العسكري المباشر، بتكليف المليشيات الشيعية الموالية بالقيام بالمهمة نفسها. ويعد حزب الله هو المليشيا الأساسية التي تستطيع القيام بهذا الدور، خاصة في ظل انخراطه في الصراع السوري منذ بداية الأزمة، فضلاً عن الخبرة التي اكتسبها نتيجة المهام التي قام بها في بعض دول الأزمات، على غرار العراق واليمن.
ومن دون شك، فإن ذلك التوجه يمكن أن يوفر فرصة لتكليف المليشيات الشيعية الأخرى بمهام جديدة داخل سوريا، خاصة “فيلق فاطميون” الأفغاني، وفيلق “زينبيون” الباكستاني، بعد أن أدت الدور الرئيسي الذي تكونت من أجله وهو المشاركة في إنقاذ النظام السوري من خطر السقوط.
4- تجنب احتمال الانخراط في مواجهة مباشرة مع واشنطن وتل أبيب: من شأن استمرار الاستهداف الإسرائيلي، وربما الأمريكي، للقادة العسكريين الإيرانيين، أن يعزز من احتمال اضطرار إيران إلى الاقتراب من المحظور وهو الانخراط في مواجهة مباشرة سواء مع الولايات المتحدة الأمريكية أو إسرائيل. إذ لم تستوعب إيران بعد الضربة القوية التي وجهتها إليها الأولى في 3 يناير 2020 عندما شنت عملية عسكرية أسفرت عن اغتيال القائد السابق لفيلق القدس التابع للحرس الثوري قاسم سليماني، إلى جانب نائب أمين عام مليشيا الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس. وربما كان ذلك دافعاً لها لتقليص التحركات الخارجية للقائد الحالي للفيلق اسماعيل قاآني تجنباً لتكرار التجربة نفسها، حيث إنه سيكون “هدفاً ثميناً” لإسرائيل من أجل إجبار إيران على دفع كلفة عالية لعملية “طوفان الأقصى” التي شنتها كتائب القسام (الذراع العسكرية لحركة حماس) في 7 أكتوبر الماضي، رغم حرص إيران على نفي ضلوعها فيها.
اتجاه مناوئ
مع ذلك، فإن ثمة اتجاهاً آخر يمكن استخلاص رؤيته من الكتابات والرؤى التي تطرح في مراكز الدراسات ووسائل الإعلام والتصريحات التي يُدلي بها المسؤولون العسكريون والسياسيون الإيرانيون، ويرى أن تقليص وجود القادة العسكريين الإيرانيين في سوريا يمكن أن يفرض تداعيات سلبية على مصالحها، ويستند في هذا السياق إلى اعتبارات مضادة يمكن تناولها على النحو التالي:
1- منح الفرصة لتعزيز نفوذ روسيا: من شأن تقليص وجود القادة العسكريين الإيرانيين في سوريا أن يمنح الفرصة لروسيا من أجل تعزيز وجودها العسكري، وهو ما لا يتفق مع مصالح وحسابات طهران في الوقت الحالي، نتيجة اتساع نطاق التباينات مع روسيا في مرحلة ما بعد تغير توازنات القوى لصالح النظام السوري.
إذ ترى إيران أن روسيا تسعى إلى تقليص مساحة نفوذها العسكري، وهو ما يفسر تعمدها رفع مستوى التنسيق الأمني مع إسرائيل، والذي يسمح للأخيرة بشن هجماتها العسكرية المستمرة داخل سوريا، والتي استهدفت القيادات العسكرية الإيرانية، فضلاً عن بعض كوادر المليشيات الشيعية الموالية لإيران.
2- توجيه رسائل “خاطئة” لإسرائيل: يرى هذا الاتجاه أن هذه الخطوة يمكن أن توجه رسالة تفهمها إسرائيل على نحو يدفعها إلى الإمعان في تحجيم النفوذ الإيراني بشكل عام في سوريا، إذ إنها سوف ترى أن ذلك يمثل مؤشراً على نجاح الاستراتيجية التي تتبناها في الوقت الحالي للتعامل مع التحديات التي يفرضها هذا النفوذ، ومن ثم ستقوم -في الغالب- على مهاجمة المواقع العسكرية التابعة لإيران والمليشيات الشيعية الأخرى، على غرار ما تقوم به فعلاً تجاه حزب الله، سواء في جنوب لبنان أو في سوريا.
3- تراجع نتائج هذه الخطوة: لا يبدو أن سحب القادة العسكريين من سوريا وإعادتهم إلى إيران سوف يحقق نتائج بارزة، وفقاً لهذا الاتجاه، لا سيما وأن إسرائيل أثبتت قدرتها على تعقب هؤلاء القادة داخل إيران نفسها، بما يعني أن هذا التوجه لن يحول دون استمرار الهجمات الإسرائيلية التي تستهدف القادة العسكريين المسؤولين عن إدارة الدعم الذي تقدمه إيران للمليشيات الشيعية الموالية لها. ويبدو اغتيال القيادي في الحرس الثوري حسن صيادي خدايي أمام منزله في العاصمة الإيرانية طهران، في 22 يونيو 2022، مثالاً بارزاً على ذلك.
وفي السياق ذاته، نشرت وسائل الإعلام الإسرائيلية، في 21 يوليو 2022، تقارير تفيد بأن جهاز الموساد قام باختطاف الضابط في الحرس الثوري يد الله خدمتي واستجوبه داخل إيران نفسها، حيث أدلى بمعلومات عن الدور اللوجيستي الذي كان يقوم به في نقل الدعم العسكري الإيراني إلى المليشيات الموالية لها في سوريا والعراق.
4- تقليص الضغوط على النظام السوري: يمكن أن تؤدي هذه الخطوة في حالة اتخاذها إلى تقليص الضغوط التي يفرضها بقاء بعض القيادات العسكرية الإيرانية داخل سوريا على النظام السوري نفسه، الذي يسعى إلى توسيع هامش الخيارات المتاحة أمامه بعد أن ضمن البقاء في السلطة، عبر إعادة الانفتاح على الدول العربية، وإجراء اتصالات مع تركيا رغم الخلافات العالقة بين الطرفين. وفي رؤية طهران، فإن ذلك يمكن أن يكون مقدمة لتبني النظام السوري نفسه نهجاً مختلفاً يقوم على فتح قنوات تواصل مع الولايات المتحدة الأمريكية، وربما إسرائيل، باعتبار أن ذلك يمثل الآلية التي يمكن أن تؤدي إلى إعادة “تعويمه” على الساحة الدولية مجدداً.
خطوة تكتيكية
في ضوء ذلك، يمكن القول إن سياسة “إعادة التموضع” التي قد تتبناها إيران في سوريا حالياً قد تعبر عن خطوة تكتيكية فقط للتعامل مع التطورات الراهنة التي تشهدها الساحة الإقليمية، في ظل استمرار الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة، وما يرتبط بها من تصعيد على ساحات مختلفة، بداية من العراق مررواً بسوريا ولبنان، وانتهاء باليمن. إذ لا تستطيع إيران الاستعاضة عن حضورها العسكري في سوريا، لا سيما أنها استنزفت بسبب موارد مالية واقتصادية وعسكرية كبيرة من أجل تكريسه على مدى أكثر من عقد.