على الرغم من التهديد الذي يتعرض له الأمن الأوروبي لأول مرة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية في أعقاب العمليات العسكرية الروسية ضد أوكرانيا، والمستمرة منذ ٢٤ فبراير الماضي وحتى الآن، وانشغال الدول الأوروبية بتوفير البدائل لواردات الطاقة الروسية، إلا أن ذلك لم يمنع الاتحاد الأوروبي من مواصلة اهتمامه بالتطورات السياسية والاقتصادية التي تشهدها دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
فقد قدم الاتحاد الكثير من المساعدات المالية إلى عديد من الدول العربية التي لا تزال اقتصاداتها متعثرة، وتعاني من تبعات جائحة كوفيد-١٩، وارتفاع أسعار الغذاء والطاقة في أعقاب الحرب الروسية-الأوكرانية، بجانب بعض التحركات النشطة في المنطقة في سياق مساعيه ليكون فاعلاً دولياً مؤثراً في قضية مكافحة التغير المناخي، التي أضحت القضية التي تتقدم أجندة التفاعلات الدولية راهناً.
تحركات نشطة
شهدت الأشهر الماضية تحركات مستمرة من جانب الاتحاد الأوروبي لمساعدة العديد من دول المنطقة، ولا سيما تلك التي تربطه علاقات استراتيجية بها، على مواجهة التحديات التي تقوض من فرص الاستقرار والأمن بها، واللذان يعدان مصلحة أوروبية بامتياز. وتتمثل أبرز المجالات التي ركزت عليها تحركات الاتحاد مؤخراً فيما يلي:
1- دعم الإصلاحات الاقتصادية الهيكلية: في إطار مساهمة الاتحاد الأوروبي في معالجة الصعوبات الاقتصادية التي تعاني منها تونس منذ عام ٢٠١١، والتي تفاقمت بسبب جائحة كوفيد-١٩، وتباطؤ معدلات النمو والبطالة، والعمل على تخفيف ميزان المدفوعات ووضع الميزانية التونسية، ودعم تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية الرئيسية وتعزيز آليات الحماية الاجتماعية، وتحديث وإصلاح المؤسسات التونسية بجانب تعزيز الاستثمار الخاص من خلال تحسين مناخ الأعمال بالدولة؛ أعلن الاتحاد، في ١٤ نوفمبر الجاري، عن منح تونس هبة بقيمة ١٠٠ مليون يورو (١٠٣ ملايين دولار) بهدف دعم تعافي اقتصادها ودعم التونسيين الذين يعانون من ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء عالمياً.
وتُمنح تونس أول دفعة بقيمة ٤٠ مليون يورو، بينما باقي المبلغ سيتم صرفه على أساس التقدم المحرز في الإصلاحات الهيكلية التي بدأتها تونس. وقد قدم الاتحاد الأوروبي قرضاً لتونس بقيمة ٦٠٠ مليون دولار على دفعتين في يونيو ٢٠٢١ ومايو ٢٠٢٢ ضمن إطار برنامج المساعدات المالية لمعالجة تداعيات الجائحة، والمساعدة على خفض العبء على الموازنة العامة للدولة وتنفيذ إصلاحات اقتصادية رئيسية.
ووفقاً لتصريح وزير الاقتصاد التونسي سمير سعيد، في ١٤ نوفمبر الجاري، فقد ساهم الاتحاد الأوروبي -حتى الآن- في دعم الموازنة التونسية بنحو ٥١٢ مليون يورو، بجانب تقديمه الدعم التقني والفني في مفاوضات تونس الأخيرة مع صندوق النقد الدولي على مستوى الخبراء. وبمساعدة الاتحاد، توصلت تونس إلى اتفاق مبدئي مع الصندوق، في منتصف أكتوبر الفائت، للحصول على قرض جديد بنحو ملياري دولار، ويتم صرفه على أقساط بدءاً من ديسمبر المقبل. وتأتي المنحة الأخيرة من الاتحاد الأوروبي للدولة ضمن الإصلاحات التي اتفقت عليها مع الصندوق في سياق برنامج مستقبلي.
2- ممارسة ضغوط لإنهاء الفراغ الرئاسي اللبناني: حرص الاتحاد الأوروبي على ممارسة ضغوط على القوى اللبنانية للتوصل إلى اتفاق على مرشح لتولي منصب الرئيس بعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون، في ٣١ أكتوبر الفائت، ودخول لبنان مرحلة الفراغ الرئاسي لعدم وجود مرشح قادر على الفوز بالأكثرية المطلوبة في مجلس النواب اللبناني المنقسم على نفسه.
وبعد فشل خمس جلسات لانتخاب رئيس جديد، حدد رئيس المجلس نبيه بري، ١٧ نوفمبر الجاري موعداً للجلسة السادسة لانتخاب رئيس الجمهورية. ويأتي هذا الفراغ في وقت تواجه فيه بيروت أزمات اقتصادية متتالية، لتخسر معها العملة المحلية نحو ٩٥٪ من قيمتها، ويعيش أكثر من ٨٠٪ من السكان تحت خط الفقر، بينما هناك حكومة تصريف أعمال برئاسة نجيب ميقاتي عاجزة عن اتخاذ قرارات ضرورية وإجراء إصلاحات يضعها المجتمع الدولي شرطاً لدعم لبنان.
