أصدر الرئيس التونسي “قيس سعيد” مرسوماً رئاسياً بعزل 57 قاضياً من مناصبهم بسبب تورطهم في قضايا فساد مالي وإداري، والتواطؤ مع جهات سياسية، وتعطيل تتبع المتورطين في قضايا الإرهاب، واستغلال النفوذ بما يتعارض مع حيادية واستقلالية القضاء. ويعكس هذا القرار مجموعة من الدلالات الهامة من أبرزها إصداره عقب وقت قصير من صدور قرار منع رئيس حركة النهضة “راشد الغنوشي” و33 آخرين من السفر خارج البلاد، وتوظيف رئيس الدولة لما يمتلكه من صلاحيات استثنائية تشريعية وتنفيذية بعد إجراءات يوليو 2021 تمكنه من مكافحة الفساد والحفاظ على سمعة واستقلال القضاء وعدم الإضرار بمصالح الدولة، هذا إلى جانب ما سيؤدي إليه القرار من تضييق الخناق على حركة النهضة، وهو ما سيرفع من شعبية رئيس الدولة أو على أقل تقدير الحفاظ على نسبتها الحالية بما يمكنه من حسم الصراع ضد معارضيه الذين يتهمونه بعدم الفصل بين السلطات، وبما يمكنه من إجراء الإصلاحات السياسية والدستورية المعلنة وخاصة فيما يتعلق بإجراء الاستفتاء على الدستور في 25 يوليو المقبل.
خلال ترؤسه اجتماع مجلس الوزراء، أصدر الرئيس التونسي “قيس سعيد” قراراً في 1 يونيو 2022 يقضي بعزل 57 قاضياً، بعد أن اتهمهم بالفساد والتواطؤ والتستر على متهمين في قضايا إرهاب، وتعهد الرئيس “قيس سعيد” بالكشف عن أسماء هؤلاء القضاة (من أبرزهم “يوسف بوزاخر” رئيس المجلس الأعلى للقضاء المنحل – “الطيب راشد” الرئيس السابق لمحكمة التعقيب – “بشير العكرمي” وكيل الجمهورية السابق)، مع العمل على تنقيح أو تعديل المرسوم المتعلق بالمجلس الأعلى للقضاء خلال الفترة القادمة.
عوامل دافعة
يمكن تفسير قرار الرئيس “قيس سعيد” بعزل 57 قاضياً من خلال مجموعة من الأسباب التي دفعت الرئيس “سعيد” لاتخاذ هذا القرار، ومن أبرزها ما يلي:
1- التورط في جرائم الفساد المالي: اتهم الرئيس “سعيد” عدداً من القضاة بتحقيق مكاسب مالية وثروات طائلة خلال سنوات عملهم في السلك القضائي بشكل يثير الشكوك والتساؤلات حول مصادر هذه الثروات الطائلة. ومن الأمثلة الدالة على ذلك تورط أحد القضاة في جرائم تبييض أموال، وآخر تم ضبطه في حالة تلبس بنقل مبلغ يقدر بحوالي 530 ألف يورو مع مبالغ مالية بالعملة التونسية، بخلاف تورط بعض القضاة في الحصول على رشاوي مالية وثراء فاحش.
2- تعطيل تتبع المتورطين في قضايا الإرهاب: اتهم الرئيس “سعيد” بعض هؤلاء القضاة بتعطيل التتبع في 6268 محضراً ذا علاقة بالإرهاب، وعدم تطبيق الفصل “23” من مجلة الإجراءات الجزائية في ملف “الجهاز السري”، والامتناع عن فتح أبحاث جزائية في قضايا ذات علاقة بالأمن ولها صبغة إرهابية، وهو ما نتج عنه عدم إتاحة الفرصة للسلطات الأمنية بتتبع بعض المتهمين المتورطين في إنشاء الجهاز السري لتصفية المعارضين التابع لحركة النهضة، مستنداً في ذلك إلى أن قضية اغتيال الناشطين “محمد البراهمي” و”شكري بلعيد” المنظورة أمام القضاء منذ عام 2013 لم يتم الحسم فيها حتى الآن، وهو ما يثبت تورط هؤلاء القضاة في تعطيل مسيرة القضاء في البلاد بشأن قضايا الإرهاب.
كما أن بعض هؤلاء القضاة بتأخيرهم حسم هذه القضية قد أصبحوا متسترين على بعض المتهمين في هذه القضية، وهو ما يتعارض مع طبيعة عمل السلطة القضائية التي يجب أن تتسم بالاستقلالية والحيادية تجاه أطراف أي قضية منظورة أمام ساحات القضاء التونسي، وهو ما دفع الرئيس “سعيد” لاتهامهم بتجاوز الصلاحيات المخولة لهم. ومن بين هؤلاء القضاء المعزولين قاضٍ متهم بتوجيه الأبحاث وخرق الإجراءات وتهديد القضاة، وارتكاب إخلالات في أداء الوظيفة كقاض.
