تركز مليشيا الحوثي منذ انقلابها في سبتمبر 2014 وسيطرتها على العاصمة اليمنية صنعاء وعدد من المحافظات اليمنية على إحداث تغييرات في جميع أجهزة صنع القرار بمؤسسات الدولة، لفرض الفكر الحوثي الطائفي، ونالت المؤسسة القضائية الاستهداف الأكبر من جرائم الانقلابيين ما بين قمع وترهيب وقتل القضاة وتغير أسلوب العمل بهذه المؤسسات، لتحقيق جملة من الأدوات، منها التخلص من القضاة المعارضين وإحلال موالين للفكر الحوثي، وإجبار مسؤولي القضاء على تقديم استقالاتهم، وتعزيز عمل الكيانات القضائية الحوثية الموازية، والتوسع في نهب الثروات اليمنية دون إملاءات قضائية، وتوجيه ضربة إلى رجال القبائل للسيطرة على ممتلكاتهم، وتفاقم صراع أجنحة الحوثي للهيمنة على القضاء.
بعد مرور أكثر من سبع سنوات على الحرب اليمنية، أحكم الحوثي قبضته الأمنية على المؤسسة القضائية وحوّلها إلى ساحة لتصفية الخصوم وتوسيع نفوذه الطائفي وتعزيز أهدافه السياسية من جهة وإرهاب المواطنين من جهة أخرى، وخلال أسبوعين فقط شهد مجموعة من القضاة استهدافاً حوثياً ممنهجاً، كان آخره قيام عصابة مسلحة مجهولة في 1 سبتمبر 2022 باختطاف عضو المحكمة العليا اليمنية القاضي “محمد حمران” من أمام منزله بجنوب العاصمة صنعاء، وبعد مرور 24 ساعة تم قتله. وفي 25 أغسطس الماضي، قامت أجهزة الحوثي بإلقاء القبض على رئيس محكمة الحُشا الابتدائية محافظة إب القاضي “شمس الدين المليكي” لمطالبته براتبه. وفي 30 أغسطس الماضي، قام مسلحو الحوثي بمحاصرة منزل القاضي “عبدالله الجابري” رئيس محكمة جنوب غرب صنعاء. وفي 18 أغسطس 2022، أصدرت الجماعة الانقلابية قراراً يقضي بإيقاف 70 من القضاة وأعضاء النيابة لاستبدالهم بآخرين موالين لها.
وتنامت الانتهاكات الحوثية بحق مسؤولي جهاز القضاء بالتزامن مع قيام المجلس الرئاسي اليمني بقيادة “رشاد العليمي” مطلع أغسطس 2022، بإحداث سلسلة من التغييرات على مؤسسات الدولة، نالت السلطة القضائية نصيباً منها؛ إذ تمت إقالة عدد من القضاة الموالين لحزب الإصلاح الإخواني، وتعيين آخرين مؤيدين للإصلاحات الهيكلية التي يقوم بها المجلس الرئاسي، الأمر الذي يعني عرقلة محاولات استيلاء الحوثيين مجدداً على المحافظات اليمنية التي سبق وتخلى عنها الإخوان للمليشيا الانقلابية دون أية مقاومة ودون محاسبتهم قضائياً لسيطرة الموالين لهم وقتها على الأجهزة القضائية.
وفي ظل هذه التطورات، يمكن القول إن تزايد الانتهاكات الحوثية خلال الفترة الماضية بحق المؤسسة القضائية، يرجع إلى جملة من الأسباب، على النحو التالي:
حوثنة القضاء
1- التخلص من القضاة المعارضين واستبدالهم بموالين للفكر الحوثي: ينبع الهدف الرئيسي من جراء حملات الاستهداف الممنهجة التي يتعرض لها القضاة على يد مسلحي الحوثي من رغبة تلك المليشيا في التخلص من جميع المعارضين والرافضين لفكر الجماعة وخاصة القضاة المحسوبين على النظام السابق، والقيام بإحلال موالين ومؤيدين لجميع القرارات التي يصدرها الحوثي الذي أطلق منتصف أغسطس 2022 حملة للتمهيد لذلك، رفعت شعار “أنصف الناس من نفسك” بمعنى عودة العناصر الطائفية المنتمية للسلالة الحوثية الدخيلة على المجتمع اليمني لفرض نفوذهم مجدداً على الأجهزة القضائية، رغم أن القضاء اليمني من ضمن شروط الانضمام له هو أن يكون المرشح من سلالة يمنية معروفة، وفي أغلب الأوقات كان القضاء يتوارثه أبناء السلالة من آبائهم، إلا أن الحوثي أحدث تغييرات في شروط الالتحاق بالمعهد العالي لإعداد القضاة، وقصر الالتحاق به على عناصرها السلالية دون أبناء المواطنين، إلى درجة أن بعض المراقبين أفادوا بأن “وزارة العدل الحوثية حينما تدخلها تجد نفسك وكأنك داخل طهران، ولست في صنعاء”.
