عاد التوتر بين أنقرة وموسكو بعد تسليم الأولى خمسة عسكريين أوكرانيين للرئيس الأوكراني عشية زيارته لتركيا، في 7 يوليو الجاري. وجاء القرار التركي الذي اعتبرته موسكو انتهاكاً لاتفاقية تبادل الأسرى الموقعة في العام الماضي بين موسكو وكييف برعاية تركية، تحت ضغط دوافع متنوعة، أهمها حرص تركيا على تفادي الضغوط الغربية المتوقعة عليها قبل قمة الناتو المقبلة، بالإضافة إلى الرد على التحركات الروسية المناهضة للمصالح التركية سواء في سوريا أو البلقان.
فقد أعلن المتحدث باسم الكرملين “دميتري بيسكوف”، في بيان له، في 9 يوليو الجاري، إدانة موسكو عودةالعسكريين الأوكرانيين الخمسة الذين كانوا متحصنين في مصنع “أزوفستال” للصلب في مدينة ماريوبول. وكانت روسيا أفرجت في سبتمبر الماضي عن عدد من قادة كتيبة آزوف في إطار صفقة لتبادل الأسرى توسطت فيها أنقرة وتلزم شروطها هؤلاء القادة بالبقاء في تركيا حتى نهاية الحرب. واعتبر بيسكوف أن عودة قادة كتيبة “آزوف” من تركيا إلى أوكرانيا ليست سوى خرق مباشر جديد لشروط اتفاقات مبرمة.
تصاعد الشكوك
أدى تسليم العسكريين الأوكرانيين الخمسة للرئيس زيلينيسكي عشية زيارته لتركيا، في 7 يوليو الجاري، إلى تصاعد الشكوك بين أنقرة وموسكو؛ إذ اتهمت الأخيرة الحكومة التركية بمخالفة معايير الوساطة، والانحياز إلى أحد طرفي الأزمة الأوكرانية، وظهر ذلك في تحميل روسيا أنقرة وكييف مسؤولية خرق الاتفاق.
وتزامن هذا التوتر مع تطور ملحوظ في العلاقات الروسية التركية، كشف عنه افتتاح محطة “أكويو” النووية التركية، والتي مولتها الحكومة الروسية، ووصلت تكلفتها إلى نحو 20 مليار دولار، كما رفضت أنقرة توقيع أي عقوبات على روسيا عقب الحرب الأوكرانية، واتفقتا على دعم وتطوير المبادلات التجارية، بالإضافة إلى موافقة الرئيس فلاديمير بوتين على السماح لتركيا بدفع جانب من مستحقات وارداتها من الغاز الروسي بالعملة المحلية “الروبل”.
بيد أن التوتر الراهن قد ينعكس على الوساطة التركية في الأزمة الأوكرانية، حيث يتوقع ضعف تجاوب موسكو مع الدور التركي في الأزمة، وبخاصة تجديد اتفاقية تصدير الحبوب، المقرر انتهاؤها في 18 يوليو الجاري.
دوافع متنوعة
ثمة العديد من الدوافع التي تقف وراء موافقة تركيا على تسليم الأسرى الأوكرانيين الخمسة للرئيس زيلنيسكي، وهو ما يمكن بيانه على النحو التالي:
1- تحييد الضغوط الغربية على أنقرة: ربما ارتبط تسليم أنقرة للعسكريين الأوكرانيين برغبة أنقرة في تحييد الضغوط الغربية عليها قبل قمة حلف الناتو المقرر لها 11 و12 يوليو الجاري. وكانت العلاقة بين أنقرة والقوى الغربية قد دخلت مناخ الشحن في الآونة الحالية بسبب إصرار أنقرة على تبني موقف معارض للحاق السويد بعضوية الناتو، ورفضها الاستجابة للضغوط الأمريكية بشأن تمرير عضوية السويد خلال القمة المقبلة للحلف. كما تصاعدت حدة التوتر مع إصرار أنقرة على مواصلة عملياتها العسكرية شمال شرق سوريا ضد قوات سوريا الديمقراطية “قسد” المدعومة أمريكياً.
في هذا السياق، تمثل خطوة تسليم العسكريين الأوكرانيين في جوهرها محاولة تركية لطمأنة الغرب، وإعادة ضبط الحسابات مع الولايات المتحدة، والتأكيد على أن أنقرة رغم تحالفها الاستراتيجي مع موسكو إلا أنها أكثر حرصاً على التجاوب مع المصالح الغربية، والرؤية الأمريكية المتعلقة بأهمية محاصرة تحركات موسكو. وتجدر الإشارة إلى أن أنقرة تتفق ضمنياً مع القوى الغربية بشأن مواجهة روسيا، سواء في البحر الأسود أو في سوريا أو ليبيا، أو آسيا الوسطى، وبالتالي ترى تركيا أن تلطيف الأجواء مع أوروبا والولايات المتحدة في هذا التوقيت ربما يفيد في امتلاك أوراق لمقايضة روسيا، أو تحجيم بعض أدوارها في مناطق النفوذ الاستراتيجي لتركيا. وهنا، يمكن فهم موافقة أردوغان على تسليم المقاتلين الأوكرانيين، باعتبار ذلك يمكن أن يشكل خطوة مهمة لتحييد الضغوط الغربية المتوقعة على تركيا خلال قمة الناتو التي ستستضيفها ليتوانيا.
