دافع الرئيس التونسي “قيس سعيد” خلال استقباله رئيسة الحكومة “نجلاء بودن”، في 10 يناير 2022، عن الاستشارة الإلكترونية التي طرحها ضمن إجراءات الإصلاح السياسي التي تضمنتها خريطة الطريق التي أعلنها “سعيد” في 13 ديسمبر الماضي، بالتأكيد على أنها تهدف بشكل رئيسي إلى تحديد مستقبل البلاد السياسي والاجتماعي والاقتصادي. وعزّز الرئيس “سعيد” دفاعه عن الاستشارة الإلكترونية، بأنها طريقة مجربة سابقاً في عدد من الدول، مثل فنزويلا والبرازيل وتشيلي، بغرض التعرف على توجهات آراء المواطنين حول عدد من الموضوعات والقضايا المختلفة التي تهم مواطني الدولة.
قضايا رئيسية
وقد أطلقت وزارة تكنولوجيات الاتصال التونسية المنصة الإلكترونية المخصصة لجمع مقترحات أفراد الشعب التونسي بشأن الإجراءات الاستثنائية التي اتخذها رئيس الدولة في 25 يوليو الماضي ولا تزال مستمرة حتى الآن، وتم إطلاقها بشكل تجريبي في 24 محافظة تونسية بمراكز الشباب، لمدة أسبوعين من 1 إلى 14 يناير الجاري، لتقييم التجربة ثم إطلاقها بشكل رسمي في 15 يناير الجاري. وتتضمن الاستشارة الإلكترونية ستة مجالات رئيسية لمعرفة آراء المواطنين فيها، وهي: الشأن السياسي والانتخابي، والشأن الاقتصادي والمالي، والشأن الاجتماعي، والتنمية والانتقال الرقمي، والصحة وجودة الحياة، والشأن التعليمي والثقافي. وتتضمن الاستشارة الإلكترونية في هذه القضايا الست المشار إليها، ثلاثين سؤالاً، إلى جانب مساحة للتعبير الحر حول الشأن السياسي والانتخابي والاقتصادي والتعليمي والثقافي. ومن المقرر أن يتم عرض مخرجات هذه الاستشارة بعد الصياغة النهائية لها على الاستفتاء الشعبي في شهر مارس القادم، وسيكون تعديل دستور 2014 والقانون الانتخابي الحالي، من بين أبرز المسائل التي سيتضمنها هذا الاستفتاء.
دوافع الانتقادات
قبل الانطلاق الرسمي للاستشارة الإلكترونية في 15 يناير الجاري، بعد تجربة لمدة أسبوعين بدأت في الأول من شهر يناير الجاري، ومن المفترض أن تستمر هذه الاستشارة الإلكترونية (استفتاء شعبي عبر منصات إلكترونية) حتى 20 مارس القادم؛ ازدادت حدة الانتقادات الموجهة لهذه الاستشارة، كما ارتفعت دعوات مقاطعتها، وذلك استناداً إلى عدد من الأسباب، من أهمها ما يلي:
1- حوار غير حقيقي: يستند المعارضون لفكرة الاستشارة الإلكترونية إلى أنها لا تعبر عن حوار حقيقي بين الدولة وكافة ممثلي الشعب التونسي من أحزاب وقوى سياسية ومجتمعية ومنظمات مجتمع مدني، وهو ما يجعلها بديلاً غير جاد لإجراء حوار سياسي حقيقي يسفر عنه إخراج البلاد من أزمتها السياسية المتفاقمة في الوقت الحالي، كما أنها تكرس لاقتناع الرئيس “سعيد” بإقصاء الأحزاب السياسية من الحوار الوطني، وتركيزه على فئة الشباب فقط، وهو ما أدى إلى غضب الأحزاب السياسية التي أصبحت معارِضة لفكرة الاستشارة الإلكترونية، ويستندون في ذلك أيضاً إلى أن الاستشارة الإلكترونية تتعارض مع ما وعد به الرئيس “سعيد” عند إعلانه خريطةَ الطريق في ديسمبر الماضي، من إجراء حوار حقيقي في المحافظات والمعتمديات بشكل مباشر بين الرئيس والمواطنين، ولذلك دعا حراك “مواطنون ضد الانقلاب” الممثل لحركة النهضة لمقاطعة الاستشارة الإلكترونية التي تُعد -من وجهة نظرهم- غير قانونية وتحايلاً على الدستور.