3- التواطؤ مع جهات سياسية لتعطيل سير العدالة: يشير تعمد بعض هؤلاء القضاة المعزولين تعطيل سير العدالة في بعض القضايا الهامة المنظورة أمام الساحات القضائية التونسية، وعلى رأسها قضية تورط قادة حركة النهضة في اغتيال الناشطين المعارضين “البراهمي” و”بلعيد” عام 2013، إلى تواطؤ هؤلاء القضاة مع حركة النهضة التي سيطرت على الحياة السياسية طيلة السنوات العشر الأخيرة، وكان لها تدخل وسيطرة كاملة على السلطة القضائية، وخاصة عندما كان نائب رئيس الحركة “نور الدين البحيري” وزيراً للعدل واتهامه بالتدخل في السلطة القضائية وتسخيرها لخدمة مصالح الحركة ودعم وتمويل الإرهاب. ورغم إطلاق سراحه من قبل السلطات التونسية، إلا أن شبهات تورطه مع عدد آخر من قادة الحركة في قضايا تمويل الإرهاب واغتيال المعارضين لا تزال تلاحقهم، وذلك بعد أن تورط عدد من القضاة في تعطيل إجراءات تتبع هؤلاء المتهمين والتدخل لحماية أطراف سياسية وأصحاب نفوذ.
4- تجاوز الصلاحيات واستغلال النفوذ: من بين الأسباب التي استند إليها الرئيس “قيس سعيد ” قبل عزله لهذا العدد الكبير من القضاة، هو تجاوز البعض منهم للصلاحيات المخولة لهم بصفتهم الوظيفية، واستغلال نفوذهم كقضاة، والتدخل بشكل غير حيادي في بعض القضايا التي كانت منظورة أمام الهيئات القضائية بشكل أدى إلى تغيير النتائج، ومن ذلك القضية الخاصة بتورط البعض في عمليات تهريب ديوانية من الحجم الكبير، وتم استخدام نفوذ هؤلاء القضاة بشكل أساء إلى السلطة القضائية في البلاد.
دلالات العزل
يشير قرار الرئيس التونسي “قيس سعيد” بعزل هذا العدد الكبير من القضاة إلى عدد من الدلالات الهامة، ومن أبرزها ما يلي:
1- تزامن التوقيت مع منع الغنوشي من السفر واستكمال تحقيقات اغتيال البراهمي وبلعيد، حيث تم إصدار هذا القرار عقب أيام قليلة من صدور القرار الخاص بمنع 34 شخصية من السفر إلى خارج البلاد، ومن أبرزهم رئيس حركة النهضة “راشد الغنوشي” والرئيس السابق للبرلمان المنحل، وذلك في إطار استكمال التحقيقات الخاصة بقضية اغتيال الناشطين “محمد البراهمي” و”شكري بلعيد” واتهام هيئة الدفاع الخاصة بهما لحركة النهضة بمسؤوليتها عن اغتيالهما في عام 2013، واتهامها بإنشاء جهاز سري مختص بتنفيذ عمليات الاغتيال ضد المعارضين لها. ولعل إشارة الرئيس “سعيد” في قراره الخاص بعزل هؤلاء القضاة بسبب تورط عدد منهم في عدم تنفيذ القرار الخاص بمنع هؤلاء من السفر للخارج، خير دليل على الارتباط الوثيق بين هذه القرارات كافة التي تم إصدارها في أوقات متلاحقة خلال فترة زمنية قصيرة.
2- توظيف الصلاحيات الاستثنائية لإجراءات يوليو 2021، يعكس قرار الرئيس “سعيد” بعزل القضاة الـ 57، توظيفه للصلاحيات المخولة له وفقاً للحالة الاستثنائية التي تعيشها البلاد من يوليو الماضي، والتي تمنحه صلاحيات وسلطات تشريعية وتنفيذية، تمكنه من توظيفها لتحقيق مجموعة من الأهداف وعلى رأسها إخراج البلاد من أزمتها السياسية الراهن، وتسهيل عملية إجراء الإصلاحات السياسية والدستورية التي أعلنها في خريطة الطريق في ديسمبر الماضي، وبما يمكنه من إيجاد البيئة الداخلية المواتية لتنفيذ هذه الإجراءات، وخاصة فيما يتعلق بصياغة دستور للجمهورية الجديدة.
