كشفت الزيارة الرسمية التي قام بها الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون إلى تركيا، في 15 مايو الجاري، تلبيةً لدعوة من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، عن حجم التقارب في العلاقات بين البلدين، كما كشفت عن رغبة الرئيسين أيضاً في تطوير الشراكة الاقتصادية، والسعي لإيجاد حلول للملفات المحورية، خصوصاً الملفين الأوكراني والليبي وتداعيات الأزمة في تونس.
وزاد التنسيق الجزائري-التركي بشكل لافت في الشهور الماضية، وظهر ذلك في تأسيس البلدين مجلس التعاون رفيع المستوى عشية زيارة الرئيس التركي للجزائر في يناير 2020، وكذلك زيارة وزير الخارجية التركي للجزائر في أغسطس 2021. كما تصاعد منحنى التقارب مع إعلان البرلمان الجزائري، في 16 مارس الماضي، تشكيل لجنة نيابية للصداقة مع تركيا، بهدف تعزيز التعاون بين البلدين.
مؤشرات هامة
ظهرت في الآونة الأخيرة عدة مؤشرات يمكن الاستناد إليها في قراءة التطور الحادث في العلاقات التركية الجزائرية، ومن أبرزها ما يلي:
1- الانفتاح السياسي المتبادل: يسجل الموقف الجزائري الرسمي في عهد تبون في تعامله مع السلطات التركية انفتاحاً ملحوظاً قياساً بتحفظات جزائرية في فترة الرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة. ومن جهتها، حرصت تركيا على تعزيز العلاقات مع الجزائر، وكشف عن ذلك زيارة الرئيس التركي للجزائر في يونيو 2018 ويناير 2020. كما احتفى الإعلام الرسمي الجزائري بزيارة تبون لتركيا. ومن جهته، قال الرئيس تبون في تصريحات له في 16 مايو الجاري: “إن علاقة بلاده وتركيا “قوية جدا”، معرباً عن الاستعداد لتطويرها إلى “أعلى مستوى”.
2- تعزيز التعاون الأمني: قطع البلدان شوطاً معتبراً على صعيد التنسيق الأمني، وظهر ذلك في تسليم الأمن التركي المساعد الأول المتقاعد قرميط بونويرة للجزائر، والذي كان فاراً في تركيا وهو متهم بتسريب وثائق حساسة عن الجيش الجزائري. وكان بونويرة يشغل رئيس أمانة الفريق الراحل أحمد قايد صالح رئيس أركان الجيش الجزائري.
3- قبول دعوة زيارة تركيا: دعا الرئيس التركي، في ديسمبر 2021، نظيره الجزائري لزيارة تركيا بشكل رسمي في القريب العاجل، للبحث في كيفية دفع آليات التعاون الثنائي، والعمل على تسوية الصراعات الإقليمية التي تحمل ارتدادات سلبية على البلدين. ومثّل قبول الرئيس الجزائري الدعوة نقلة نوعية في العلاقة بين البلدين، كونها تعد الزيارة الأولى لرئيس جزائري منذ سنوات طويلة، إلى تركيا.
4- إدانة تصريحات ماكرون عن الجزائر: اصطفت تركيا إلى جانب الجزائر في رفضها تصريحات للرئيس الفرنسي في أكتوبر الماضي، عندما شكك في وجود أمة جزائرية قبل دخول الاستعمار الفرنسي للجزائر 1830، فضلاً عن وصفه الوجود العثماني في الجزائر بالاحتلال. ووصفت تركيا على لسان وزير خارجيتها تصريحات الرئيس الفرنسي ضد بلاده والجزائر بأنها “شعبوية وغير مجدية”. ومن جهتها، اعتبرت الجزائر على لسان وزير خارجيتها رمطان لعمامرة، أن تركيا لاعب دولي مهم جداً، ونرتبط معها بـ”علاقات تاريخية عميقة”، واصفاً تصريحات ماكرون بـ”الخطأ الجسيم”.
