أزعجنى بشدة ما تم تداوله على نطاق واسع، أمس، بأن آلاف الجثث قد جرفها التيار فى «درنة»، وهو تعبير يوحى بحجم المأساة التى خلفتها العاصفة «دانيال» التى ضربت شرق ليبيا، وكانت نتيجتها آلاف الضحايا والمفقودين.
ولكن تلك المأساة ربما ليست المأساة الأولى لـ«درنة»، بل هى ليست المأساة الأولى لـ«ليبيا»، وحجم الكارثة، وإن كان أشد المآسى قسوة، إلا أنه دالّ على مآسٍ أخرى ضربت ليبيا طوال سنوات وسنوات.
لم يتوقف عداد الضحايا حتى الآن فى تلك المدينة التى عانقها البحر من ناحية والجبال الخضراء من ناحية أخرى، وتحوّل العناق من لفظ حانٍ رقيق يوحى بالمودة إلى حصار قاتل راح ضحيته الآلاف غير المعلوم عددهم حتى الآن بسبب العاصفة الأخيرة.
تبقى الكارثة الطبيعية من صنع الطبيعة، شئنا أم أبينا، حتى لو ظن أهلها أنهم قادرون عليها، فمسألة التحكم فى الطبيعة تبقى فى علم الغيب، حتى لو تقدم العلم أكثر فأكثر، لذا فإن التعاضد والتكاتف لإخراج «درنة» من أزمتها مهمة عالمية، تشارك فيها كل المؤسسات الدولية، لكن المدينة كانت تعانى من مآسٍ أخرى سابقة، وللأسف كانت صناعة بشرية بامتياز.
لنعرف الحكاية، حكاية «درنة» التى تقع بين البحر المتوسط والطرف الشرقى للجبل الأخضر بشرق ليبيا، وهى إحدى مناطق الغابات القليلة فى البلاد، ويتراوح عدد سكانها بين 85 ألف نسمة و90 ألفًا، وهى مشهورة بمناظرها الطبيعية الجميلة.
وقد أرسل لى صديق ليبى عزيز فيديو قصيرًا للمدينة قبل أن تعصف بها العاصفة «دانيال»، كان جمالها يضاهى أجمل المدن الساحلية كما صورتها أفضل عدسات المصورين. هذه الصورة تجعلنا نشعر بالأسى والمأساة التى تعانيها المدينة فى صورتها الحالية.
المدينة المنكوبة أو المظلومة- كما وصفها كثيرون، وهو وصف صحيح- عانت الأمَرَّيْن، عانت فى السابق من يد الطبيعة كذلك، فقد بُنيت على طول «وادى درنة»، وهو نهر يجف معظم أيام السنة، وتاريخيًّا، إذ تعرضت المدينة لأضرار متكررة بسبب الفيضانات، حيث كان الهدف من بناء سدى «أبومنصور ودرنة» فى أعلى المدينة هو السيطرة على تآكل التربة ومنع الفيضانات، ويبدو أن السدين قد ساعدا فى غرق المدينة بعد انهيارهما بسبب العاصفة.
كانت المدينة قديمًا ميناءً مهمًّا على البحر الأبيض المتوسط فى العالم القديم لليونانيين والرومان. ومن تاريخها المثير أنها كانت عام 1805 موقعًا لمعركة «درنة» الشهيرة، فى أول انتصار يحققه جيش الولايات المتحدة الأمريكية على أرض أجنبية بعد استقلالها عن بريطانيا، ووقعت هذه الحرب بسبب الهجمات على السفن الأمريكية فى «المتوسط»، ومطالبتها من قِبَل الليبيين بدفع «إتاوات» مقابل السماح لها بالملاحة فى «المتوسط».
ولم يكن هذا هو القتال الأخير فى المدينة، بل كان مقدمة لسلسلة غير متصلة أو مرتبطة من المعارك والنزاعات بين الفصائل والاتجاهات المختلفة، التى للأسف جميعها يحمل الجنسية الليبية، وسوف نتحدث عن ذلك فى مقال الغد.
نقلا عن المصري اليوم