ماذا لو؟ – الحائط العربي
ماذا لو؟

ماذا لو؟



عند اتخاذ القرارات المهمة، وفى لحظات الأزمات الكبرى، لابد أن يكون أمام صانع القرار تحليل متكامل، وخريطة طريق لسيناريوهات تشرح كافة الاحتمالات. هذه السيناريوهات تأتى أحيانًا تحت عنوان: «ماذا لو؟»، أى «ماذا» ستكون النتائج «لو» انطلقنا من افتراضات مختلفة.

سيناريوهات «ماذا لو؟» تستهدف معالجة أحد أمراض عملية صنع القرار، وهو «تفكير المجموعة»، بمعنى خوف مَن يشارك فى عملية صنع القرار من إبداء رأى قد يختلف عما يعتقد أنه رأى المجموعة، بما يجعله يظهر وكأنه معارض لها.

بعض الدول تعالج هذا الأمر من خلال تخصيص شخص أو أكثر داخل مجموعة صنع القرار، يطلق عليه «محامى الشيطان»، ويقوم بدور «المنشق» على رأى المجموعة، وتحدى الافتراضات التى تبنى عليها قرارها، وطرح سيناريوهات «ماذا لو؟».

على سبيل المثال، قام الرئيس الأمريكى السابق جون كيندى بتخصيص شخصين للقيام بهذا الدور أثناء أزمة الصواريخ الكوبية مع الاتحاد السوفيتى، وأسهم وجودهما فى تبنى قرارات فعالة. وقام الرئيس جونسون بالتعامل مع تصعيد الحرب فى فيتنام بنفس الآليات. ومن وقتها أصبحت فكرة محامى الشيطان، وطرح سيناريوهات «ماذا لو؟» جزءًا أساسيًّا من عمليات صنع القرار فى العديد من الدول، وأحد الإسهامات الرئيسية لمراكز الفكر والبحث.

والمتابع لتطورات الأزمة الأوكرانية سوف يجد تحليلات كثيرة تتضمن سؤال «ماذا لو؟». على سبيل المثال نشر موقع مجلة الشؤون الخارجية الشهيرة تحليلًا، منذ أيام قليلة، عنوانه: «ماذا لو لم تنته الحرب فى أوكرانيا؟.. العواقب العالمية لصراع طويل»، وسنجد دراسات أخرى بعنوان: «ماذا لو قاطعت ألمانيا الطاقة الروسية؟»، و«ماذا لو شجع الغزو الروسى لأوكرانيا الصين على مواجهة تايوان؟».. وغيرها.

استوقفنى فى تقديرات «ماذا لو؟» بشأن أوكرانيا تحليلان، الأول للخبير البريطانى فى الشؤون الروسية «مارك جالوتى» طرح فيه سيناريو ماذا لو استمر بوتين فى الضغط على أوكرانيا بدلًا من غزوها؟، وهل كان ذلك أفضل له؟.

الباحث ينتقد قرار روسيا بغزو أوكرانيا، ويرى أن بوتين كان منتصرًا حتى اللحظة التى عبرت فيها دباباته الحدود، فقد جمع قوة عسكرية على حدود أوكرانيا، كانت بمثابة إحدى أدوات الدبلوماسية القسرية، وكان لها تأثير شديد على الاقتصاد الأوكرانى، فمَن سيفكر فى الاستثمار بها فى ظل احتمال غزو روسى؟، كما كان هناك تيار من السياسيين الغربيين يسافرون إلى موسكو لتقديم التماس إلى بوتين بعدم الغزو، وقد حقق هذا أحد أهداف بوتين، وهو الشعور بأن روسيا قوة عظمى وأن الجميع يأتون إليه، وقامت بعض الحكومات الأوروبية بممارسة ضغوط على الرئيس الأوكرانى لتقديم تنازلات لموسكو. وكان يمكن لبوتين أن يترك التحذيرات الأمريكية بشأن غزو وشيك تمر الواحد تلو الآخر، وعند نقطة معينة كان بإمكانه أن يقول للأوروبيين: لماذا يكذب الأمريكيون عليكم بشأن الغزو الوشيك؟، وهل يكذبون عليكم فى أمور أخرى؟. وبالتالى كان بإمكانه الإسهام فى كسر الرابطة عبر المحيط الأطلنطى بين الولايات المتحدة وأوروبا، وهو أحد أهدافه الرئيسية. ولكنه قرر الغزو، وفقد انتصارًا كان يمكن أن يحققه دون المعركة العسكرية.

تحليل آخر مثير للاهتمام نُشر بجريدة النيويورك تايمز الأمريكية، منذ ثلاثة أسابيع، بعنوان: «ماذا لو أن بوتين لم يخطئ فى التقدير؟». المؤلف «بريت ستيفنز» يعارض القناعة الراسخة فى الغرب، وهى أن بوتين أخطأ التقدير بشكل كارثى فى الأزمة الأوكرانية.

ويجادل: ماذا لو أن هذه القناعة كانت خاطئة؟، ماذا لو أن بوتين نجح فى التلاعب بالغرب لتحقيق مصالحه؟، ويطرح افتراض أن بوتين ربما لم يقصد أبدًا غزو أوكرانيا بأكملها، فقد كانت أهدافه الحقيقية، منذ البداية، هى ثروات الطاقة فى شرق أوكرانيا، التى تحتوى على ثانى أكبر احتياطيات معروفة من الغاز الطبيعى فى أوروبا، بحيث تنضم المقاطعات الشرقية إلى شبه جزيرة القرم، (التى ضمها من قبل وبها أيضًا حقول طاقة ضخمة)، وبضم الخط الساحلى إليها يتضح شكل طموحات بوتين، وأن اهتمامه الأساسى يتعلق بتأمين هيمنة روسيا فى مجال الطاقة.

أما بالنسبة لما تبقى من أوكرانيا، التى سوف تصبح دولة بدون سواحل، فمن المحتمل أن تكون عبئًا على الغرب، الذى سيتولى إعادة توطين اللاجئين خارج منطقة السيطرة الروسية. وبمرور الوقت، يمكن لشخصية شعبوية أن تتولى رئاسة أوكرانيا كما حدث فى دول بأوروبا الشرقية، وقد تفضل هذه الشخصية التعاون مع بوتين. ويختتم المؤلف مقاله بأنه إذا كان هذا التحليل صحيحًا، فلا يبدو أن بوتين هو الخاسر الذى أخطأ فى التقدير كما يقول منتقدوه، وإنه فى الحرب والسياسة والحياة، من الحكمة دائمًا أن تعامل خصمك على أنه ثعلب ماكر وليس أحمق مجنونًا.

باختصار تحليلات «ماذا لو؟» تسهم فى توسيع الأفق وترشيد صنع القرار وتعلُّم الدروس التاريخية، وما أحوج مراكزنا البحثية إلى القيام بمثل هذه التحليلات.

نقلا عن المصري