تستعد ألمانيا في سبتمبر القادم لانتخاب المجلس التشريعي الاتحادي، الذي بدوره سينتخب المستشار الألماني الجديد خلفًا للمستشارة الحالية “أنجيلا ميركل” التي أعلنت عدم ترشحها لولاية خامسة، بعد 16 عامًا رأست خلالها الحكومة الاتحادية الألمانية. وفي هذا السياق، يبدو مشهد خلافة “ميركل” محتدمًا بتعقيدات عديدة، بعضها ناتج عن تعدد الأسماء المرشحة لتولي المنصب، وتقارب فرصهم. ومن جهةٍ أخرى، يأتي غياب “ميركل” عن المشهد السياسي في ظل متغيرات جديدة وتحديات بالنسبة للقيادة الألمانية، فثمة تداعيات اقتصادية وصحية خلفتها أزمة فيروس كورونا المستجد، وهي التداعيات التي يُحتمل أن تستمر لفترة ليست بالقصيرة، بالإضافة إلى طبيعة المشكلات التي تواجهها قوى سياسية رئيسية في ألمانيا، على غرار حزب الاتحاد المسيحي الديمقراطي، الذي يشهد تصاعدًا في صراع الأجنحة داخله.
مرشحون محتملون
برز في الآونة الأخيرة عدد من الأسماء المرشحة لتولي المستشارية الاتحادية في ألمانيا، وهي أسماء تعبر عن انتماءات وخبرات سياسية مختلفة، ويمكن تناول أهم الشخصيات المرشحة فيما يلي:
*) أرمين لاشيت: انتُخب “أرمين لاشيت” في شهر يناير الماضي رئيسًا جديدًا لحزب الاتحاد المسيحي الديمقراطي، كخطوة يسعى عبرها “لاشيت” إلى قيادة حزبه في الانتخابات الألمانية سبتمبر المقبل، ليمثل استمرارية لميركل التي يؤيد توجهاتها. ويبلغ “لاشيت” من العمر نحو 59 عامًا. ورغم أن فوزه في الانتخابات الحزبية يجعله الأوفر حظًا على حساب منافسيه الذين خسروا زعامة الحزب أمامه؛ إلا أن ذلك لا يضمن بشكل قاطع أن يقود حزبه في الانتخابات القادمة، وأن ينجح في أن يكون المستشار الألماني القادم. حيث أظهر استطلاع للرأي أجرته الجمعة شبكة “زد دي إف” الألمانية في يناير الماضي، أن 28% فقط من الألمان يرون أنه سيكون مستشارًا جيدًا. وفيما يقدم “لاشيت” نفسه على أنه المرشح الذي يُعتبر امتدادًا لميركل، فإن “ميركل” نفسها صرحت العام الماضي بامتلاكه الأدوات اللازمة للمنافسة على مقعد المستشار. لكنّه واجه اتهامات بالمحسوبية تتعلق بطلبيات تقدمت بها حكومته للحصول على كمامات ومعدات حماية تؤمنها شركة محلية للنسيج.
*) ينس شبان: يعتبر وزير الصحة الألماني “ينس شبان”، صاحب الأربعين عامًا، أحد الأسماء الصاعدة بقوة في الحكومة الألمانية، خاصة مع ارتفاع شعبيته خلال الشهور الماضية. حيث أظهر في ديسمبر الماضي استطلاع للرأي أجراه معهد “كانتار”، حول الساسة الألمان، أن 52% ممن شملهم الاستطلاع يرون وجوب لعب “ينس شبان” دورًا رئيسيًا في السياسة الألمانية في عام 2021، متفوقًا على المستشارة الألمانية “أنجيلا ميركل” التي توقفت عند نسبة 51% من المصوتين. ويشير حجم التغير في نتائج “شبان” في الاستطلاع وتزايد نسبة شعبيته من 28% نهاية 2019 إلى 52% نهاية 2020، إلى حجم الطفرة الشعبية التي حققها وزير الصحة بفضل التعامل الألماني مع جائحة فيروس كورونا المستجد، حتى بات يوصف بأنه السياسي الأكثر شعبية في ألمانيا. ولعل الأداء الألماني خلال الجائحة وتأثيراته الإيجابية على شعبية وزير الصحة هو ما يدفع “ينس شبان” إلى التفكير جديًا في الترشح لخلافة المستشارة الألمانية. ورغم أن “ينس” دعم “لاشيت” في انتخابات الحزب الأخيرة، إلا أن ذلك لا ينفي طموح وثقل الشاب الذي حل ثالثًا في انتخابات الحزب عام 2018.
*) ماركوس زودر: يُعد “ماركوس زودر”، رئيس الحزب الاجتماعي المسيحي ورئيس وزراء ولاية بافاريا، أحد الأسماء الحكومية التي برزت خلال المواجهة الألمانية لوباء (كوفيد-19). إلا أن شعبيته تراجعت مؤخرًا، حيث أظهر استطلاع للرأي أجراه معهد “سيفي” لقياس الرأي، ونشرت نتائجه فبراير الماضي، انخفاض نسبة رضا سكان ولاية بافاريا عن أداء “زودر” إلى 48% مقابل 71% في الموجة الأولى من جائحة كورونا. لكن يظل “زودر”، وفقًا لاستطلاع أجراه معهد “يوجوف” مارس الجاري، هو الأكثر شعبية بين أقرانه، حيث يؤيد ترشحه لمنصب المستشار 41% من الألمان.
