مع عودة ظاهرة الاغتيالات السياسية إلى الساحة العراقية، تتبدى بعض الأسباب التي تدفع إليها، يتمثل أبرزها في مدى ما يتسم به الوضع الأمني في العراق من هشاشة، وكذلك تصاعد وتيرة “السلاح المنفلت”، خاصة مع استخدام الأحزاب والقوى السياسية لهذا السلاح، في حسم الخصومات السياسية فيما بينها. هذا، فضلاً عن وجود فشل استخباري وخروقات أمنية بوضوح، ومحاولات إثارة الفتنة بين تيارات سياسية بعينها، إضافة إلى محاولة إثبات عدم قدرة الأجهزة الأمنية على ضبط الوضع الأمني في البلاد، بما يُعزز من الأفكار المطروحة بشأن تأجيل خروج القوات الأمريكية من العراق.
ففي مشهد يُعيد إلى الذاكرة “هشاشة” الوضع الأمني في البلاد، عاد شبح الاغتيالات ليُلقي بظلاله من جديد على الشارع العراقي، حيث تم تسجيل “خمس” حالات لمحاولات اغتيال خلال مدة زمنية قصيرة، قدرها “ثلاثة” أسابيع فقط، “ثلاث” من تلك الحالات فارق أصحابها الحياة، في حين لم ينجُ سوى “اثنين” فقط من الاغتيال. وكان آخر تلك المحاولات محاولة اغتيال المستشار الأسبق لرئاسة الجمهورية العراقية، ورئيس مؤسسة “المدى” للإعلام والثقافة والفنون، فخري كريم، الذي نجا من محاولة اغتياله، في 22 فبراير الماضي.
أسباب مُتعددة
في حين يستند البعض في عودة ظاهرة “الاغتيالات”، ومحاولات التصفية السياسية لعديد من الشخصيات السياسية العراقية، إلى تورط بعض الفصائل المسلحة التي تحظى بقدر ما من التمثيل السياسي نتيجة العداء المتنامي بين بعضها بعضاً؛ إلا أن هناك آخرين مُقربين من هذه الفصائل يعودون بالظاهرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، التي تقف وراء الظاهرة، وإن بشكل غير مُباشر، من أجل إيقاف المُطالبات بخروج القوات الأمريكية من البلاد.
واللافت أن الأسباب الدافعة إلى ظاهرة “الاغتيالات”، خاصة السياسية منها، على الساحة العراقية تتعدد، وذلك كما يلي:
1- هشاشة وضعف الوضع الأمني في البلاد: إذ إن تنامي ظاهرة الاغتيالات بصفة عامة، والاغتيالات السياسية على وجه الخصوص، يأتي كـ”مؤشر” واضح وخطير على مدى ما يُعاني منه الوضع الأمني في البلاد من ضعف وهشاشة. بل إن عودة مشاهد الاغتيالات بين المدنيين والسياسيين إلى الساحة العراقية من جديد، وخلال فترة زمنية قصيرة، هو دليل دامغ على أن الأجهزة الأمنية لم تستطع أن ترتقي إلى “المستوى الحرفي” لضبط الوضع.
ومن ثمّ يبدو أن الحكومة العراقية تُعاني من أزمة كبيرة، سواء مع مُنافسيها أو فيما بين مكوناتها، وذلك من حيث إن قيادات الإطار التنسيقي، فضلاً عن المليشيات المُسلحة، لا تأتمر بأمر الحكومة العراقية التي يترأسها محمد شياع السوداني. هذا بالإضافة إلى التنافس الواضح بين المليشيات المُسلحة على الأقوى فيما بينها، وهو ما يظهر جلياً من خلال بعض المناوشات التي تتم بين بعض الفصائل في الداخل العراقي.
2- استخدام السلاح لحسم الخصومات بين التيارات السياسية: حيث إن الأحزاب والقوى السياسية العراقية غالباً ما تستخدم السلاح لأجل انتزاع بعض المكاسب السياسية والمواقع الحزبية. ووفقاً للخبير الأمني العراقي، اللواء المتقاعد عماد علو، في حوار مع وكالة “أنباء العالم العربي” (AWP)، بتاريخ 26 فبراير، فبالإضافة إلى استخدام الأحزاب السياسية السلاح لحسم خصوماتها مع القوى التي تختلف معها، هناك نوع آخر من الاغتيالات يكون بين عصابات تهريب السلاح والمخدرات، وهي تلك التي تفاقمت في الفترة الأخيرة أيضاً.
وبالتالي، يُمثل “السلاح المُنفلت” خطراً دائماً على استقرار الأوضاع الأمنية في العراق، مما يتطلب معه محاولة إيجاد حلول جذرية، لأن عدم استقرار الوضع يبعث مجموعة من الرسائل إلى خارج العراق بأن البلد غير آمن، وغير صالح للاستثمار، إذ إن جريمة الاغتيال السياسي لا تعني في التحليل الأخير سوى إسقاط أحد أهم أركان النظام الديمقراطي، من حيث درجة تأثيرها على صانع القرار السياسي.
