نعيش اليوم فى عالم يتسم بسرعة التغيير وتلاحق الأحداث على النحو الذى يجعل متابعتها وتحليلها أمرًا مرهقًا بسبب تعدد العوامل المؤثرة فيها، وتشابك تداعياتها الإقليمية والدولية، وأدى ذلك إلى زيادة اللايقين بشأن مسارها ومُستقبلها.
فما كاد العالم يخرج من أزمة وباء كوفيد ــ19 ويبدأ فى التعافى من تأثيراتها السلبية، حتى تصاعد التوتر فى العلاقات الروسية الغربية بسبب توسع حلف الأطلنطى شرقًا والمخاوف الروسية من دعوة أوكرانيا للانضمام إليه، ورفض الولايات المتحدة الموافقة على الضمانات الأمنية التى طلبتها موسكو فى ديسمبر 2021 ـــ وهو ما عرضت له فى مقال الأسبوع الماضى مما أدى إلى عبور القوات الروسية الحدود مع أوكرانيا، وبدء الحرب التى أكملت منذ يومين ـــ24 فبرايرـــ عامها الأول.
على مدى الشهور الماضية، لم تعد الحرب فى أوكرانيا مجرد صراع إقليمي، بل تحولت إلى مباراة استراتيجية كبرى متعددة الأبعاد بين روسيا ودول الكتلة الغربية بقيادة الولايات المُتحدة، وامتدت آثارها وتداعياتها لتشمل سائر أرجاء المعمورة، وأصبحت الأزمة الرئيسية التى تمسك بخناق العالم فى 2023 وتهدد أمنه وسلامته، وتؤثر على توازن القوى بين الدول الكبرى. ويرجع ذلك إلى أربعة اعتبارات:
أولها، طول مدة الحرب فقد استمرت لأكثر من 365 يوما ولا تبدو لها نهاية قريبة. ومن الواضح، أن كلاً من الطرفين المتحاربين مُصمم على استمرار القتال، ربما لاعتقاده بإمكانية إحراز النصر وإلحاق الهزيمة بالطرف الآخر، وربما لتحسين وضعه العسكرى على الأرض قبل وقف إطلاق النار وبدء عملية تفاوضية. فروسيا، تستمر فى القتال من خلال جيشها النظامى وقوات فاجنر التى تمثل رأس الحربة فى مناطق التماس مع الجيش الأوكراني، وتسيطر على مزيد من الأراضى بعد قتال شرس. والولايات المتحدة والدول الغربية ـــ حليفة أوكرانيا ـــ تقوم بتزويد كييف بأنماط من الأسلحة المتقدمة التى تطيل أمد الحرب، وهو ما ظهر بجلاء فى خطاب الرئيس بايدن خلال زيارته كييف فى 21 فبراير، فالهدف الغربى اليوم هو إرهاق روسيا واستنزاف طاقاتها العسكرية والاقتصادية.
وثانيها، التأثيرات الجيو ـــ استراتيجية التى أوجدتها الحرب فى أوروبا ودول التحالف الغربي، والتى من أهمها: بعث الحيوية فى حلف الأطلنطى الذى توطدت العلاقات بين دوله، وقبول فنلندا والسويد كعضوين جديدين فيه بعد سنوات طويلة من اتباعهما لسياسة الحياد، وازدياد السيطرة الأمريكية على قضايا الأمن الأوروبي، وتدهور العلاقات بين روسيا وأمريكا ودول حلف الأطلنطى إلى أدنى مستوى لها منذ عام 1991. من التأثيرات المهمة أيضًا، عسكرة ألمانيا واليابان، وإعلان زيادة الموازنة المخصصة لدعم القدرات العسكرية بمبلغ 100 مليار يورو للأولي، و74 مليار دولار للثانية، وارتفاع الإنفاق العسكرى أيضًا فى أغلب الدول الأوروبية الأخرى.
وثالثها، تغيرات جيواستراتيجية مماثلة فى علاقات روسيا الاقتصادية مع آسيا. فقد زادت صادراتها من النفط إلى الصين بشكل مطرد، وارتفعت نسبة التصدير إليها بنسبة 22% فى سبتمبر 2022 عن نظيره فى العام السابق. وشغلت موسكو بذلك المرتبة الثانية بين الدول المصدرة للنفط إلى الصين بعد السعودية. كما ازداد تصدير النفط الروسى إلى الهند فى 2022 بحيثُ أصبحت روسيا أكبر مُصدِر للنفط إليها، وفى يناير 2023 غطى النفط الروسى ربع احتياجات الهند.
تبدو أهمية تطور العلاقات بين موسكو وبكين فى ضوء البيان المشترك الذى وقعه رئيسا البلدين فى 4 فبراير 2022، والذى أكد العلاقة الاستراتيجية الوثيقة بين البلدين التى وصفها بأنها «صداقة بلا حدود». وأكد الطرفان المصالح المشتركة بينهما فى مواجهة الولايات المتحدة والغرب. ومن الأرجح، أن الصين لن تسمح بأن تتطور الأمور فى الحرب على النحو الذى يُلحق الهزيمة بروسيا، خصوصا فى إطار علاقاتها المتوترة أصلا مع واشنطن والتى زاد منها إسقاط الجيش الأمريكى للمنطاد الصينى واتهام الصين بالتجسس على أمريكا.
ورابعها، الآثار الجيو ـــ اقتصادية للحرب، والتى ظهرت فى نقص إمدادات الحبوب من روسيا وأوكرانيا اللذان يمثلان أهم مُصَدّرين لها فى العالم مما أدى إلى ارتفاع أسعارها، ومنظومة العقوبات الاقتصادية التى فرضتها الدول الغربية على روسيا والتى بلغت تسع حزم حتى الآن تشمل جوانب العلاقات المالية والاقتصادية، وتوقف إمدادات النفط والغاز الروسى إلى أغلب الدول الأوروبية، وأدى ذلك إلى ارتفاع أسعار الطاقة وموجات من التضخم وارتفاع الأسعار، وانخفاض توقعات البنك الدولى وصندوق النقد الدولى لمعدل نمو الاقتصاد العالمى واقتصادات الدول الغربية المتقدمة فى عام 2023. وبينما شملت هذه التأثيرات السلبية الجميع، فقد كانت وطأتها أكثر قسوة على الدول النامية والفقيرة.
كل حرب لها نهاية تكون على مائدة المفاوضات، وهو ما ينطبق على حالة الحرب فى أوكرانيا إن آجلا أو عاجلا. فمن الواضح أنها أنهكت طرفيها، أنهكت روسيا بشريا مما أدى إلى استدعاء الاحتياطى وقبول المتطوعين من غير الروس للمشاركة فى الحرب وإغرائهم بمنح الجنسية الروسية لهم مقابل التطوع. وأنهكت أوكرانيا التى تم تدمير جزء كبير من بنيتها التحتية، واضطرار ما يزيد على 13 مليون فرد إلى مغادرة مدنهم وقراهم ما بين نازح ولاجئ، وأنهكت الدول الغربية التى اتضح نقص مخزونها من الأسلحة والذخائر مما يؤثر على جاهزيتها العسكرية.
سوف تصمت مدافع هذه الحرب فى يوم ما، ولكن العالم لن يعود إلى ما كان عليه قبل نشوبها. فقد أوجدت حقائق جديدة ومُعطيات سوف تستمر بعد انتهاء الحرب.
نقلا عن الأهرام