تعد جزر القمر من بين أهم الجزر التي تسعى واشنطن إلى تعزيز علاقات التعاون البحري معها، ضمن استراتيجيتها البحرية في المحيطين الهندي والهادئ، وهو ما يمكن تفسيره استناداً لجملة من الاعتبارات أبرزها الأهمية الاستراتيجية لجزر القمر التي تتمتع بموقع استراتيجي هام بالقرب من قناة موزمبيق، إحدى الطرق البحرية الهامة التي يمر من خلالها حوالي 30% من حركة ناقلات النفط العالمية، وتعد طريقاً بديلاً محتملاً للتجارة الدولية، فضلاً عن احتواء التمدد الصيني وموازنة الوجود العسكري الفرنسي في المنطقة، الأمر الذي ينتج عنها تأثيرات محتملة منها: زيادة التنافس البحري الأمريكي-الصيني، وتنامي التحالفات والتحالفات المضادة في المنطقة، وزيادة حدة الاستقطابات السياسية الإقليمية والداخلية في الدول الأفريقية.
ففي 4 يوليو الجاري، تحدث وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، في بيان نشرته وزارة الخارجية الأمريكية عبر موقعها الإلكتروني، بمناسبة يوم جزر القمر الوطني، وقال: “لقد كان هذا العام بمثابة منعطف في توسيع علاقتنا مع شعب جزر القمر”. وأوضح أن واشنطن وموروني وقّعتا بياناً مشتركاً حول سبل التعاون، فضلاً عن استضافة جزر القمر مسؤولاً أمريكياً بارزاً؛ وهو ما يثير التساؤلات حول أسباب تزايد الاهتمام الأمريكي بتعزيز التعاون مع جزر القمر، إذ يأتي في الوقت الذي اتجهت فيه قوى دولية عديدة إلى تعزيز علاقاتها مع الدول الجزرية، بما في ذلك جزر القمر وسيشل وموريشيوس ومدغشقر، لتعزيز حضورها في المنطقة، ولا سيما الصين التي تسعى إلى ربط دول المنطقة باستراتيجيتها البحرية وما يُعرف بمبادرة “الحزام والطريق”، وإنشاء شبكة من الموانئ المتصلة التي تربط الدول الساحلية في شرق أفريقيا بغرب آسيا وحتى الصين، وذلك لتعزيز النفوذ الاقتصادي والعسكري للصين ما وراء حدودها البحرية، وبشكل يسمح لها بحماية مصالحها الاقتصادية والسياسية والعسكرية. فيما لا تزال الولايات المتحدة وفرنسا تحتفظان بوجود عسكري أكبر في المنطقة، وتسعى كل منهما للحفاظ على نفوذها البحري وتوسيعه في المنطقة في مواجهة التحركات الصينية والروسية بالمنطقة.
عوامل عديدة
ثمة جملة من العوامل وراء تزايد الاهتمام الأمريكي بتعزيز التعاون مع جزر القمر، ومن أهمها:
1- الأهمية الاستراتيجية لجزر القمر: وهي دولة أفريقية جزرية تقع في جنوب غرب المحيط الهندي، وتتمتع بموقع استراتيجي هام بالقرب من قناة موزمبيق، إحدى الطرق البحرية الهامة التي يمر من خلالها حوالي 30% من حركة ناقلات النفط العالمية، وتعد طريقاً بديلاً محتملاً للتجارة الدولية، كما تقع هذه الجزيرة على طول ممر شحن رئيسي تستغله الصين في نقل النفط إليها، حيث تتنافس القوى الدولية على تعزيز حضورها في المنطقة لحماية مصالحها وحركة تجارتها وإمداداتها النفطية عبر المحيط الهندي. كما أنّ الصين تعتبرها موقعاً مثالياً لإنشاء محطات المراقبة الاستخباراتية، لرصد التحركات الدولية في المنطقة والاتصالات عبر الأقمار الصناعية. ومن ثمّ تسعى الولايات المتحدة إلى تعزيز وجودها العسكري والاقتصادي والسياسي في هذه الجزيرة ذات الأهمية الاقتصادية والاستراتيجية، وخاصة بعدما أشارت تقارير دولية إلى اكتشافات النفط والغاز فيها.
