في ظل استمرار الأزمة السياسية السودانية المتفاقمة منذ الانقلاب العسكري على السلطة الانتقالية، في 25 أكتوبر 2021، تتزايد مؤشرات عدم الاستقرار على المستويين السياسي والأمني، وهو ما انعكس في تجدد الاشتباكات القبلية المسلحة في عددٍ من الولايات وخاصة في دارفور، واتجاه بعض الولايات الأخرى للمطالبة بالحصول على حق تقرير المصير، وارتفاع سقف هذه المطالب إلى حدّ تهديد بعض هذه الولايات باستخدام السلاح للدفاع عن حقوقها، وإمكانية الانفصال عن باقي الدولة السودانية.
مؤشرات هامة
في أعقاب توقيع الاتفاق الإطاري بين المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير والجيش في 5 ديسمبر الماضي، بهدف تسوية الأزمة السياسية الراهنة في البلاد، والذي تضمن بنوداً تنص على انسحاب الجيش من العملية السياسية، وتنفيذ اتفاق جوبا النهائي للسلام الموقع في أكتوبر 2020، ظهرت بعض المؤشرات الدالة على اتجاه البلاد نحو مزيدٍ من الانقسام في ظل تباين مواقف كافة الأطراف الفاعلة في المشهد السياسي السوداني تجاه الاتفاق الإطاري المشار إليه، وإعلان بعض قادة أو ممثلي بعض الولايات السودانية الحصول على حق تقرير المصير، ومن ذلك ما يلي:
1- انتزاع الحكم الذاتي للولاية الشمالية: ففي 3 يناير 2023 أطلق “أبو القاسم برطم” عضو مجلس السيادة السابق ورئيس “كيان نداء الشمال” تصريحات هدد فيها السلطات الانتقالية باستخدام السلاح للمطالبة بانتزاع الحكم الذاتي، وإقامة الإقليم الشمالي حال عدم تنفيذ مطالبهم الخاصة بتحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في الولاية، وذلك اعتراضاً على ما تعانيه الولاية من تهميش سياسي واقتصادي طوال سنوات عهد نظام الإنقاذ السابق، وامتداد هذا التهميش إلى الوقت الراهن. ومن الجدير بالذكر أن “برطم” اتخذ هذا الموقف عقب إقصاء الجيش له من عضوية مجلس السيادة الانتقالي، كما أنه ينتمي لحزب المؤتمر الوطني “المنحل”، وهو ما يفسر التحول النوعي في موقفه التصعيدي الحالي ضد السلطات الانتقالية التي يترأسها المكون العسكري.
2- تشكيل حكومة لإقليم الشرق: وامتداداً لأزمة إقليم شرق السودان، أعلن رئيس المجلس الأعلى لنظارات البجا “محمد الأمين ترك”، في 2 يناير الجاري، رفضه للاتفاق الإطاري الموقّع بين الجيش وقوى الحرية والتغيير، خاصة وأنه يدعو لتطبيق اتفاق جوبا النهائي للسلام، رغم اعتراض المجلس الأعلى لنظارات البجا على ذلك ومطالبتهم بمنبر تفاوضي منفصل أو حق تقرير المصير في فترة أقصاها شهر. وهدد “الأمين ترك” بقدرته على تشكيل حكومة محلية لإدارة شؤون إقليم شرق السودان، وهو ما ظهر في منتصف الشهر الماضي عندما أعلنت اللجنة السياسية لمجلس نظارات البجا نفسها حكومة مؤقتة في شرق السودان، وذلك رفضاً منها لما تصفه بمماطلة الخرطوم في تنفيذ مطالبها بتخصيص منبر لمناقشة قضايا الشرق بدل اتفاق جوبا للسلام.
كما تمّ إعلان “المجلس الأعلى للبجا – الأمانة السياسية” وهو السلطة السيادية المعترف بها لدى شعب الإقليم والمفوضة رسمياً من هذا الشعب في عقد اجتماع مشهود في سنكات، كما تم إعلان “الهيئة العليا للمجلس” هي البرلمان التشريعي العرفي للإقليم، وأن اللجنة السيادية لتقرير المصير بلجانها المتخصصة هي الحكومة الوزارية التنفيذية المؤقتة للإقليم، وأن الملكية العرفية للأرض هي أساس ملكية الأرض في الإقليم إلى حين قيام سلطة تداولية دائمة، هذا بالإضافة إلى تأكيد اللجنة على حق سلطة الإقليم المؤقتة في إقامة مؤسسات حكم ذاتي متعددة للحكم والإدارة وتصريف الأمور، وبناء قوات عسكرية نظامية للدفاع عن الشعب وعن الحقوق، وللقيام بالدور الأمني والشرطي بالإقليم.
