تقدم الإطار التنسيقي خطوة سياسية جديدة إلى الأمام تستبق مسار الحوار الوطني بخطوات. إذ أعلن، في 25 سبتمبر الجاري، عن تشكيل ائتلاف “إدارة الدولة” بمبادرة من زعيم ائتلاف دولة القانون نوري المالكي، ليزيح الستار عن خريطة الاصطفافات السياسية المرحلية، والتي يبدو أنها محصلة لمخاض “الغرف المغلقة” خلال الفترة الماضية، حيث يضم الائتلاف كلاً من الإطار التنسيقي، وتحالف العزم، والاتحاد الوطني الكردستاني، وتحالف السيادة، والحزب الديمقراطي الكردستاني، وكتلة بابليون المسيحية، والمرتقب أن تترجم هذه الاصطفافات بدورها خريطة طريق سياسية جديدة مدتها عام ونصف العام تقريباً للوصول إلى انتخابات مبكرة وفقاً لما تم الإعلان عنه.
على الجانب الآخر، دعا رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي إلى جولة ثالثة من الحوار الوطني، مؤكداً أهمية دور التيار الصدري في المشاركة السياسية. إلا أنه يمكن القول إن أغلب القوى المشاركة في الحوار الوطني هي من شكّلت خارج طاولة الحوار “ائتلاف الدولة”، في مؤشر على أن طاولة الحوار بدأت تفقد جدواها في ضوء هذه التطورات، إلى جانب استمرار رفض التيار الصدري المشاركة في الحوار، وبات من المرجح أن آلية الحوار في حال كُتب لها الاستمرار، فلن تكون أكثر من محاولة لتأكيد ضعف الأسس التي قام عليها الحوار والتي كانت تعتمد على فرضيتين: الأولى، الرغبة في استدعاء الصدر مرة أخرى للحوار السياسي. والثانية، أن يبقى الحوار كآلية لهذا الغرض.
دلالات متعددة
تطرح هذه الخطوة الجديدة دلالات عديدة يتمثل أبرزها في:
1- تراجع فرضية استرضاء الصدر: يشير التطور الأخير الخاص بتشكيل ائتلاف “إدارة الدولة” إلى أن القوى السياسية تتعاطى ببراجماتية أقرب إلى الواقعية السياسية، وأنها لن تسعى للإبقاء على حالة الانسداد السياسي نزولاً على رغبة التيار الصدري وموقفه السياسي الذي يُترجم في الخصومة مع قادة الإطار التنسيقي، وذلك نظراً لما يشكله هذا الارتهان من تداعيات على المصالح الخاصة بتلك القوى السياسية، والتي ترجمتها بدورها إلى مصالح مشتركة.
2- استبعاد مسار “العودة إلى الحنانة”: وهو المسار الذي أُعلن عنه عقب جولة الحوار الثانية، وكان يعتمد على نقل الحوار من طاولة الحوار الوطني إلى طاولة “الحنانة” على غرار ما كان قائماً في السابق قبل انفجار الأزمة ووصولها إلى نقطة التصعيد المسلح، حيث أُشيع عقب الجولة الثانية أنه تشكلت لجنة ثلاثية من قيادات مشاركة في الحوار الوطني (هادي العامري عضو الإطار التنسيقي، ومحمد الحلبوسي رئيس مجلس النواب الذي أعلن في 26 سبتمبر الجاري تقديم استقالته والتي سيبت فيها المجلس بعد ذلك بيومين، ونيجرفان برزاني رئيس إقليم كردستان) ستتوجه إلى الصدر، وأن الأخير أبدى مرونة في التعاطي مع الأمر، بل وأشير إلى أن اللقاء كان سيتم الأسبوع الماضي وهو ما لم يحدث. ونُقل عن الصدر تأجيل لقاء “قيادي” من لجنة الحوار، لم يتم الكشف عن تفاصيله، إلى ما بعد مناسبة المولد النبوي الشريف.
3- تجدد الجدل حول “دور” الكاظمي: على الرغم من مظلة الحوار الوطني الذي دعت إليه الدولة ممثلة في حكومة مصطفى الكاظمي، إلا أن التيار الصدري أدخلها كطرف في الأزمة، ووضعها في مأزق الحياد، باقتراح مشروع التمديد لها، وهو ما شكّل منعطفاً فرعياً جديداً للجدل القانوني الخاص بمشروعية إدارتها للمرحلة الانتقالية الجديدة من عدمه. لكن من المتصور أنه أصبح هناك منظور سياسي جديد لمظلة الدولة، تبلور في مشروع تشكيل الائتلاف الجديد، الذي أنتج عبر مسارٍ موازٍ للحوار الوطني، ويعكس هذا المنظور دلالة أخرى وهي أن ائتلاف “إدارة الدولة” عابر للخلافات الطائفية والإثنية، وإن لم يعد مقتصراً على الإطار التنسيقي.
