الشائع في محاولات فهم العالم تعبيرات مثل «التعقيد»، و«عدم اليقين». حاولنا في هذا المقام من زوايا متعددة الفهم من خلال محركات نظرية أتت من حالة قوى الإنتاج، أو الأفكار المسيطرة على التغيير، أو التحليل الواقعي الذي استند إلى حالة القوى وتوازناتها. السبب في محاولة الفهم منذ البداية أنه مهما كان القول الشائع صحيحاً عن تراجع العولمة، أو أنها تتآكل بشكل آخر Deglobaliztion فإن الحقيقة التي لا يمكن تجاهلها هي أن الدول وشعوبها تتصل بالعالم وتتفاعل معه، بأكثر من أي وقت مضى في تاريخ الإنسانية سفراً وتجارة، وثقافة وتعليماً.
ما يحدث في العالم لم يعد أموراً تجري في بلاد أخرى؛ ومهما كانت المسافة فإن الحرب أو السلام يلقيان بظلالهما على السياسات الخارجية للدول، وكذلك أفرادها في قرارات السفر والعمل والتعليم وحتى التسوق.
فهم العالم هكذا ضروري؛ ليس لأنه متعلق بالأمن والسلم الدوليين فقط، في زمن باتت فيه الأسلحة النووية منتشرة علناً أو سراً؛ وإنما أيضاً لأنه متعلق بشدة بمسيرة الإنسان في صباحه ومسائه. في المحاولات السابقة حاولنا مع آخرين التمييز ما بين «النظام الدولي» و«النظام العالمي»، والتفرقة بين العالم متعدد الأقطاب، والقطبية الثنائية، والقطب الواحد؛ لأن ذلك كان يصف عالماً رأيناه ونحاول تبسيطه. الآن لم يعد الأمر يجري بهذه السهولة؛ بل هناك ركض نحو عالم متعدد الأقطاب تعود فيه ألمانيا واليابان إلى الساحة، وتسعى فيه الهند وتركيا إلى الوجود بشكل أو بآخر. مجموعة الدول السبع، وجماعة العشرين، أصبحت تدافع القطبية؛ بينما تظهر جماعات جديدة مثل «شنغهاي» و«البريكس» الجديدة بانضمام أعضاء جدد؛ ووسط ذلك كله عادت مجموعة «عدم الانحياز» لتحاول أن تجد لنفسها مكاناً جديداً.
عالم العلاقات الدولية الدكتور محمد عبد السلام، نشر مؤخراً في دورية «إنترريجونال» مقالاً عنونه أولاً بالإنجليزية Hard Times، ثم أردف بالعربية: الإشكاليات المعلقة لتحليل حالة العالم في «الأوقات الصعبة». وفي المتن بدأ بوضع قائمة من المواضيع التي تحول بيننا وبين فهم العالم، أولها: ماذا يمكن أن يفعل العالم مع «الأمراض الوبائية»؟ وثانيها: هل خرجت الطبيعة عن «النمط المعتاد» نهائياً؟ وثالثها: هل عاد الصراع الدولي؟ ورابعها: ماذا يحدث داخل الأقاليم؟ وخامسها: كيف يمكن أن تنتهي حرب من نوعية أوكرانيا؟ وسادسها: كيف يتم التعامل مع «الفاعلين من دون الدول»؟ وسابعها: لماذا تنفجر الاضطرابات الاجتماعية في دول متطورة؟ وثامنها: ما الذي فعلته وسائل التواصل الاجتماعي في الرأي العام؟ وتاسعها: ماذا نفعل مع الذكاء الاصطناعي؟
الإشكاليات التسع شائعة في كل النقاشات العامة لمحاولات فهم العالم أولاً، ثم التنبؤ بما سوف يجري فيه ثانياً. ولعل ذلك يعكس تحديات وفرصاً يمكن الاستعداد لها بسياسات عاقلة ورشيدة. المؤكد أنه يمكن إضافة إشكاليات أخرى لها اتصال بالهوية، والنظام الاقتصادي العالمي وهو يترنح وسط منظماته وتحالفاته الدولية، وعما إذا كان ممكناً الخروج من العملة الدولية، الدولار؛ وهل ما زالت الديمقراطية القائمة على قاعدة الأغلبية والأقلية فاعلة داخل الدول أو خارجها؟
الثابت حتى الآن أنه لا توجد نظرية كلية مثل تلك التي تشمل «كل الأشياء»، مثل «الإنترنت»، أو تفسر الكون وتطوراته، مثل «النسبية» لآينشتاين، أو «التطور» لداروين؛ فما زالت الكتابات المختلفة حول القضايا الكونية تمضي وفق جماعات متنوعة تتأرجح بين «المثالية» و«الواقعية»؛ «الهيمنة» و«السيادة»، واحتمالات الانفجار وإمكانات التسوية. الشمول النظري العظيم بات مستحيلاً بينما عدد سكان العالم يتعدى 8 مليارات نسمة، توجد منها 3 مليارات في دولتين فقط: الهند والصين.
