يبقى التوقيع على إحياء الاتفاق النووي متوقّعاً، لأن الطرفين الرئيسيين يحتاجان إلى إنهاء المفاوضات بوضع شبه مستقرّ، بحيث تستطيع الولايات المتحدة إعلان أنها أوقفت التقدم الحاصل في البرنامج الإيراني ووضعته مجدّداً على سكة منع إيران من الحصول على سلاح نووي. أما إيران فستحصل على رفع تدريجي للعقوبات، ما يمكّنها من العودة إلى الأسواق، وشيئاً فشيئاً إلى النظام المصرفي.
في المقابل، سيكون عليها أن تعاود التزام قيود الاتفاق على نسبة تخصيب اليورانيوم، وعلى نوع أجهزة الطرد المركزي وعددها، فضلاً عن قبول أعمال الرقابة والتفتيش، وهذه قيود كانت طهران قد تخلّصت منها في سياق ردّها على الانسحاب الأميركي من اتفاق 2015 واستئناف فرض عقوبات عليها بلغت هذه المرّة حداً غير مسبوق.
في حدود ما هو معروف عن مضمون الاتفاق، فإن على إيران أن تعيد تفكيك برنامجها إلى المستوى الذي بلغه في 2018 قبل أن تعيد تنشيطه، وتكون قد اكتسبت الخبرة العلمية والتقنية التي تعوّضها عما ستخسره، بعدما أكّد مسؤولون عديدون أخيراً أنها قادرة على إنتاج سلاح نووي “إذا توفّر قرار بذلك” من القيادة. أما الخسارة الإيرانية الكبرى فتكمن في الاقتصاد، وفي ما طرأ عليه من تأخير للتنمية والتطوير بسبب العقوبات، كما في نمط الحياة الذي فرضته على فئات الشعب والمؤسسات الحكومية والخاصة، وليس مؤكّداً ولا واضحاً أن “القيادة” – أي المرشد و”الحرس الثوري” – ستخصّص لاحقاً الموارد اللازمة لتطبيق الخطط التي وضعتها الحكومات المتعاقبة، من حسن روحاني |لى إبراهيم رئيسي، لإنهاض الاقتصاد، أم أنها تفضّل إبقاء البلاد في التقشّف والحرمان اللذين فرضهما “اقتصاد العقوبات” والالتفاف عليها، ولم يكن يستفيد منه سوى “الحرس” ومؤسساته وصناعاته الحربية ومشاريعه الخارجية. لكي يستفيد الشعب من الموارد العائدة بعد رفع العقوبات، لا بد من أن يكون النظام قد حسم أمره لإعطاء مزيد من المساحة لـ”الدولة” على حساب “الثورة”. هذا يتطلّب تغييراً في العقلية السياسية، أو في “العقيدة”، ولا مؤشّرات إليه.
هل المعلن من الأهداف الأميركية يكفي فعلاً كي تعتبر الإدارة أنها حققت ما تريده في الاتفاق النووي المرتقب؟ لا شك في أن إعادة البرنامج الإيراني إلى تحت الرقابة هدف مهم، ولا ينكره خصوم إيران، لكن تساؤلات 2015 تُطرح مجدّداً عن المهلة الزمنية للاتفاق، وعن مدى ضبطه للبرنامج النووي، وعن تأثيره في “السلوك” الإيراني. لن يستطيع جو بايدن أن يكرّر التكهّنات الواهية التي أطلقها سلفه باراك أوباما، فالتغيير “الإيجابي” في سياسات طهران سيكون صفرياً ومعدوماً. ثم إن الظروف اختلفت، وما كان عداءً لأميركا مؤصّلاً ومؤدلجاً في عقول نظام الملالي، أصبح الآن برنامجاً قيد التنفيذ لإخراج أميركا، أقلّه من البلدان التي تعتبرها إيران مواقع لنفوذها الإقليمي واستطاعت ترسيخها تحت غطاء التفاوض النووي وسكوت أميركي وغربي لإنجاحه.
