عاد التيار القومي بشكل لافت ليبرز في تفاعلات المشهد السياسي التركي، وذلك بعد فترة من الانقسامات والتناحر، بدأت تقريباً مع استقالة ميرال أكشنار عن حزب الحركة القومية في يوليو 2017، وتأسيسها حزباً جديداً بعنوان “الخير”. وشهد التيار القومي التركي حضوراً بارزاً مع الانتخابات التشريعية والرئاسية التي شهدت تركيا جولتها الأولى في 14 مايو الجاري، وستجري جولتها الثانية في 28 من الشهر ذاته، حيث كشفت عن تمتع القوميين الأتراك على المستوى الداخلي بقدر كبير من الدعم الشعبي والحزبي، وهو ما تمثل في نسب الأصوات التي حصلت عليها الأحزاب القومية، سواء المنخرطة في تحالف الشعب الحاكم، أو التي انضوت تحت تحالف الأمة المعارض، أو تحالف الأجداد الذي شكله القومي المتشدد “سنان أوغان”.
مؤشرات بارزة
1- التقدم اللافت في الانتخابات البرلمانية: شهدت الانتخابات البرلمانية الأخيرة تقدماً بارزاً للتيار القومي في تركيا، حيث حصل حزب الحركة القومية على 10,06 من مجموع الأصوات، و50 مقعداً مقابل حصول حزب الجيد على 9,96 في المائة من الأصوات و44 مقعداً. بينما حصل تحالف الأجداد الذي يقوده حزب النصر القومي المتشدد على نحو 2,25 في المائة من الأصوات. وسجلت الأحزاب القومية في تركيا مجتمعة أكثر من 22.26 بالمائة من إجمالي الأصوات في الانتخابات البرلمانية، وهي نسبة تقترب من إجمالي أصوات حزب الشعب الجمهوري الذي حصل على 25,39 في المائة.
2- حسم الانتخابات الرئاسية: تبدو الكتل القومية هي فرس الرهان في حسم الانتخابات الرئاسية، خاصة بعد حصول مرشح تحالف الأجداد القومي “سنان أوغان” في الرئاسيات التركية على 5,17 في المائة من مجموع الأصوات. والأرجح أن الأصوات التي حازها “سنان أوغان”، فتحت الباب للتساؤلات عن الدور الذي يمكن أن تلعبه الكتلة القومية في صناعة المشهد الرئاسي، بعدما ظل هذا الدور مقروناً خلال السنوات الماضية بـ”حزب الشعوب الديمقراطي” الكردي. لذلك، يبدو أن الصوت القومي سيكون هو الأكثر تأثيراً في جولة الإعادة في الانتخابات الرئاسية، وترجيح من سيفوز بالرئاسة التركية.
3- تأكيد الرصيد الشعبي المتجذر: كشفت التطورات السياسية التي شهدتها الساحة التركية في السنوات الخمس الأخيرة، والاستحقاقات الانتخابية التي نظمتها البلاد منذ عام 2017، عن الرصيد الشعبي للتيار القومي في تركيا،الذي يرى أنه يؤهله للوصول إلى صدارة خريطة التنظيمات السياسية الموجودة على الساحة التركية، أو على الأقل يكون ضمن مكوناتها الرئيسية، وظهر ذلك مثلاً في تأثير التحركات القومية في استفتاء 2017 لتحويل البلاد لجهة النظام الرئاسي، حيث كان حزب الحركة القومية هو كلمة السر في إنهاء النظام البرلماني. وبالتوازي لعب حزب الخير القومي دوراً معتبراً في دعم فوز المعارضة التركية بالبلديات الكبرى في الانتخابات المحلية 2019.
4- التأثير على توجهات السلطة الحاكمة: ساعد تصاعد حضور التيار القومي في تركيا، والذي وصل إلى الذروة مع تحالف حزب العدالة والتنمية مع حزب الحركة القومية في عام 2018، في إحداث تأثير كبير على توجهات السياسة الخارجية التركية، خاصة حيال القضايا التي تمثل أولوية للقوميين الأتراك. فقد دعم القوميون الأتراك التوجهات المناهضة للحكومة التركية ضد حزب العمال الكردستاني وأذرعه في شمال سوريا والعراق، وظهر ذلك في تأييد الأحزاب القومية على اختلاف توجهاتها السياسية العمليات العسكرية التي يطلقها الجيش التركي ضد قواعد الكردستاني خارج حدود تركيا. ويشار أيضاً إلى أن الأحزاب القومية في تركيا، كانت حصان طروادة في دعم سياسات العدالة والتنمية المتشددة تجاه اليونان وأوروبا في السنوات الأخيرة. وبحسب تقديرات متباينة، فإن سياسات العدالة والتنمية وخطابه في السنوات القليلة الأخيرة، يكشف عن جنوحه نحو اليمين والقومية، فعلى سبيل المثال بات البعد الأمني هو العنوان الأبرز في التعاطي مع الأكراد.
بالتوازي، وفي ظل تآكل شعبية الرئيس التركي على خلفية التراجع الحادث في مؤشرات الاقتصاد، وعدم قدرة الشعب الجمهوري على استعادة صدارة المشهد بمفرده؛ باتت الأحزاب القومية هي فرس الرهان سواء للسلطة الحاكمة، أو حزب الشعب الجمهوري المعارض. فمثلاً بات أردوغان يعتمد أكثر من أي وقت مضى على دعم حزب الحركة القومية لضمان بقائه في صدارة السلطة. فقد كان حزب الحركة القومية بمثابة الغطاء السياسي للرئيس أردوغان وحزبه “العدالة والتنمية” والحكومة في عدة ملفات داخلية وخارجية.