2- تكريس انفراد الرئيس بالحكم: ينتقد المعارضون لفكرة الاستشارة الإلكترونية أيضاً بسبب أن هذا النوع من الحوار الذي فرضه الرئيس “قيس سعيد” يهدف فقط إلى تحقيق الأهداف التي يسعى الأخير لتحقيقها، وعلى رأسها إسقاط المنظومة السياسية السابقة، وإحلال منظومة جديدة عبر تغيير النظام السياسي القائم إلى نظام رئاسي، وتعديل القوانين الانتخابية والدستور الوطني، ومن ثم تكريس حكم الفرد الذي يسعى “سعيد” لإعادة إحيائه مرة أخرى في البلاد، وهي الفكرة التي تروج لها حركة النهضة وأنصارها المعارضون لاستمرار الحالة الاستثنائية في البلاد منذ شهر يوليو الماضي، وتتهم الرئيس “سعيد” بمواصلة فرض الإجراءات الاستثنائية لتكريس الحكم الفردي من خلال توسيع صلاحياته التي امتدت لتشمل السلطتين التشريعية والتنفيذية، إلى جانب اتهامه بتسييس القضاء على خلفية إلقاء القبض على بعض قيادات حركة النهضة ووضعهم تحت الإقامة الجبرية لحين الانتهاء من التحقيقات معهم في الاتهامات المنسوبة إليهم بالتورط في جرائم الإرهاب والحصول على تمويلات أجنبية وارتكاب مخالفات انتخابية في عام 2019.
3- غياب الحلول الفاعلة: يستند المعارضون -كذلك- إلى التشكيك في قدرة هذا الأسلوب على طرح حلول للمشكلات والتحديات الداخلية المختلفة على كافة المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وبالتالي لا يمكن الاعتماد على ما ينتج عنها من نتائج في رسم ملامح المستقبل السياسي للبلاد. ويدعي المعارضون أيضاً أن حل الأزمات الاقتصادية والاجتماعية يقتضي إجراء حوار وطني حقيقي بين الرئيس وحكومته والأحزاب والقوى السياسية والمجتمعية من أجل التوصل بشكل مباشر إلى حلول فاعلة لهذه الأزمات، وبالتالي التشكيك في مصداقية نتائج هذا النوع من الحوار.
4- تعطيل المسار الديمقراطي: حيث عبرت حركة النهضة وبعض الأحزاب الأخرى، مثل “التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات” و”حزب التيار الديمقراطي”، عن رفضهم للاستشارة الإلكترونية التي يدعمها الرئيس “قيس سعيد” بقوة، ويبررون ذلك بأنها سوف تتسبب في تعطيل المسار الديمقراطي في البلاد، وهو ما دفع هذه الأحزاب لدعوة الشعب التونسي لمقاطعة الاستشارة الإلكترونية، واعتبارها انقلاباً على الشرعية الانتخابية، ولا تعكس إرادة الشعب التونسي الحقيقية؛ نظراً لأن الاستشارة خاضعة لسيطرة ورقابة السلطة التنفيذية، وأن التعبير الحقيقي لإرادة الشعب يكمن في التوجه لصناديق الاستفتاء، وبالتالي تُعد الاستشارة أداة لتطويع الرأي العام وإرساء لمنظومة دستورية جديدة.
5- انخفاض معدلات المشاركة: يستند المعارضون -كذلك- لمسألة الاستشارة الإلكترونية إلى انخفاض أعداد المشاركين في الإدلاء بأصواتهم عبر المنصات الإلكترونية التي خصصتها الدولة لمعرفة آراء وتوجهات المواطنين إزاء المسائل السياسية والاقتصادية والاجتماعية المطروحة في هذه الاستشارة. وفي هذا الإطار، أشار “شوقي الشيحي” (مدير عام تكنولوجيات الاتصال في تونس) إلى أن عدد المشاركين منذ انطلاق الاستشارة في 1 يناير الجاري وحتى الآن بلغ 600 شخص فقط، وهو مؤشر هام على ضعف المشاركة في هذه الاستشارة، كما أن هناك مشكلة تتعلق بوجود عدد كبير من المواطنين يستخدمون شرائح هاتف ليست مسجلة بأسمائهم، وهو ما قد يمثل عائقاً أمام زيادة المشاركة في هذه الاستشارة، حيث يتطلب الدخول على المنصة تسجيل الأسماء عبر الهاتف، واستلام رسالة لمساعدة المواطن على التسجيل والمشاركة.