وفي أواخر أغسطس المنصرم، أصدر زعيم تلك الجماعة “عبدالملك الحوثي” قراراً يقضي بتعيين 1200 شخص من الموالين له والذين لا يمتلكون أي خبرة في عدة أماكن قضائية متعددة المستويات والمهام، داخل المحاكم والنيابات والهيئات القضائية، ليحلوا محل مجموعة من القضاة الشرعيين الذين اتهمهم بالخيانة العظمى والعمل لصالح القوات الشرعية اليمنية.
ترهيب الآخرين
2- إجبار مسؤولي القضاء على تقديم استقالاتهم: تستخدم الجماعة الانقلابية أبشع أدوات القمع بحق العاملين في المؤسسة القضائية بمناطق سيطرتها ما بين سجن وقتل وتعذيب ومصادرة ممتلكاتهم وعدم دفع رواتبهم واستهداف عائلاتهم، كأداة ضغط على الآخرين لإجبارهم على تقديم استقالتهم خشية التعرض لقمع تلك الجماعة، والهدف من جراء ذلك أمران، أولهما: رغبة حوثية في إيصال رسالة للمجتمع الدولي والمنظمات الدولية والحقوقية المعنية التي لطالما انتقدت حملات استهداف الحوثي للقضاة؛ مفادها أن القضاة والعاملين بالسلك القضائي هم من يقدمون استقالاتهم بمحض إرادتهم ودون أية ضغوط.
أما الأمر الثاني فينبع من القضاة أنفسهم الذي يتجهون للبحث عن مصدر آخر للعيش بعد توقف الحوثي عن دفع رواتبهم، ففي 5 يوليو 2022 قدم خمسة قضاة استقالاتهم من النيابة العامة الخاضعة لسيطرة الحوثي في صنعاء، وأفادوا في بيان لهم بأن السبب هو عدم حصولهم على رواتبهم لأشهر عدة، مما أدى إلى عجزهم عن توفير احتياجات المعيشة الأساسية لأسرهم وأطفالهم، وعدم قدرتهم على دفع إيجار المسكن، وردت الجماعة الانقلابية على هذا بإقامة دعوى تأديبية تعسفية ضد هؤلاء القضاة الخمسة بحجة عـدم مباشرتهم لأعمالهم.
المؤسسة العدلية
3- تكريس نفوذ الكيانات القضائية الحوثية الموازية: يسعى قيادات الجماعة الانقلابية إلى استحداث منظومة قضائية جديدة الهدف الرئيسي منها هو جعل كل القضاة شيعيين، وخاصة من العناصر الذين تولوا تدريبات في إيران، وهو ما دفع رئيس اللجان الثورية الحوثية “محمد علي الحوثي” أواخر عام 2020 إلى تدشين “المؤسسة العدلية” لمواجهة المؤسسة القضائية، كما تم تشكيل محاكم تفتيش جديدة كبديل عن هيئة التفتيش القضائي، وتمتلك “هيئة المظالم” التابعة لرئاسة المجلس السياسي الحوثي حق الاعتراض على الأحكام القضائية الصادرة، ولذلك وجد القيادي الحوثي أن استهداف القضاة والتحريض على قتلهم يُعد الوسيلة الأنسب لتكريس نفوذ هذه الكيانات. وهو ما يفسر سبب قيام قناة “الهوية الحوثية” قبل يومين من قتل القاضي “محمد حمران” بشن حملة إعلامية تدعو فيها لاستهداف القضاة المعارضين للجماعة، ومطالبة “محمد الحوثي” بالقيام بتلك المهمة، ولذلك جاء قرار إيقاف 70 قاضياً وعضو نيابة عن العمل بضوء أخضر من رئيس المنظومة العدلية تمهيداً لاستبدالهم بآخرين موالين للجماعة بشكل عام ومؤيدين له بشكل خاص معتمداً على بعض العناصر الذين ابتعثهم للدراسة في إيران لإعدادهم طائفياً وفكرياً وأسرياً، وهو ما دفع أعضاء “نادي قضاة اليمن” للإضراب عن عملهم احتجاجاً على مقتل “حمران” بل وطالبوا بإلغاء “المنظومة العدلية” ومحاكمة رئيسها، وإغلاق قناة “الهوية الحوثية” لتحريضهم ضد القضاة.
تقنين السرقة
4- التوسع في نهب الثروات اليمنية دون إملاءات قضائية: يعي زعيم المليشيا الانقلابية أن بعض الأجهزة القضائية والقضاة يمثلون “حجر عثرة” أمام مشروع الحوثي لنهب ثروات ومقدرات اليمنيين دون الوقوع تحت طائلة القانون، ولذلك فإن استحداث تلك الجماعة لما يسمى بـ”الحارس القضائي” في المحكمة الجزائية المتخصصة بصنعاء، يأتي من أجل “تقنين” عملية استيلاء قيادات الحوثي على الأراضي اليمنية دون شروط، ولذلك فإن مصادر مطلعة كشفت أن السبب الرئيسي وراء اغتيال القاضي “حمران” هو رفضه الموافقة على منح قيادات حوثية الضوء الأخضر للاستيلاء على بعض الأراضي في صنعاء، خاصة أنه كان المسؤول عن الأراضي والعقارات في أمانة العاصمة، وكانت لديه وثائق تدين جرائم تلك المليشيا، ومن ثم فإن تنامي ظاهرة استهداف القضاة مؤخراً هدفها تسهيل استيلاء قيادات الحوثي على الأملاك العامة للدولة ومصادرة أموال وممتلكات المواطنين بعقود ومستندات مزورة، وتطهير المنظومة القضائية من المعارضين لهذه الجرائم، واستبدالهم بآخرين موالين للجماعة يسهم في التأسيس لاستحواذهم على القضاء، وإصدار القرارات التي تخدم الجماعة وعناصرها المسلحة.