2- احتواء التمدد الصيني في المنطقة: حيث تشير الاستراتيجية العسكرية الصينية (إصدار ٢٠٢٠)، إلى نهج “محيطين” يركز على المحيطين الهادي والهندي، وإنشاء “نقاط دعم استراتيجية بحرية” و”مخطط قوي للمحيطين” يمكن أن يُواجه أي أزمة. وتسعى استراتيجية إنشاء القواعد الصينية في المحيط الهندي إلى حل “معضلة مضيق ملقا”، حيث تعبر واردات الصين من الشرق الأوسط وأفريقيا (بما في ذلك ٨٠% من نفطها) عبر الممرات البحرية في المحيط الهندي التي يحرسها أعداء محتملون، وبصورة أساسية البحرية الأمريكية. لذلك، تسعى الصين لبناء قواعد عسكرية في غرب المحيط الهندي، وعلى طول الساحل التنزاني، وفي الجزر الأفريقية، ولا سيما في سيشل وموريشيوس وجزر القمر، وذلك لتأمين حركة تجارتها وامتداداتها من البترول والغاز عبر المحيط.
3- موازنة الوجود العسكري الفرنسي في المنطقة: فلدى فرنسا وجود قديم في المحيط الهندي، وخاصة وجودها العسكري في الجزر المتناثرة بالمحيط، وتسعى واشنطن إلى موازنة هذا الوجود الفرنسي في المنطقة، وخاصة بعد تصاعد التنافس البحري بينهما في المحيطين الهندي والهادئ. وبعد تشكيل التحالف الأمني بين أستراليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة (AUKUS)، والذي أدى إلى إلغاء صفقة الغواصات الفرنسية الأسترالية، مما دفع فرنسا إلى الدعوة إلى استقلال استراتيجي أكبر للاتحاد الأوروبي، ولذلك عملت باريس خلال رئاستها لمجلس الاتحاد الأوروبي (من يناير إلى يونيو 2022)، على بناء أوروبا القوية والقادرة على العمل بشكل مستقل بدون الاعتماد على الولايات المتحدة لتلبية الاحتياجات الأمنية، وتقليل الاعتماد الاقتصادي على الصين وسط مخاوف متزايدة بشأن استبداد بكين الاقتصادي وطموحاتها في الهيمنة.
انعكاسات محتملة
من الجليّ أن الاهتمام الأمريكي بتعزيز العلاقات مع جزر القمر يرتبط بالاستراتيجية البحرية الأمريكية في المحيطين الهندي والهادئ، والتي تسعى إلى تطويق التمدد الصيني. ومن ثم يتوقع أن تثير هذه الاستراتيجية ردود أفعال محتملة من القوى الأخرى المهتمة بتعزيز حضورها في المنطقة، ولا سيما الصين وروسيا وفرنسا، وذلك على النحو التالي:
1- زيادة التنافس البحري الأمريكي-الصيني: فمن المتوقع أن تُثير الدبلوماسية العسكرية الأمريكية في المنطقة ردود أفعال موازية من جانب بكين، التي تعرض مساعدتها التنموية على دول المنطقة بغرض التوصل إلى صفقات رابحة تسمح لها بالحصول على تسهيلات بحرية وعسكرية في المنطقة، ولذلك من المتوقع أن تواصل الصين إغراءاتها لدول المنطقة، حيث تتلقى موزمبيق وناميبيا وسيشيل وتنزانيا أكثر من ٩٠% من عمليات نقل الأسلحة إليها من الصين، وتخطط الصين لزيادة استثماراتها في الموانئ البحرية، ولا سيما في سيشيل وتنزانيا.
