مصالح مشتركة:
دوافع التقارب بين الجزائر وألمانيا

مصالح مشتركة:

دوافع التقارب بين الجزائر وألمانيا



في سياق تصاعد حدة الأزمة التي تواجهها ألمانيا بسبب نقص إمدادات الطاقة الذي فرضه استمرار الحرب الروسية-الأوكرانية، وتعقيدات المشهد الإقليمي في منطقة المغرب العربي على خلفية التوتر بين الجزائر والمغرب بسبب قضية الصحراء، تتزايد التصريحات المتبادلة بين المسئولين الجزائريين والألمان، والتي تركز على أهمية رفع مستوى العلاقات الثنائية التي شهدت تطورات مهمة خلال الفترة الماضية. وقد انعكس ذلك في الاتصال الهاتفي الذي أجراه الرئيس الألماني فرانك شتاينماير، في 5 أكتوبر الجاري، مع نظيره الجزائري عبدالمجيد تبون، والذي أكد من خلاله حرص برلين على رفع مستوى العلاقات التي تربطها مع الجزائر.

ويمكن القول إن حرص الجزائر وبرلين على تطوير العلاقات الثنائية يعود إلى حجم المكاسب المتبادلة التي ينتجها تعزيز الشراكة بين الجانبين، بما يعنيه ذلك من دلالات سياسية واقتصادية تتركز حول الدور الدولي لألمانيا وأهميته بالنسبة إلى الجزائر مقابل موقع الأخيرة على خارطة الغاز العالمي، والذي بات يمثل أولوية لبرلين في هذا التوقيت. وخلال الاتصال الهاتفي بين شتاينماير وتبون، عبّر الرئيس الألماني عن تأييد ألمانيا ومساندتها لدور المبعوث الأممي إلى الصحراء، كما أشاد بدور الجزائر في تثبيت السلم والاستقرار في المنطقة وفي عموم أفريقيا.

مُحفِّزات عديدة

شهدت العلاقات بين ألمانيا والجزائر تطورات لافتة خلال المرحلة الماضية، بفعل دوافع عديدة، في الصدارة منها توجه الجزائر للبحث عن حليف أوروبي جديد بعد تعليقها، في 8 يونيو الماضي، معاهدة الصداقة وحسن الجوار والتعاون التي أبرمتها عام 2002 مع إسبانيا، وذلك على خلفية تغيير مدريد موقفها بشأن قضية الصحراء. كما تراجع مستوى التبادل التجاري بين فرنسا والجزائر، على نحو بدا جلياً في انخفاض الصادرات الفرنسية للجزائر في عام 2020 لتصل إلى نحو 3.4 مليارات دولار، وذلك بسبب اتساع نطاق الخلافات العالقة بين الطرفين حول العديد من الملفات، وإن كانت باريس قد بدأت في اتخاذ خطوات إجرائية لتحسين العلاقات مجدداً، وهو ما انعكس في الزيارة التي قامت بها رئيسة وزراء فرنسا إليزابيث بورن إلى الجزائر، في 9 أكتوبر الجاري، يرافقها نحو نصف وزراء حكومتها.

وفي المقابل، كشفت التصريحات الإيجابية للمسئولين الجزائريين عن رغبة في تعميق العلاقات مع برلين. فعلى سبيل المثال، قال الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون في حديثه مع مجلة “دير شبيجل” الألمانية، في 6 نوفمبر الماضي: “إن هناك العديد من الإمكانيات المتاحة في التعاون بين الجزائر وألمانيا”، وأضاف: “هناك مشاريع شراكة كبرى تلوح في الأفق بين البلدين”.

ويبدو أن تزايد حدة القلق الألماني من تطورات الأزمة الليبية كان دافعاً أيضاً إلى توسيع نطاق التعاون مع الجزائر، في ظل الدور الذي تقوم به الأخيرة في هذه الأزمة. وفي رؤية اتجاهات عديدة، فإن برلين ربما تحاول دفع الجزائر إلى التدخل من أجل ممارسة ضغوط على أطراف ليبية للانخراط في جولات حوار جديدة للوصول إلى تسوية للأزمة والاتفاق على إجراء الاستحقاقات الانتخابية في المرحلة القادمة.

مكاسب متبادلة

يمكن القول إن تطوير العلاقات بين الجزائر وألمانيا يحقق مكاسب متبادلة للدولتين، يتمثل أبرزها في:

1- تأمين احتياجات ألمانيا من الغاز: مَثَّل ملف الطاقة بعد تصاعد الحرب في أوكرانيا، وتهديد روسيا بقطع صادراتها من الطاقة إلى أوروبا، بُعداً مهماً في توجه برلين نحو دعم تقاربها مع الجزائر. ويحظى الغاز الجزائري بأولوية استراتيجية على الأجندة الألمانية نظراً لعدة اعتبارات، منها تصاعد مخاوف ألمانيا التي تعتمد بشكل كبير على الغاز الروسي، واتجاه موسكو للرد على العقوبات الغربية بقطع الغاز. وقد زاد من حدة هذه المخاوف تعرض خطى “نورد ستريم 1″ و”نورد ستريم 2” لأضرار خطيرة بسبب التدمير الذي لحق بهما، في 26 سبتمبر الفائت. وفي رؤية برلين، فإن الخيار الجزائري يكتسب سمات عديدة، منها القرب الجغرافي بين الجزائر وأوروبا، فضلاً عن سهولة نقل الغاز عبر الأنابيب، على نحو يمكن أن يساهم في تخفيض تكلفته بثلاث مرات مقارنة بالغاز المسال الذي يتطلب ناقلات عملاقة من أجل نقله.