وأضاف البيان الصادر عن مجلس نظارات البجا أنه بناءً على ما سبق فإن اللجنة تعلن عدم اعترافها بحكومة الخرطوم، ولا بأية سلطة أو مؤسسة أو إدارة مركزية أخرى تضع يدها على موارد وثروات الشرق وحريات أهالي الشرق الطبيعيين. وللتأكيد على ذلك، استغل “الأمين ترك” الاحتفال بأعياد الاستقلال في منطقة “جبل مويتا” بولاية “كسلا” للإعلان عن حقّ تقرير المصير في الأول من يناير الجاري، وهو ما يكشف عن توجّهات أهالي إقليم الشرق الساعية لمواصلة الضغط على الجيش للحصول على حق تقرير المصير أو تعظيم مكاسبه السياسية بالحصول على مناصب سياسية في مرحلة تشكيل الحكومة الجديدة خلال المرحلة الانتقالية الراهنة.
3- مليشيات مسلحة في وسط السودان: حيث برزت ظاهرة تشكيل المليشيات المسلحة في البلاد خلال الفترة الأخيرة، ففي شهر ديسمبر الماضي تم الإعلان عن تشكيل ما يطلق عليه قوات “درع السودان” بقيادة “أبو عاقلة محمد أحمد كيكل” (ضابط بالمعاش ينحدر من سهل البطانة، وسط السودان، وبرز ناشطاً وعضواً بالمكتب التنفيذي لمنبر البطانة الحر – كيان شعبي يهتم بالشؤون العامة في هذه المنطقة)، ويبلغ عدد هذه القوات حوالي 35 ألف جندي، والعدد الكلي للمقاتلين في كافة القطاعات يزيد عن ذلك بالآلاف.
وقد نظّمت هذه المليشيات أول عرض عسكري لها بمنطقة “الجبال الغُر” في “سهل البطانة” الواقعة في وسط السودان، كما تم الإعلان عن أنّهم أنشئوا عدة قطاعات عسكرية تشمل: قطاع كردفان الكبرى، والنيل الأبيض، وسنار، وجبل موية، والقضارف، وكسلا، وبورتسودان، والبطانة، والخرطوم، وأم درمان، وبحري، والنيل الأبيض، وهو ما يؤكد على الأعداد الكبيرة لهذه القوات، وفي ذلك مؤشر هام على استعداد هذه المليشيات لاستخدام السلاح للدفاع عن مطالبها السياسية والاقتصادية، مع التصعيد بشكل أكبر إذا لم تستجب السلطات الانتقالية لهم.
عوامل دافعة
يمكن تفسير إشكالية رغبة بعض الولايات السودانية في الحصول على الحكم الذاتي أو الانفصال عن الدولة السودانية في هذا التوقيت، من خلال بعض الأسباب، ومن أبرزها ما يلي:
1- انشغال النخبة السياسية بالصراع على السلطة، يعد استمرار الصراع القائم بين المكونين العسكري والمدني على السلطة الانتقالية من أبرز العوامل المشجعة على اتجاه بعض الأقاليم التي تشهد توتراً متصاعداً مع السلطات الانتقالية لمحاولة استغلال الأزمة السياسية الراهنة وإعلان الرغبة في الحصول على حق تقرير المصير أو الانفصال عن باقي الدولة السودانية، فرغم توقيع الاتفاق الإطاري بين الجيش وقوى الحرية والتغيير قبل شهر، إلا أنه لم ينجح حتى الآن في تنفيذ بنوده وخاصة فيما يتعلق بتنظيم العلاقة بين المركز والهامش وتشكيل حكومة جديدة لإدارة شؤون البلاد، ومع استمرار الأزمة السياسية لم تفلح السلطات الانتقالية في فرض هيبة وسيادة الدولة على كافة أنحاء البلاد، مما شجع الولايات المشار إليها لرفع مثل هذه الشعارات الانفصالية.
2- التهميش السياسي والاقتصادي لبعض الولايات السودانية، لا تزال بعض الولايات السودانية تعاني من إشكالية التهميش السياسي والاقتصادي منذ عهد الرئيس المعزول “عمر البشير” وحتى الآن، ويعد ذلك قاسماً مشتركاً بين الولايات التي ترفع مطالب حق تقرير المصير أو الانفصال عن الدولة، ولا سيما في إقليم شرق السودان وكذلك في الولاية الشمالية التي يتهم أهلها الحكومة المركزية باستغلال ثرواتها الطبيعية وخاصة الذهب وعدم تخصيص جزء من عائدات هذه الثروات لتحقيق التنمية الاقتصادية في تلك الولايات.
3- عدم تنفيذ اتفاق جوبا للسلام، ومن ضمن العوامل التي تدفع هذه الولايات لرفع مطالبها الخاصة بحق تقرير المصير أو الحكم الذاتي، عدم تنفيذ اتفاق جوبا النهائي للسلام الموقع قبل عامين حتى الآن، كما أن السلطات الانتقالية فشلت في احتواء مطالب أهل الشرق بتعديل المسار الخاص بهم داخل هذا الاتفاق، وهو ما دفعهم نحو التصعيد والتهديد بإغلاق الإقليم كافة والطرق المؤدية إليه كما حدث في سبتمبر 2021 والتهديد بإعادة إغلاقه مرة أخرى بسبب عدم نجاح اللجنة العليا برئاسة “حميدتي” بالاستجابة لمطالبهم، بل وصل الأمر لاتهام هذه اللجنة بالتدخل وتزكية الانشقاقات والانقسامات داخل الإقليم في محاولة لحل هذه الأزمة، إلا أن فشلها في ذلك دفع مجلس البجا نحو مزيد من التصعيد على النحو الذي أصبحت عليه الأوضاع هناك الآن.