*) فريدريك ميرز: يُعتبر “ميرز” البالغ من العمر 65 عامًا، منافسًا تقليديًا لميركل، ويمثل الجناح اليميني المحافظ في الحزب. وقد عاد للمنافسة على قيادة الحزب لكنه خسر عام 2018 أمام “كرامب كارينباور”، وخسر مطلع هذا العام أمام “أرمين لاشيت”. ورغم هذه الخسارة لكنه يظل مرشحًا قويًا، حيث يتعهد باستمالة نصف ناخبي “البديل من أجل ألمانيا”.
*) أولاف شولتز: أعلن الحزب الاشتراكي الديمقراطي أغسطس الماضي عن ترشيح وزير المالية ونائب المستشارة “أولاف شولتز” لخلافة “ميركل”. وقد شغل قبل مناصبه الحالية منصب عمدة هامبورج في الفترة من 2011 إلى 2018. وسيقدم الحزب الاشتراكي الديمقراطي دعمًا كبيرًا لشولتز في محاولة لاستعادة الهيمنة المفقودة على السياسة الألمانية منذ 2002. حيث سيستغل الحزب شعبية “شولتز” الذي أظهر قدرة على قيادة ألمانيا خلال فترة عزل “ميركل”، وكذلك أداءه الاقتصادي والاجتماعي المتعلق بقدرته على توفير حزمة الطوارئ المالية لمواجهة آثار الوباء على المواطنين.
محدِّدات الاختيار
من المنتظر أن يُسمي حزبا الاتحاد الديمقراطي المسيحي والاتحاد الاجتماعي المسيحي مرشحهم المشترك في الفترة القادمة بعد انتخابات الولايات، وفقًا للخريطة المعلنة. إلا أن هناك عددًا من المحددات التي تُسهم في اختيار المرشح، وكذلك في تحديد الفائز بمنصب المستشار الألماني سبتمبر المقبل.
1- تضاؤل الفروق: رغم الشعبية الكاسحة التي حققتها المستشارة الألمانية “أنجيلا ميركل”، والتي ساعدت عبر شخصيتها وسياساتها على الحفاظ على موقع المستشار رغم أزمات الحزب؛ فإن الساحة السياسية الألمانية بدون “ميركل” تشبه تنافسًا معقولًا بين ساسة متكافئين، حيث انتهت برحيل “ميركل” ظاهرة “الاستثناء” في السياسة الألمانية، ولم يعد هناك شخصية تحظى بتوافق كبير بين الألمان كالذي حظيت به “أنجيلا ميركل”. ولذلك يبدو من الصعب حسم الاختيارات، كما أن الاختيارات أصبحت مرنة وقابلة للتبدل بدرجة أكبر. وهو ما دلت عليه عملية المنافسة على مقعد رئاسة حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي.
2- متغيرات المزاج الشعبي: يلعب المزاج الشعبي واستطلاعات الرأي دورًا في عملية اختيار المستشار الاتحادي الجديد، بداية من تحفيز أو إحباط المرشحين المحتملين على المستوى الفردي، وكذلك لتوجيه عملية الاختيار داخل الأحزاب والتحالفات نحو ترشيح الخيار الأكثر شعبية والأوفر حظًا. وهي عملية معقدة ومتغيرة، وقد تغيرت نسب المرشحين المحتملين خلال العام الماضي في استطلاعات الرأي بما يشير إلى التغيرات المحتملة.
3- نتائج الانتخابات: حتى مع حسم المرشح المحتمل لمنصب المستشار من قبل القوى السياسية المختلفة، فإن نتائج الانتخابات تظل عاملًا حاسمًا، خاصة في ظل تراجع حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي. حيث ستُلقي نتائج الانتخابات التشريعية القادمة بظلالها على التحالفات الحزبية وعلى عملية انتخاب البوندستاج الألماني للمستشار الاتحادي.
4- دعم ميركل: غيرت “ميركل” من مشهد الانتخابات في ألمانيا بإعلانها منذ عامين عن عدم ترشحها لمنصب المستشار الاتحادي، بعد نجاحها في الاحتفاظ بالمنصب أربع ولايات كاملة. وفي ظل شعبيتها الكبيرة ودورها السياسي فمن الممكن أن تلعب “ميركل” دورًا في عملية التنسيق الجارية لاختيار خليفتها، وأن يشكل دعمها ترجيحًا لكفة أحد المرشحين. لكن ذلك لا يعني بالضرورة ترشيح أو نجاح هذا الاختيار، حيث خرجت “كرامب كارينباور” من السباق رغم دعم “ميركل” لها، حيث استقالت من رئاسة الحزب وأعلنت عدم ترشحها كمستشارة لألمانيا الاتحادية على خلفيات انتقادات وأزمات شهدها الحزب.
5- مواجهة كورونا: لعب وباء (كوفيد–19) دورًا محوريًا في تشكيل توجهات الرأي العام الألماني تجاه الساسة الألمان والمرشحين المحتملين لمنصب المستشار. وكما سبقت الإشارة فإن الأداء الجيد لبعض المسؤولين الحكوميين خلال الجائحة رفع من أسهمهم الشعبية. ولذلك فإن الجائحة ومواجهتها واللقاحات كلها من العوامل المؤثرة بشدة على نتائج الانتخابات التشريعية، وأحد محددات اختيار المستشار الألماني الجديد.ختامًا، تواجه ألمانيا خلال هذا العام واحدًا من أكبر تحدياتها السياسية في السنوات الأخيرة، والذي يتجسد في عملية اختيار خليفة المستشارة الألمانية “أنجيلا ميركل”. وبينما يوجد العديد من الأسماء فإن التنبؤ بقدرة أحد الأطراف على حسم المقعد لا يبدو بالأمر اليسير نظرًا لتقارب الفروق. وبينما تصعد أسهم “ينس شابان” و”ماركوس زودر” فإن “أرمين لاشيت” يأمل أن يرث “ميركل” في مقعد المستشار كما فعل في زعامة الحزب.