ويُلوّح الاتحاد الأوروبي بفرض عقوبات على المسئولين اللبنانيين إذا لم ينجحوا في التوافق على رئيس جديد لإنهاء حالة الفراغ السياسي التي لها انعكاسات على لبنان اقتصادياً واجتماعياً، وذلك استناداً إلى تمديده، في ٢٦ يوليو الماضي، التدابير التقييدية الخاصة بلبنان، المعتمدة في ٣٠ يوليو ٢٠٢١، لعام إضافي حتى ٣١ يوليو من العام القادم، حيث لوح الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، في الأول من نوفمبر الجاري، بالعقوبات التي يتضمنها في إطار تعليقه على الفراغ الرئاسي في لبنان.
وينصّ إطار التدابير التقييدية على فرض عقوبات على سياسيين وكيانات مسئولة عن تقويض الديمقراطية أو سيادة القانون في لبنان من خلال الاستمرار في إعاقة تشكيل الحكومة، أو عرقلة إجراء الانتخابات أو تقويضها بشكل خطير، أو تقويض تنفيذ خطط وافقت عليها السلطات اللبنانية ومدعومة من الجهات الفاعلة الدولية ومن ضمنها الاتحاد الأوروبي، لتنفيذ إصلاحات اقتصادية هامة في القطاعين المصرفي والمالي. وفي السابق، لم تنجح التهديدات الأوروبية في الضغط على المسئولين لإنهاء صراعاتهم السياسية.
3- تقديم مساعدات صحية لاحتواء تفشي الكوليرا: يقوض الانهيار الاقتصادي من قدرة السلطات اللبنانية على توفير الخدمات الرئيسية من مياه وكهرباء وخدمات صحية للبنانيين واللاجئين بالمخيمات لمواجهة تزايد الإصابات بالكوليرا. وفي إطار المساعدات التي يتم تقديمها لبيروت، خصص الاتحاد الأوروبي ٨٠٠ ألف يورو لدعم لبنان لتوفير تلك الخدمات في المنطقة التي تتركز فيها حالات الكوليرا.
وقد أعلن الاتحاد عن تخصيص ٧٠٠ ألف يورو كمساعدات إنسانية لسوريا لمساعدتها في احتواء الكوليرا، وذلك بعد تخصيص 4 مليون يورو لمواجهة انتشاره وتحسين الرعاية الصحية وخدمات المياه والصرف الصحي، حيث يعتمد نصف السوريين، وفقاً للمفوض الأوروبي لإدارة الأزمات جانيز لينارتشيتش، على مصادر غير آمنة لتلبية احتياجاتهم من المياه، نتيجة لإثنى عشر عاماً من الصراع.
4- تأسيس شراكات لمواجهة التغير المناخي: مثلت الشراكة مع دول منطقة الشرق الأوسط، التي تعد من أكثر مناطق العالم تأثراً بتغير المناخ، أولوية للاتحاد الأوروبي؛ حيث سعى إلى تأسيس شراكات استراتيجية مع عدد من دولها من خلال مبادرة “البوابة العالمية” للاتحاد الأوروبي التي توفر إطاراً للتعاون مع الشركاء في المنطقة لتعزيز الاستثمارات المستدامة في مجال التصدي لتغير المناخ وتعزيز الطاقة المتجددة. وتعد الشراكة بين الاتحاد الأوروبي ودول مجلس التعاون الخليجي أبرز الشراكات التي تعمل على تعزيز التعاون الوثيق بشأن قضايا تغير المناخ والطاقة والتحول الأخضر ضمن قضايا أخرى تحقق المصالح المشتركة للطرفين.
وبينما تواجه لبنان أزمة طاقة منذ فترة، والتي تزايدت في أعقاب الحرب الروسية-الأوكرانية وما رتبته من ارتفاع أسعار النفط والغاز الطبيعي في الأسواق العالمية؛ دعم الاتحاد الأوروبي برنامج الأمم المتحدة الإنمائي منذ عام ٢٠١٩ لتعزيز عمليات القوات المسلحة اللبنانية في منطقة الحدود الشمالية الشرقية للبنان من خلال توفير حلول الطاقة المستدامة التي تزيد من استقلالية الطاقة للجيش اللبناني في المنطقة، وتحوله إلى مؤسسة صديقة للمناخ وأكثر استدامة كجزء من التزامات لبنان الوطنية المتعلقة بتغير المناخ.
وفي سياق متصل، وقّع الاتحاد الأوروبي مع المغرب، في ٩ نوفمبر الجاري، اتفاقية لتجديد السكك الحديدية بقيمة ٢٠٠ مليون يورو ضمن الشراكة الخضراء التي أسسها الجانبان، في 18 أكتوبر الفائت، والتي تهدف لمكافحة تغير المناخ والاستثمار في الهيدروجين الأخضر.
ساحة تنافس
لم تدفع الحرب الروسية-الأوكرانية وتهديدها الأمن الأوروبي الاتحاد الأوروبي إلى تقليص اهتمامه بمنطقة الشرق الأوسط التي أضحت ساحة للتنافس بين القوى الكبرى (الولايات المتحدة، وروسيا، والصين)، حيث لا يزال الاتحاد فاعلاً مؤثراً في المنطقة، ولا سيما في تقديم الدعم للدول لمواجهة أزماتها الاقتصادية، وتوفير المساعدات الفنية والتقنية لها لتمكينها من التعافي من الجائحة، ومواجهة الأزمات الصحية مع تزايد انتشار وباء الكوليرا، إلى جانب التركيز على قضية التغير المناخي، وذلك لكون أي تهديد لأمن واستقرار دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ولا سيما تلك المطلة على البحر الأبيض المتوسط، ستكون له –بلا شك– تداعيات أمنية على الدول الأوروبية.