تكريس النفوذ
5- توجيه ضربة إلى رجال القبائل للسيطرة على ممتلكاتهم: توسعت حملات استهداف الحوثي للقضاة لتوجيه ضربة إلى رجال القبائل الذين تمكنوا مطلع أغسطس 2022 من الحصول على “حكم قضائي” يقضي بأحقيتهم في الأراضي والممتلكات الواقعة بمنطقة ضروان على الطريق الرابط بين العاصمة صنعاء ومحافظة عمران التي كان استولى عليها مسلحو الحوثي عنوة، وهذا الحكم أصدره القاضي “عبدالوهاب قطران” وهو أحد أبرز القياديين الحوثيين الذي انشق عنهم منذ أربع سنوات، وتحاول مليشيا الحوثي من وقتها قمع “قطران” ما بين محاولة اغتياله أحياناً وتضييق الخناق عليه أحياناً أخرى، ولكنها فشلت حتى الآن في تقويض نفوذ القاضي “قطران” الذي يقف بالمرصاد لما تقوم به هذه الجماعة الانقلابية بحق أبناء القبائل، خاصة أنها أعلنت عدم اعترافها بالحكم الصادر، مصرة على أحقيتها في الاستيلاء على أراضي أبناء القبائل الواقعة في قرية العرة بمديرية همدان شمالي صنعاء، بعدما قامت مؤخراً بتعيين شيوخ جدد موالين لها لإضعاف سلطة ونفوذ مشايخ القبائل الرافضين لتوجهاتها.
تصفية حسابات
6- تفاقم صراع أجنحة الحوثي للهيمنة على القضاء: إن تزايد حملات استهداف المؤسسات القضائية ورجال القضاء في المناطق الواقعة تحت سيطرة الانقلابيين يأتي ضمن أجندات النفوذ والمصالح بين أجنحة الحوثي المقسمة ما بين “مهدي المشاط” رئيس المجلس السياسي الأعلى الحوثي، و”محمد علي الحوثي” رئيس اللجنة الثورية العليا والمؤسسة العدلية، فكل فصيل منهما يريد إحكام قبضته الأمنية، وهو ما يدفعه للتخلص من خصوم الآخر، وقد بدأ تلك الحملة “المشاط” في مطلع أغسطس 2022 عن طريق اتجاهين، أولهما الدعم المالي للعناصر المسلحة التي ستقوم باستهداف القضاة والاعتداء على المحاكم والنيابات العامة، أما الاتجاه الثاني فهو عبارة عن دعم إعلامي وهذا ما قامت قناة “المهرية اليمنية” حينما حرضت على مقتل القاضي “حمران” وكل المخالفين لنهج الجماعة، بل ودعت إلى تحييد عمل “محمد الحوثي” لتمكن جناح “المشاط” في نهاية الأمر من إحكام قبضته الأمنية، وهو ما يجعل القضاة غير الموالين لأي جناح الضحية الأكبر من صراعات النفوذ هذه.
إمامة حوثية
خلاصة القول، إن توسع المليشيا الحوثية المدعومة من إيران في استهداف رجال القضاء والمؤسسات القضائية يُعد مخططاً ممنهجاً وربما يكون بتوجيه من نظام الوالي الفقيه، ومن المتوقع أن تتزايد هذه الهجمات الإرهابية خلال الفترة المقبلة حتى يتمكن الحوثي من إحكام قبضته بشكل كامل على المؤسسة القضائية لخدمة مشروعها الطائفي، خاصة مع التغييرات الهيكلية التي تشهدها العاصمة عدن وعدد من المحافظات اليمنية الواقعة تحت سيطرة مجلس القيادة الرئاسي، والتي بموجبها تم إحلال عدد من القيادات الجنوبية محل عناصر الإخوان في الجهاز القضائي، وهو ما يعني جاهزية المجلس الرئاسي لتحرير اليمن من قبضة هذه المليشيا الانقلابية التي أدركت ذلك، وهو ما دفعها للقيام بتغييرات ليس فقط على مستوى القضاء، وإنما شملت مناهج التعليم تغييرات كاملة وتم استبدال المناهج اليمنية بمناهج أخرى حوثية طائفية، وأصبحت المناسبات الوطنية التي يتم الاحتفال بها حوثية بالكامل، الأمر الذي يؤكد أن هذه المليشيا ماضية في القضاء على جميع المعارضين لأفكارها واستبدالهم بعناصر من السلالة الحوثية أملاً في تأسيس “إمامة حوثية” تحكم قبضتها على البلد.