دلالات متعددة
حملت زيارة الرئيس الجزائري لتركيا العديد من الدلالات الهامة، والتي يمكن إجمالها على النحو التالي:
1- ترسيخ التفاهمات في الملفات الإقليمية: إذ تبدي تركيا والجزائر مواقف داعمة في علاقاتهما، ففي الوقت الذي تتخذ فيه الجزائر موقفاً داعماً للحقوق التركية في التنقيب عن مكامن الطاقة شرق المتوسط، حيدت أنقرة موقفها حيال قضية الصحراء الغربية. وفي الوقت الذي ترفض فيه تركيا الطرح المغربي للقضية، أكدت أنّ موقفها يرتكز على مساندة لوائح وقرارات الأمم المتحدة حول النزاع، وهو موقف محل ارتياح للجزائر. كما تتقاطع رؤية الدولتين في عدد من الملفات الإقليمية. ويظهر التقارب بين البلدين في المشهد الليبي، فضلاً عن تقاربهما باتجاه رفض جانب معتبر من سياسات الرئيس التونسي ضد خصومه السياسيين في الداخل. ومن ثمّ فإن هذه الزيارة تمثل في جوهرها امتداداً طبيعيّاً لسياسة التفاهمات المتزايدة بين أنقرة والجزائر حيال القضايا الإقليمية، فضلاً عن أنها تحمل رسائل لعدد من القوى الإقليمية والدولية التي تناهض مصالح البلدين، وفي الصدارة منها باريس التي شهدت علاقاتها توتراً ملحوظاً في نمط العلاقات الدبلوماسية مع تركيا وتونس خلال الفترة الماضية.
2- تعزيز العلاقات الاقتصادية ورفع المبادلات التجارية: لا تنفصل زيارة الرئيس الجزائري لتركيا عن رغبة البلدين في تعزيز العلاقات الاقتصادية بينهما، وكشف عن ذلك توقيع الرئيس التركي ونظيره الجزائري عدداً واسعاً من اتفاقيات التعاون في المجال التجاري. ويشار إلى أن تركيا تعد بين أكبر المستثمرين في الجزائر بواقع نحو 5 مليارات دولار، حيث تنشط في الجزائر أكثر من 1300 شركة تركية يعمل بها نحو 25 ألف جزائري. كما شهد حجم التبادل التجاري الثنائي زيادة نوعية ليصل إلى ما يقرب من 4 مليارات دولار.
وخلال زيارة الرئيس الجزائري لتركيا، وعد مسؤولو البلدين برفع المبادلات التجارية المشتركة إلى 5 مليارات دولار خلال الفترة المقبلة، على أن تصل مستقبلاً إلى المستهدف، والمُقدر بنحو 10 مليارات دولار. بالتوازي مع ذلك، فإن زيارة الرئيس الجزائري أعطت دفعة نوعية لتعزيز المشاريع المشتركة في مجال الطاقة، حيث يتوقع زيادة الاستثمارات المتبادلة في هذا القطاع، خاصة بعد أن أطلقت شركة “سوناطراك” الجزائرية في العام الماضي مشروعاً ضخماً لإنتاج البوليبروبيلان في تركيا، باستثمارات تقدر بنحو 1.4 مليار دولار.
3- إعادة التموضع التركي في منطقة المغرب العربي: تعي تركيا أهمية تطوير العلاقة مع الجزائر للحفاظ على نفوذها ودورها المتنامي في منطقة المغرب العربي وشمال إفريقيا بشكل عام، وفي الجزائر بصفة خاصة، وبالتالي من المتوقع أن تعمل تركيا على استثمار زيارة الرئيس الجزائري لترسخ دورها الذي يشهد صعوداً لافتاً على حساب تراجع القوى الدولية الأخرى، وبخاصة فرنسا التي تراجع حضورها في شمال وغرب إفريقيا طوال السنوات التي خلت.
4- تنويع الشركاء الرئيسيين للجزائر: عبّرت زيارة الرئيس الجزائري لتركيا عن رغبته في تعزيز شراكات بلاده مع القوى الإقليمية الصاعدة، وفي الصدارة منها تركيا، خاصة في ظل رغبة النخب السياسية والعسكرية الجديدة والصاعدة بالمشهد الجزائري الراهن في إعادة النظر في العلاقات الجزائرية الفرنسية، والتحرر من الهيمنة الفرنسية، وإنهاء نظام الامتيازات الممنوح لفرنسا من قبل نظام حكم “بوتفليقة”. كما تكشف الزيارة عن رغبة الجزائر في تحشيد مواقف إقليمية ودولية جديدة لمصلحة قضاياها، وبخاصة قضية الصحراء، بعد تحولات مواقف الدول الأوروبية. فبعد إشادة إيطاليا في نوفمبر الماضي بجهود المغرب لتسويه قضية الصحراء، أعلنت إسبانيا في مارس 2022 دعمها للمغرب في قضية الصحراء.