تصحيح الأخطاء
وفي حين تزايدت الأصوات المعارِضة للاستشارة الإلكترونية والدعوة لمقاطعتها، إلا أن هناك قطاعات واسعة من الشعب التونسي وعدداً من الأحزاب السياسية، أيدتها ودافعت عنها، وذلك استناداً إلى ما يلي:
1- فرصة للتعبير عن الرأي: يرى المؤيدون لفكرة الاستشارة الإلكترونية، ومنهم حزب “التيار الشعبي”، أنها تُعد فرصة حقيقية لتصحيح الأخطاء التي ارتكبها النظام السياسي السابق والحكومات المتعاقبة خلال السنوات العشر الأخيرة؛ حيث تتيح هذه الأداة الفرصة أمام فئات وشرائح كثيرة من الشعب التونسي (مثل: الطلاب، وأصحاب الشهادات العليا العاطلين عن العمل، والتونسيين المقيمين بالخارج) للتعبير عن آرائهم بحرية ونزاهة ودون قيود من أحد، ومن ثمّ نقل اقتراحاتهم وآرائهم إلى مؤسسة الرئاسة والحكومة للأخذ بها، ووضعها في عين الاعتبار حين إجراء الإصلاحات السياسية والدستورية خلال الفترة القادمة.
2- المشاركة في الحياة السياسية: كما تُتيح الاستشارة الإلكترونية الفرصة كاملة أمام الشعب التونسي للمشاركة في الحياة السياسية بعد أن اقتصرت المشاركة فيها على بعض النخب السياسية طوال السنوات العشر الماضية وما ترتب على ذلك من استشراء الفساد المالي والسياسي والإداري، وتعثّر أداء الحكومات المتعاقبة، مما أدى إلى تأزم الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية بشكل غير مسبوق في البلاد، وشجع بعض الدول والجهات الأجنبية على التدخل في الشؤون الداخلية للبلاد.
3- سهولة المشاركة في الاستفتاء الإلكتروني: حيث وفّرت الدولة منصة إلكترونية ذات إجراءات تتسم بالسهولة واليسر تساعد المواطنين على الدخول عبر شبكة الإنترنت واستخدام هذه المنصة للإدلاء بمقترحاتهم، كما أنّ توفر خدمات الإنترنت لدى 45% من الأسر التونسية يُتيح لهم الفرصة كاملة أمام المشاركة بفاعلية، كما أن الحكومة قامت بتخصيص بعض المراكز المخصصة في مراكز الشباب بالمحافظات التونسية لمساعدة الأسر التي ليس لديها خدمات الإنترنت على المشاركة.
شرعية الإصلاح
تكشف الاستشارة الإلكترونية التي دعا إليها الرئيس التونسي “قيس سعيد” عن رغبته في معرفة توجهات الرأي العام التونسي إزاء ما اتخده من إجراءات سابقة، ومعرفة آرائهم بشأن ما سيتم اتخاذه من إجراءات لاحقة، وبالتالي فإن استشارة الشعب التونسي تمنح إجراءات الرئيس “سعيد” شرعية لاستكمال الإصلاحات السياسية والدستورية خلال الفترة القادمة، وفي الوقت نفسه الرد على الاتهامات الموجَّهة له بالانفراد بالسلطة. وترجح المعطيات الراهنة محدودية فرص دعوات المقاطعة التي تقوم بها حركة النهضة وحراك مواطنون ضد الانقلاب؛ نظراً لضعف موقفهم في ظل الاتهامات الموجَّهة إليه بالفساد والإرهاب، وفي المقابل وجود اتجاه كبير داخل المجتمع التونسي يرغب في تفعيل مشاركته في الحياة السياسية.