أيٌّ من الإشكاليات التي عرضها الكاتب تصلح للذهاب في اتجاه الجنة أو الجحيم؛ وفي الطريق إلى كل منهما لم يعد هناك «مفترق طرق» يحض العالم على الاختيار. ومثل ذلك ربما يكون مؤجلاً للنجاة من إبادة الوباء أو الحرب النووية أو الكارثة المتوقعة للذكاء الاصطناعي.
تجنب الاختيار هو الذي يجعل الولايات المتحدة مصممة على الوجود في منطقة الإندو- باسفيك، بينما تحاول في الوقت نفسه أن تبقي الأبواب على الصين مفتوحة. الترويج المستمر لوسيلة الصفقات المتكافئة على مدى القدرة في ذلك أو Transnationalism ربما تصنع فرصاً أو تفتح أبواباً، ولكن المجتمع الدولي يعلم أنها لا تعيد بناء الكوكب بطريقة مقبولة. «الإقليميات» الجديدة، بما فيها الشرق الأوسط، تخلق مجالات معقولة وبعيدة من حافة الهاوية الكوكبية، ولكنها ليست كافية لضمان المستقبل.
المصطلح الجديد عن الجنوب الكوني The Global South ربما يعطي فهماً لموقف الدول النامية من طرفي الحرب الأوكرانية- الروسية المتسم بنوع من الحياد النظري، ونوع آخر من التجربة، واستعارة سياسات سابقة، مثل عدم الانحياز، تلائم العصر، وفي الوقت نفسه تعظم المصالح حتى بطريقة موقتة.
الإشكالية التي يمكن إضافتها أن حيرة الفهم الراهنة ربما تقود إلى سياسات سوف ترتب أوقاتاً صعبة إضافية؛ خصوصاً أن الدول لن تجد إلا زيادة عناصر القوة واجباً في هذه المرحلة الصعبة. في الشرق الأوسط فإن سباقاً للتسلح النووي ربما يحل مشكلة الفشل الدولي في «اكتشاف» الأسلحة النووية الإسرائيلية، أو التعامل مع السلاح النووي الإيراني الذي يقترب من لحظة الحقيقة بتملك السلاح، بينما العالم يراقب مندهشاً مستويات التخصيب الإيرانية. مثل ذلك سوف يحتم عنفاً إسرائيلياً يفجر حرباً لم يفلح أحد في تجنبها، وربما يضاف إليه ما ذكرته صحيفة «يديعوت أحرونوت» الإسرائيلية مؤخراً، من إخراج إسرائيل من المأزق الفلسطيني بإقامة دولة فلسطينية في قطاع غزة، وهذه مع قيادة «حماس» للدولة الوليدة، وتعزيز استخراج الغاز من أمام القطاع، ما يمكِّن من إعطاء إسرائيل النجاح المفقود من المسيرة الإسرائيلية الناجحة سياسياً واقتصادياً وتكنولوجياً، منذ قيامها قبل ثلاثة أرباع قرن من الآن!
نقلا عن الشرق الأوسط