وتشير العديد من التقارير إلى مواقع محتملة لبناء قواعد صينية في المنطقة، لا سيما في ناميبيا وكينيا وسيشيل وتنزانيا، ومن المحتمل أن تتجه بكين إلى توسيع البنية التحتية للموانئ الحالية وتبني مرافق ذات استخدام مزدوج، تسمح لها بالوصول إلى الموانئ التجارية وعدد انتقائي من المنشآت العسكرية لتقليل الأهمية العسكرية لاستثمارات الصين الاستراتيجية في الموانئ، وهو الأمر الذي يتوقع معه تزايد التنافس الأمريكي-الصيني في غرب المحيط الهندي وعلى طول السواحل الشرقية للقارة الأفريقية.
2- تنامي التحالفات والتحالفات المضادة في المنطقة: حيث يلاحظ اتجاهواشنطن وباريس إلى التنسيق العسكري في مواجهة بكين، فبرعم التنافس الأمريكي-الفرنسي على تعزيز النفوذ في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، لكن يبدو أن ثمة تفاهمات أمريكية-فرنسية بضرورة التنسيق المشترك في مواجهة بكين، وتعزيز التعاون في منطقة المحيطين الهندي والهادئ من خلال عقد المزيد من التحالفات مع دول المنطقة. وفي المقابل، اتّجهت الصين وروسيا إلى تعزيز التعاون البحري في مواجهة التنسيق الأمريكي-الفرنسي، حيث تسعى روسيا إلى بناء قواعد عسكرية لها في الدول المطلة على المحيط الهندي في مواجهة الولايات والمتحدة والدول الغربية في المنطقة.
ولذلك، تتجه روسيا لتنسيق استراتيجيتها البحرية مع الصين والدول الأفريقية في المنطقة، ولا سيما مع جنوب أفريقيا التي تتمتع بموقع استراتيجي على المحيط الهندي، وقد عززت الدولتان من تنسيقهما وتعاونهما البحري مع جنوب أفريقيا خلال السنوات الأخيرة، وعقدت الدولتان مناورات عسكرية مشتركة مع جنوب أفريقيا في فبراير من العام الماضي، وقد يمتد هذا التعاون إلى سماح جنوب أفريقيا بالزيارات البحرية المتكررة للقوتين في جنوب المحيط الهندي، وربما تقديم تسهيلات عسكرية في المنطقة، وقد أبدت واشنطن بالفعل قلقاً متزايداً من التقارب السياسي بين الصين وروسيا وجنوب أفريقيا.
3- زيادة حدة الاستقطابات السياسية الإقليمية والداخلية في الدول الأفريقية: حيث يتوقع أن يعزز التنافس الأمريكي-الصيني في المنطقة من الاستقطابات الإقليمية ما بين قوى أفريقية تدعم السياسة الصينية وبناء قواعد صينية على أراضيها، وقوى أفريقية تدعم السياسة الأمريكية وترحب ببناء قواعد أمريكية على أراضيها. وعلاوة على ذلك، تصاعد الانقسامات السياسية الداخلية ما بين الحكومات وقوى المعارضة السياسية التي تعارض بشكل حاد إنشاء القواعد الأجنبية على أراضيها. فعلى سبيل المثال، شهدت كينيا احتجاجات شعبية في عام ٢٠٢٠ عندما ذكرت وكالات إعلامية أن الصين تخطط لبناء قاعدة جديدة في البلاد.
قوة البحار
وفي المجمل، تسعى واشنطن إلى تعزيز التعاون مع الدول الأفريقية الجزرية في المحيط الهندي في إطار استراتيجيتها البحرية لتطويق التحركات الصينية في المنطقة، وكذا موازنة الوجود العسكري الفرنسي في المنطقة، غير أن ثمة تفاهمات أمريكية-فرنسية بشأن ضرورة التنسيق والتعاون في مواجهة التمدد الصيني في المنطقة. ولذلك من المتوقع أن تدفع الدبلوماسية البحرية الأمريكية في المنطقة بالمزيد من التنافس الأمريكي-الصيني بالمنطقة، وزيادة التحالفات والتحالفات المضادة في المنطقة، فبينما تعمل واشنطن وباريس على تنسيق سياستهما، تتجه بكين وموسكو إلى تعزيز التعاون البحري مع دول المنطقة.