زادت الظروف تبدّلاً بفعل الغزو الروسي لأوكرانيا، وقبله الاتفاق الاستراتيجي بين بكين وطهران لفترة 25 سنة، واتفاق مشابه قيد التبلور بين موسكو وطهران، فضلاً عن ارتسام محور صيني – روسي تتموضع إيران كجزء منه، بل إن ضلعَيه الأكبرين يستطيعان اعتبار إيران سبّاقة سياسياً بشحنها العقائدي ضد أميركا، وحتى عسكرياً بتنمّر ميليشياتها على القوات الأميركية بالصواريخ والمسيّرات في العراق وسوريا. وكما في 2015 كذلك في 2021، رفضت إيران أي تفاوض على برنامجها الصاروخي وسياساتها الإقليمية، وهما يتيحان لها الحفاظ على ميليشياتها كـ”بديل” من قنبلة نووية مؤجّلة.
في هذه الحال، تكون محدودةً جداً المكاسب الأميركية الاستراتيجية من أي اتفاق نووي، وبالطبع تكون كل النظريات عن استمالة إيران أميركياً فاقدة معناها، لأنها كانت في الأصل مجرد أوهام، ما دام الملالي قد حدّدوا منذ البدايات أن علّة وجود نظامهم وبقائه ترتكز على النبذ التام لأي انفتاح على أميركا. ولذلك فإن “الانسحاب الأميركي” من الاتفاق النووي يبقى احتمالاً وارداً، ولا تزال إيران تلحّ على استباقه بـ”ضمانات” مكتوبة تعتبرها من “خطوطه الحمر” لتقييد أي رئيس أميركي مقبل، ولأنها لن تحصل عليها، فقد طلبت التزاماً أميركياً بإعفاء الشركات الأجنبية من العقوبات لمدة سنتين ونصف سنة بعد أي انسحاب أميركي محتمل من الاتفاق. ولا ترفض واشنطن هذا الشرط، إلا أنها تصرّ على أن “الإعفاء” يسري فقط إذا واصلت إيران التزام قيود الاتفاق على برنامجها، حتى لو انسحبت أميركا منه. وفي ذلك تنازل يرضي الأوروبيين، ويُفترض أن يكفي الإيرانيين، أما واشنطن فالأرجح أنها لن تكرّر “خطأ” الانسحاب، ما لم تضمن جدواه، لكنها ستحاول إيجاد الظروف المناسبة لفتح التفاوض، سواء لتعديل الاتفاق أم لتوسيعه ليشمل ما هو مطلوب فعلاً كي يكون “اتفاقاً عادلاً” وقابلاً لتفعيل حوار مجدٍ بين إيران ومحيطها العربي.
كان على الولايات المتحدة أن تولي اهتماماً جدّياً لسياسات إيران في محيطها الإقليمي، لكنها اختارت إرضاء إيران لتتمكّن من مساومتها في الشأن النووي. تطلّعت أميركا إلى “شراكة” ما مع طهران في مواجهة الصين وهي تعلم أنها لن تحصل، راهنت على “تحييد” طهران في حرب أوكرانيا لـ”تُفاجأ” بصفقات “الدرون” مع روسيا، انشغلت فقط بأولوية حماية “أمن إسرائيل”، وأهملت المخاطر والهواجس التي تؤرّق دول الخليج وتقلق العرب عموماً… تأخّرت واشنطن كثيراً في محاسبة إيران، أو على الأقل في محاولة محاسبتها على التخريب المنهجي الذي مارسته وتمارسه في اليمن وسوريا والعراق ولبنان وغزّة. تلك أكبر عملية تخريب دولية لم يتسنَّ لمجلس الأمن أن ينظر فيها، فكل قراراته المتعلقة بأزمات المنطقة لا ذكر فيها لإيران، على رغم أن دورها أساسي في العبث بالدول الأربع وتدمير مؤسساتها.
كمن يروّج لبضاعته، قال جوزيب بوريل (مسؤول السياسة الخارجية الأوروبية) إن نجاح الاتفاق النووي “سيعني مزيداً من البترول في الأسواق”. لا شك بأنه يمسّ مسألة حيوية للأوروبيين، لكنه ربما يتسرّع بالقفز إلى النتائج، فإيران تتحفّز لإعادة نفطها إلى الأسواق، لكن أهدافها السياسية وحساباتها الثأرية لا تفارق تجارتها، ثم إنها تخطّط مع روسيا لسياسة طاقة مختلفة، سواء للأسعار أم للإمدادات. ومن جانب آخر، بعد المواجهات الأخيرة في شمال شرقي سوريا، ستتعرّف الولايات المتحدة أكثر إلى أهداف التنسيق الروسي – الإيراني (بمواكبة صينية) الرامي إلى “طردها” من الشرق الأوسط.
نقلا عن النهار العربي