3- التصفية السياسية كمحاولة لإثارة الفتنة الداخلية: فمن بين الأسباب لعودة ظاهرة الاغتيالات إلى الساحة العراقية، تأتي مسألة التصفية السياسية، التي تستهدف بالأساس نوعاً من محاولات إثارة الفتنة السياسية، عبر دفع تيار سياسي مُعين للانجرار وراء الأخذ بالثأر نتيجة اغتيال أحد رموزه.
صحيح أن حوادث الاغتيال في محافظات العراق “لم تخلُ من الطابع العشائري والجنائي”، لكن يبقى من الصحيح -كذلك- أن المثال الواضح على محاولة إثارة الفتنة، يتمثل في استهداف الناشط “الصدري” أيسر الخفاجي، الذي كان ضحية لمحاولة “إثارة الفتنة في محافظة بابل”، خاصة أن اغتياله، كما يؤكد مدير المركز العراقي للدراسات الاستراتيجية، غازي فيصل، في حوار مع موقع “العربية”، بتاريخ 26 فبراير، جاء في نفس يوم تسلم مُحافظ بابل الجديد، عدنان الفيحة، منصبه، لا سيما وأن الفيحة تابع لحركة “عصائب أهل الحق”، أشد مناهضي التيار الصدري في العراق. إلا أنّ تغريدة الزعيم الصدري، مقتدى الصدر، التي حذَّر فيها أنصاره مما أسماها “الفتنة”، استطاعت أن تضع حداً لتلك المحاولة.
4- وجود فشل استخباري وخروقات داخل الأجهزة الأمنية: فمن الواضح عبر تكرار محاولات الاغتيال، وبالتحديد الاغتيالات السياسية، أن هذه الظاهرة ليست بالظاهرة الدخيلة على الساحة العراقية؛ بل هي استمرار لحالة العنف المتنامي في العراق منذ فترة من الزمن، وتحديداً منذ الأحداث التي أُطلق عليها “انتفاضة تشرين” عام 2019، بما يؤكد وجود نوع من الفشل الاستخباري والخروقات الأمنية أيضاً. يؤكد هذا محاولات الاغتيال التي جرى تنفيذ “خمس” حالات منها في حوالي 22 يوماً.
فهذه العمليات جميعها تحمل دلالات واضحة على أن التخطيط قد تم لها بعناية من جانب بعض الجماعات التي تستهدف الفوضى وإسكات الآخرين، وهو ما يؤشر إلى جهات معينة تسعى إلى تحميل حكومة السوداني بأمور شائكة ومُعقدة، وقد تكون وراءها أجندات استخبارية دولية أو إقليمية.
والمثير للانتباه أنّ محاولات الاغتيال هذه تأتي في وقت تُطلق فيه وزارة الداخلية العراقية مُبادرات لحصر السلاح بيد الدولة، ومنها تخصيص مبلغ “مليار” دينار عراقي (نحو 7.63 ملايين دولار) لكل محافظة بُغية شراء الأسلحة المتوسطة من المواطنين، بحسب تصريح الناطق باسم الوزارة، العميد مقداد ميري، بتاريخ 26 فبراير الماضي.
5- تعزيز تأجيل خروج القوات الأمريكية: فمع ما يتأكد من أن الحكومة العراقية ضعيفة، وأن الوضع الأمني غير مُستقر، إلا أن التوقيت في تصاعد ظاهرة الاغتيالات على الساحة العراقية هو توقيت مُهم، من حيث المؤشرات التي تدل عليه.
إذ يبدو أن هناك جهات تتعمد إثارة ملف الاغتيالات في التوقيت الذي تُطالب فيه عديد من القوى السياسية بإخراج القوات الأمريكية، وقوات التحالف عموماً، من العراق، وذلك لإيصال رسالة إلى المواطنين العراقيين بأن “القوات الأمنية ليست قادرة على السيطرة على الوضع الأمني في البلاد”.
عملية مقصودة
في هذا السياق، يُمكن القول إن عودة ظاهرة الاغتيالات إلى الساحة العراقية، وخاصة الاغتيالات السياسية، إنما هي عملية مقصودة لإظهار ضعف حكومة السوداني، وضعف الأجهزة الأمنية العراقية عن السيطرة على الوضع الأمني في العراق، وهو ما يؤشر إلى ضرورة أن تُبدي الحكومة العراقية استعداداً كاملاً لمُلاحقة الجناة، والإعلان عن هوياتهم، ومن يقف وراءهم؛ إذ إن المماطلة في الكشف عن أولئك الجناة لن يؤدي إلا إلى الاضطراب الأمني وعدم الاستقرار المجتمعي.