5- موازنة دور الشعب الجمهوري: على الرغم من تشابه القناعات والقواسم المشتركة بين القوميين الأتراك، وحزب الشعب الجمهوري وريث أتاتورك، والذي يحظى بحضور واسع في أوساط القواعد العلمانية في الداخل التركي؛ إلا أن الأحزاب القومية تمكنت من تحقيق اختراق لافت في الشارع التركي خلال السنوات الأخيرة، خاصة بعد خسارة الشعب الجمهوري جانباً واسعاً من رصيده التقليدي، بعد اتهامه بالابتعاد كثيراً عن مبادئ مؤسسيه، وظهر ذلك في انفتاحه على الأكراد، ناهيك عن تجاوز الهوية التركية في سبيل المصلحة السياسية، وظهر ذلك مع إعلان كليجدار أوغلو عن موافقته على تقنين الحجاب.
الواقع أن حزب الشعب الجمهوري في الوقت الذي ظل متخندقاً فيه حول أفكاره الأيديولوجية، بالإضافة إلى عدم كاريزمية رئيسه كليجدار أوغلو؛ تمكنت الأحزاب القومية من الاشتباك مع الواقع السياسي، وبناء صفقات سياسية متنوعة مع الأطراف المختلفة في الداخل التركي، ناهيك عن القدرة على فهم الخريطة المجتمعية الجديدة في البلاد، وقدرتها على التجاوب مع متطلباتها.
دوافع متعددة
ارتبط صعود التيار القومي خلال المرحلة الأخيرة على الساحة التركية باعتبارات متنوعة، وفرت بيئة خصبة لدعم وترسيخ نفوذ القوميين الأتراك، في الصدارة منها معاداة حزب العمال الكردستاني، الذي تصنفه أنقرة “إرهابياً”. وفي سياق تعزيز صورته الذهنية، حرص القوميون الأتراك على توظيف الهجمات الكردية في الداخل التركي لتعزيز الحضور في الوعي الجمعي التركي، وذلك على حساب أحزاب المعارضة الأخرى، وبخاصة حزب الشعب الجمهوري الذي أبدى تقارباً لافتاً مع التيار الكردي، وهنا يمكن فهم انسحاب ميرال أكشنار في مارس الماضي من الطاولة السداسية، على خلفية التماهي بين كليجدار أوغلو وحزب الشعوب الديمقراطي. وفي المقابل، يلعب حزب الحركة القومية دوراً بارزاً في توجه السلطة الحاكمة في البلاد نحو عسكرة الأزمة مع الأكراد.
على صعيد متصل، ارتبط صعود نفوذ التيار القومي، وزيادة دوره في المشهد التركي الحالي، بمواقف القوميين من قضية اللاجئين، ودعوتهم لضرورة ترحيلهم، ولاقت هذه المواقف استحساناً لدى الأوساط الشعبية في تركيا، والتي تبدي استياء من سياسة الباب المفتوح التي تبناها الرئيس أردوغان تجاه اللاجئين. جدير بالذكر أنه رغم تباين المواقف السياسية للتيارات القومية في تركيا، واصطفافها تجاه أطراف مختلفة، إلا أنها تتوافق على أهمية التخلص من مسألة اللاجئين، وهو الأمر الذي قُوبل باستحسان في الداخل التركي.
بالتوازي، فإن زيادة زخم القوميين لا ينفصل عن تصاعد حدة الاستقطاب السياسي في الداخل التركي، بين حزب العدالة والتنمية، وحزب الشعب الجمهوري، والذي وصل إلى حد التصريحات والتصريحات المضادة بين أردوغان، وكليجدار أوغلو، بالإضافة إلى الارتدادات السلبية التي أفرزها خروج عدد من القيادة المؤسسة للعدالة والتنمية الحاكم، وتدشين أحزاب بديلة، وهو ما منح القوميين فرصة أفضل لتقديم أنفسهم باعتبارهم طريقاً ثالثاً أو طرفاً داعماً لمن يدافع عن مصالح أنقرة، وأولوياتها القومية والوطنية. وهنا، يمكن تفسير حصول الأحزاب القومية (الخير- الحركة القومية- النصر) على ما يقرب من 12.17 مليون صوت في الانتخابات البرلمانية الأخيرة.
إنعاش الروح
في الختام، يمكن القول إنه في ظل حالة الانقسام التي تعتري التيار القومي، وفشل ترميم “البيت القومي”، خاصة في ظل إصرار حزب الحركة القومية على الانحياز للتحالف الحاكم، وتوجه حزب الخير وحزب النصر إلى ضفة المعارضة؛ إلا أن الحضور اللافت للقوميين في الانتخابات الأخيرة، وصعود التأثير السياسي للتيار القومي في توجهات السياسات التركية خلال المرحلة الماضية، قد تدفع نحو إنعاش الروح القومية، لا سيما وأن الرهان على حسم الجولة الثانية في انتخابات تركيا الرئاسية بات مرهوناً بالوجهة التي سيتحرك إليها الناخبون القوميون.