3- تضييق الخناق على حركة النهضة، تزامن قرار عزل هؤلاء القضاة من مناصبهم بسبب تورط البعض منهم في التستر على جرائم حركة النهضة، مع توجيه القضاء التونسي اتهامات مباشرة لرئيس حركة النهضة “راشد الغنوشي” بأن قرار منعه من السفر للخارج بسبب اعتدائه على الأمن القومي للبلاد، والحصول على سر من أسرار الدفاع الوطني، وهو ما تزامن أيضاً مع المؤتمر الصحفي الذي عقدته هيئة الدفاع الخاصة بالناشطين المغتالين “البراهمي” و”بلعيد” لتأكيد اتهامها لحركة النهضة بإنشاء جهاز سري لاغتيال المعارضين واتهام “الغنوشي” اتهاماً صريحاً باعتدائه على أمن الدولة التونسية بالاتصال بجهات مخابراتية أجنبية، واتهامه بالتوسط للإفراج عن أسرى “جبهة النصرة” الإرهابية مستغلاً حصانته لارتكاب هذه الجرائم، الأمر الذي من شأنه زيادة الضغوط الداخلية على حركة النهضة وتضييق الخناق عليها بصورة أكبر عما سبق، وهو ما يزيد من حجم أزماتها الداخلية، ويهدد مستقبلها السياسي خلال الفترة القادمة بشكل كبير.
4- محاولة تعزيز شعبية الرئيس قيس سعيد في الداخل، من شأن مواصلة الرئيس “قيس سعيد” إجراءات مكافحة الفساد وفاء لالتزاماته التي قطعها على نفسه في هذا الخصوص منذ توليه السلطة في أكتوبر 2019، أن تزيد من شعبيته على المستوى الداخلي أو على أقل تقدير الحفاظ على المستوى الحالي لشعبيته داخل المجتمع التونسي في حدود ما أظهرته النتائج الأخيرة لاستطلاعات الرأي العام التونسي لمؤسسة سيجما كونساي التونسية التي أظهرت حصوله على 65.2% في نوايا التصويت، خاصة وأن القرار الأخير بعزل هؤلاء القضاة بسبب تورطهم في قضايا الفساد بشتى صوره المالي والسياسي والإداري، إضافة إلى تورطهم في حماية مصالح حركة النهضة، والتستر على تورط بعض قياداتها في قضايا الإرهاب؛ سوف يلقى قبولاً لدى قطاعات كبيرة من الشعب التونسي الذي يطالب بإقصاء حركة النهضة من الحياة السياسية بسبب ما اقترفته من أخطاء خلال سنوات توليها السلطة، وما ترتب على ذلك من أزمات سياسية واقتصادية واجتماعية.
5- تطهير المنظومة القضائية في البلاد، يعكس قرار عزل هؤلاء القضاة مواصلة الرئيس “سعيد” اتخاذ الإجراءات اللازمة لتطهير المنظومة القضائية في البلاد، وهو ما أكدت عليه تصريحاته الأخيرة التي أشار فيها إلى أن القضاء التونسي لم يستجب لمطالب وتحذيرات رئيس الدولة بشأن ضرورة تطهير السلطة القضائية من الفساد وتجاوز القانون، الأمر الذي تطلب استخدام صلاحيات الرئيس في عزل القضاة في حالة ارتكابهم أية مغالطات أو تجاوزات من شأنها أن تمس سمعة القضاء واستقلاليته، ومن ثم عدم الإضرار بالأمن القومي للبلاد ومصالحها العليا، وهو ما نص عليه الأمر الرئاسي الصادر في فبراير الماضي بإنشاء مجلس أعلى مؤقت للقضاء.
6- عدم الفصل بين السلطات الثلاث، يشير قرار الرئيس المشار إليه إلى رغبته في التأكيد على قدرته على حسم الصراعات والخلافات القائمة بينه وبين معارضيه، خاصة وأن الفترة الأخيرة شهدت حدة المعارضة السياسية لقرارات وإجراءات الرئيس “سعيد” ولا سيما بعد أن تحالف عدد من الأحزاب والقوى السياسية والمدنية تحت مظلة “جبهة الخلاص الوطني” التي عبرت عن رفضها قرار عزل هؤلاء القضاة، واتهمت الرئيس “سعيد” بعدم الفصل بين السلطات الثلاث وانتهاك استقلالية القضاء، وتحويله القضاء إلى أداة للاضطهاد، وأن هذا القرار سوف يؤدي إلى زيادة تعقيد الأزمة السياسية الحالية وزيادة حدة الصراعات بين الدولة والأحزاب والنقابات؛ إلا أن هذه الاتهامات يواجهها استناد الرئيس إلى القانون الاستثنائي الذي يمنحه السلطة لعزل أي قاضٍ يضر بسمعة القضاء.
رسائل متعددة
خلاصة القول، يكشف القرار الخاص بعزل 57 قاضياً تونسياً في هذا التوقيت عن عدد من الأمور الرئيسية الهامة، وعلى رأسها سعي الرئيس التونسي “قيس سعيد” وحرصه على اتخاذ كافة الإجراءات اللازمة لإيجاد بيئة داخلية سياسية تتسم بنوع من الاستقرار، وذلك من أجل ضمان إجراء الاستفتاء على الدستور في موعده المقرر في 25 يوليو القادم، كما أن هذه الإجراءات من شأنها تضييق الخناق على حركة النهضة ومن ثم التأكيد على إقصائها نهائياً من الحياة السياسية التونسية.