ففي السياق ذاته، ضم الائتلاف الجديد الحزبين الكرديين (الوطني، والديمقراطي)، في دلالة مزدوجة، تؤكد من جهة على أولوية الخروج من خندق الاستقطاب، ومن جهة أخرى إخراج الخلافات من دائرة “الغرف المغلقة” التي فشلت في إنتاج صفقات سياسية، إلى الإطار المؤسسي. فعلى سبيل المثال، أعلنت فيان صبري رئيسة كتلة الحزب الديمقراطي الكردستاني في البرلمان أن الخلاف حول المرشح لمنصب رئيس الجمهورية سيعالج داخل البرلمان، وهو إعلان ربما يتقاطع مع موقفها المعلن سابقاً بأن كتلتها لن تشارك في البرلمان إلا بعد تسوية سياسية للخروج من حالة الانسداد، وبالتالي ستشهد الفترة المقبلة تحديد ما إذا كان تشكيل الائتلاف يعني الوصول إلى هذه التسوية التي ستنقل المشهد بدورها إلى البرلمان، أم أنه لا تزال هناك حاجة لمزيد من الوقت لإنضاج تسوية سياسية.
4- تزايد احتمالات تشكيل حكومة السوداني: بالتزامن مع الإعلان عن ائتلاف “إدارة الدولة”، عقد النائب محمد شياع السوداني، المرشح لرئاسة الحكومة من الإطار التنسيقي، مؤتمراً صحفياً أعلن فيه عن توجهات حكومته التي أكد فيها على أنها ستكون خدمية في المقام الأول، كرسالة ضمنية على أن أولويته هي تجاوز تداعيات الانسداد السياسي على المواطن العراقي. وفي حين لم يتم الكشف عن أن السوداني أصبح مرشح الائتلاف الجديد وليس فقط مرشح التنسيقي؛ إلا أن عقد المؤتمر بالتزامن مع الإعلان أشار إلى إمكانية ذلك، خاصة في ضوء التلميحات بشأن تشكيل حكومة من القوى المنضوية تحت مظلة الائتلاف.
حسابات التيار
لم تعد المعادلة السياسية الجديدة ترجح كفة موقف زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر، إذ لا تزال ردود الفعل بانتظار “تغريدات” صالح محمد العراقي الذي يعرف بـ”وزير القائد”، والتي تكشف عن رد فعله. وعلى الأرجح ثمة عدة سيناريوهات متوقعة لرد الفعل، منها الاستمرار في البقاء على مسافة من التطورات السياسية، والتقليل من جدواها إلى حد ما، على غرار الموقف من انعقاد الحوار الوطني، أو تعزيز موقف “الانعزال” عن السياسة، أو ترقب تطور جديد لتغيير دفة الموقف السياسي كالفصل القضائي في مسألة عودة نواب الكتلة الصدرية إلى البرلمان، أو الانتظار لحين انتهاء المرحلة الانتقالية التي أقرها ائتلاف “إدارة الدولة” بعام ونصف العام، لإثبات حضوره وثقله السياسي، أو التعويل على كافة هذه السيناريوهات.
في الأخير، من المتصور أن تأسيس ائتلاف “إدارة الدولة” هو خطوة نوعية في تفاعلات المشهد العراقي، كاشفة عن طبيعة الاصطفافات السياسية للخروج من مشهد الانسداد السياسي، لكن من الأهمية بمكان الإشارة إلى أنها تظل خطوة جزئية، وإن كان ذلك لا يقلل من أهميتها، لكنها ليست نهاية المطاف في التسوية السياسية، ففي المقابل لا يزال من المبكر تحديد مدى قدرة التيار الصدري على التعاطي مع هذه المعادلة، أو ترقب تفاعلات جديدة غير منظورة في المشهد السياسي. وإلى أن تحين تلك المتغيرات، فإن المعادلة السياسية الراهنة تمنح الائتلاف الجديد القدرة النسبية على الإمساك بزمام المبادرة السياسية لتحويل المشهد السياسي العراقي، وتحريره ولو مؤقتاً من معادلة الاستقطاب ما بين “الإطار” و”التيار”.