2- تأكيد الدعم السياسي والعسكري لأوكرانيا: لا تنفصل موافقة الرئيس أردوغان على تسليم العسكريين الأوكرانيين لبلدهم عن رغبته في إثبات دعم لبلاده لأوكرانيا، الحليف الاستراتيجي، والشريك المهم في مجال صناعة الطائرات المسيرة، حيث تعتمد أنقرة على كييف في استيراد المحركات اللازمة لإنتاج الطرازات المتقدمة من المقاتلات بدون طيار.
على صعيد متصل، فإن الخطوة التركية بتسليم المقاتلين الأوكرانيين للرئيس زيلينيسكي، تعد رسالة مهمة لـكييف، مفادها حرص تركيا على الحفاظ وتأمين التعاون بين البلدين في كافة المجالات، وفي الصدارة منها المجال العسكري. وهنا، يمكن فهم تصريحات الرئيس أردوغان عشية استقباله نظيره الأوكراني، والتي أثارت حفيظة موسكو، فقد أكد أردوغان على أن أوكرانيا تستحق بلا شك عضوية حلف شمال الأطلسي. وأضاف: “منذ ضم شبه جزيرة القرم عام 2014 (من قبل روسيا) في انتهاك للقانون الدولي، أعربنا عن دعمنا لوحدة أراضي أوكرانيا وسيادتها”.
بالتوازي، فإن هذه الموافقة ربما تعود في جانب منها إلى حرص تركيا على إعطاء دفعة معنوية لأوكرانيا، خاصة بعد فشل الهجوم المضاد الذي بدأته كييف مطلع يونيو الماضي لاستعادة أراضٍ تسيطر عليها روسيا في شرق أوكرانيا وجنوبها.
3- الرد على التحركات الروسية في سوريا: تصاعد التوتر بين موسكو وأنقرة في سوريا، خاصةً في ظل الهجمات التي تشنّها قوات النظام السوري منذ مطلع يوليو الجاري بدعم جوي روسي على الفصائل الموالية لتركيا في إدلب، حيث يضغط الكرملين لإخراج المليشيات المسلحة من هناك، فضلاً عن كثافة الضغوط الروسية على أنقرة لإخراج قواتها العسكرية من الأراضي السورية تمهيداً للتطبيع بين أنقرة ودمشق، وهو ما تعارضه تركيا، حيث تعتبر حضورها العسكري يمثل أولوية في إطار حرصها على مواجهة قوات سوريا الديمقراطية التي تصنفها أنقرة “إرهابية”، وامتداداً لحزب العمال الكردستاني.
4- مواجهة سياسات موسكو في البلقان: تُشير بعض التقديرات إلى أن موافقة أنقرة على عودة الأوكرانيين الخمسة يأتي للرد على التحركات الروسية في البلقان، ودورها في تأجيج التوتر الحادث في كوسوفو منذ يونيو الماضي، وإفشال الجهود التي تقودها تركيا لتهدئة النزاع. فبالإضافة إلى التوسط بين طرفي الأزمة، وافقت تركيا في 5 يونيو الماضي على طلب الناتو لإرسال كتيبة “كوماندوز” إلى شمال كوسوفو، للمساعدة في مواجهة الاضطرابات العنيفة.
وفي الوقت الذي تحاول فيه تركيا تأمين الوضع في كوسوفو، ومنعه من الانزلاق إلى حافة الهاوية، خاصة أن كوسوفو تمثل نقطة استناد استراتيجية لتركيا لتعزيز حضورها في البلقان؛ فقد اتجهت روسيا إلى الإعلان عن دعم غير محدود لصرب كوسوفو، وظهر ذلك من خلال مؤشرات عدة، آخرها إعلان المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا، في 8 يوليو الجاري، أن الوضع في كوسوفو يخرج عن نطاق السيطرة، وهناك تهديد للوجود الصربي. وأضافت في تصريحات لها أن “سبب التصعيد يعود إلى انتهاج سلطات ألبان كوسوفو سياسة التطهير العرقي والمذابح والطرد والإرهاب ضد الصرب”.
خطوة مزدوجة
ختاماً، يمكن القول إن خطوة أنقرة بتسليم العسكريين الأوكرانيين الخمسة تُمثل فرصة لتسوية جانب من الملفات الخلافية بين أنقرة والغرب، أو على الأقل تجميدها. كما تعتبر من جانب آخر مؤشراً على ثبات الموقف التركي حيال الحرب الروسية الأوكرانية. في المقابل، فإن هذه الخطوة حملت ارتدادات سلبية على مستوى العلاقات التركية الروسية، خاصة أن الأخيرة أدانت هذا التصرف، واعتبرته مخالفة صريحة لاتفاقية تبادل الأسرى. بيد أن العلاقة بين موسكو وأنقرة قد لا تصل إلى حد القطيعة، بالنظر إلى المصالح الاستراتيجية التي تربط بينهما، ففي الوقت الذي تبدو فيه أنقرة بحاجة ماسّة إلى تأمين احتياجاتها من الطاقة الروسية؛ فإن موسكو لا تريد فتح جبهات صراع جديدة في ظل استمرار العقوبات الغربية عليها، بالإضافة إلى انقلاب فاغنر الفاشل الذي كشف عن ضعف الجيش الروسي.