2- استعادة الثِقل وملء الفراغ في أفريقيا: تسعى ألمانيا إلى استعادة دورها في القارة الأفريقية، ويبدو أنها تحاول استثمار تطوير العلاقات مع الجزائر كمدخل لتحقيق هذا الهدف. وفي هذا السياق، قام المستشار الألماني أولاف شولتز بزيارة عدد من دول القارة، في الفترة من 22 إلى 25 مايو الماضي، شملت كلاً من السنغال والنيجر وجنوب أفريقيا. ويبدو أن برلين قد أدركت أن تراجع دورها في القارة فرض تداعيات سلبية على مصالحها، فضلاً عن أنها باتت تعتبر أن تقليص الوجود العسكري الفرنسي من منطقة غرب أفريقيا، بات يفرض عليها محاولة ملء الفراغ الناتج عن ذلك، لا سيما في ظل تحرك روسيا من أجل تحقيق هذا الهدف، على نحو ترى الدول الأوروبية أنه لا يتوافق مع مصالحها، في ظل تنامي الخلافات بين الطرفين بسبب الحرب الروسية-الأوكرانية.

3- تقليص الضغوط الأمريكية المستمرة: لا ينفصل اهتمام الجزائر بتطوير العلاقات مع ألمانيا عن تصاعد الضغوط الأمريكية عليها بسبب استمرارها في رفع مستوى التعاون مع روسيا. وقد انعكست تلك الضغوط في مطالبة 27 عضواً في الكونجرس الأمريكي، في 29 سبتمبر الفائت، وزير الخارجية أنتوني بلينكن، بضرورة فرض عقوبات على الجزائر، عبر قانون “مكافحة أعداء أمريكا من خلال العقوبات”، وذلك بسبب صفقات الأسلحة التي تبرمها مع روسيا. وربما تحاول الجزائر عبر ذلك توجيه رسالة إلى واشنطن مفادها أن لديها القدرة على توسيع هامش الخيارات المتاحة أمامها على الساحة الدولية في حالة ما إذا تزايدت الضغوط الأمريكية المفروضة عليها.

4- تعزيز العلاقات الثنائية العسكرية: في سياق مساعي الجزائر لتنويع مصادر وارداتها العسكرية، واتجاه ألمانيا للبحث عن أسواق جديدة لصادراتها التسليحية، حرصت برلين والجزائر على تعزيز تقاربهما خلال المرحلة الحالية. وهنا، يمكن تفسير موافقة الحكومة الألمانية، في 31 أغسطس الماضي، على منح تصاريح جديدة لتصدير أسلحة إلى الجزائر، وذلك وفقاً لخطاب بعثت به وزارة الاقتصاد الألمانية إلى اللجنة الاقتصادية في البرلمان. وبموجب هذه الموافقة ستحصل الجزائر على 102 آلية تحريك لتوجيه الأسلحة في ناقلات الجند المدرعة “فوكس” من إنتاج شركة فيتنشتاين موشن كونترول.

5- تثبيت الدعم الألماني للجزائر: تهدف الجزائر عبر توسيع نطاق التعاون مع ألمانيا إلى دفع الأخيرة إلى التماهي مع مواقفها إزاء العديد من الملفات الإقليمية، خاصة في ظل التوتر الذي طرأ على العلاقات سواء مع المغرب، أو مع العديد من الدول الأوروبية خلال الفترة الماضية. وتدرك الجزائر مدى ثِقل الدور الألماني على الساحة الأوروبية، على نحو تسعى إلى استثماره بما يتوافق مع مصالحها في المرحلة القادمة.

تحديات محتملة

رغم حرص الجزائر وألمانيا على المضى قدماً في اتجاه رفع مستوى العلاقات الثنائية، إلا أن ذلك لا ينفي أن ثمة تحديات قد تواجه ذلك، يتمثل أهمها في اتساع نطاق العلاقات بين روسيا والجزائر، فضلاً عن الجهود التي تبذلها فرنسا من أجل استعادة مساحة التقارب مع الأخيرة، وتجاوز الخلافات العالقة بين الطرفين، على نحو برز في الأهمية الخاصة التي أبدتها باريس للزيارة الأخيرة التي قامت بها رئيسة الوزراء إلى الجزائر، وهو ما يعني في النهاية أن هناك حدوداً للتقارب بين الدولتين يفرضها تشابك سياساتهما إزاء التعامل مع قضايا رئيسية طرأت على الساحة الدولية في الفترة الماضية.