4- انتشار حالة الفوضى الأمنية، ترتب على تأزم الأوضاع السياسية انتشار حالة من الفوضى الأمنية في كافة أنحاء البلاد، وهو ما انعكس في تصاعد الاشتباكات القبلية المسلحة في عدد من الولايات ولا سيما في دارفور وكردفان وشرق السودان، وساعد على إذكاء هذه الاشتباكات الانتشار الكبير للأسلحة بين القبائل في هذه الولايات، ومع استمرار الأوضاع الأمنية غير المستقرة انتشرت مظاهر تشكيل المليشيات المسلحة والتهديد باستخدام الأسلحة للدفاع عن حقوق بعض الولايات الراغبة في الحصول على حق تقرير المصير.
السيناريوهات المحتملة
توجد بعض السيناريوهات المحتملة بشأن إمكانية انفصال بعض الولايات السودانية ومدى قدرة السلطات الانتقالية الحالية على التعامل مع هذه التحديات، وذلك كما يلي:
السيناريو الأول- القضاء على دعوات التفكك والانفصال، ويرجح هذا السيناريو فشل دعوات الحكم الذاتي أو الانفصال في تحقيق أهدافها المعلنة، وذلك استناداً إلى بعض الاعتبارات من أبرزها أن السلطات الانتقالية لن تسمح لأي من الولايات أو الأقاليم السودانية بتكرار تجربة انفصال جنوب السودان، واتجاه السلطات لتفعيل اللجنة العليا برئاسة الفريق أول ركن “محمد حمدان دقلو” للتفاوض مع ممثلي إقليم الشرق على وجه التحديد لاحتواء تصعيدهم الحالي تجنباً لإغلاق الإقليم بما في ذلك من تداعيات على الاقتصاد الوطني الهش، وإعلان الفريق “عبدالفتاح البرهان” رئيس مجلس السيادة أنه لن يترك إقليم الشرق لمن يعبث به كما حدث من قبل، وهي رسالة واضحة بعدم السماح لدعاوى الانفصال بأن تتحقق، كما أن رافعي دعوات حق تقرير المصير أو الانفصال ليست لديهم الخبرات السياسية أو الإمكانيات التي تؤهلهم لذلك، على أقل تقدير على المدى القصير والمتوسط، كما أن هناك انقسامات وتباينات بين ممثلي بعض الولايات مثلما هو الحال في شرق السودان وخاصة داخل المجلس الأعلى لنظارات البجا المنقسم على حاله بين فريقين لكل منهما توجهاته ومطامعه السياسية.
السيناريو الثاني– التفكك والانفصال لبعض الأقاليم والولايات، ويرجح هذا السيناريو أن تنجح بعض الولايات أو الأقاليم في مواصلة ضغوطها على السلطات الانتقالية والحصول على حق تقرير المصير أو حكم ذاتي تحت السيادة السودانية، وذلك على أقل تقدير، إن لم تمتد هذه المطالب إلى حد الانفصال عن الدولة المركزية، ويستند هذا السيناريو إلى ظهور التشكيلات العسكرية المنفصلة عن الجيش النظامي في شرق ووسط وشمال السودان، والحديث عن رفضهم استمرار التهميش السياسي والاقتصادي لهذه الولايات، في ظل حالة الضعف التي تعاني منها الدولة السودانية في الوقت الحالي، وهو ما يرفع من سقف طموحات الراغبين في الانفصال، إلا أن هذا السيناريو قد يكون أكثر تحققاً على المدى البعيد.
السيناريو الثالث- الدخول في فوضى سياسية وأمنية والانزلاق لحرب أهلية، ويرجح هذا السيناريو أن تُسهم المطالب المتزايدة بالحصول على حكم ذاتي أو حق تقرير المصير أو حتى التهديد بالانفصال عن الدولة السودانية في مزيد من تعقيد الأزمة السياسية الراهنة، مع إمكانية أن تدخل البلاد في حرب أهلية طاحنة بين المركز والهامش، مع اتساع نطاق المواجهات العسكرية المحتملة بين السلطات الانتقالية وبين الجهات المتعددة في أكثر من ولاية في الشرق والشمال والوسط، وهو ما سيزيد من فرص إضعاف الدولة المركزية في السودان.
ارتباك ممتد
الخلاصة، تكشف المطالب المتزايدة من قبل بعض الولايات السودانية بالحصول على حق تقرير المصير، عن حالة الإرباك والفوضى السياسية والأمنية التي أصبحت تتسم بها مرحلة ما بعد الانقلاب العسكري في أكتوبر 2021، كما تكشف عن تغليب المصالح القبلية ودون القومية على المصلحة الوطنية للدولة السودانية، بشكل ينذر بإمكانية اتجاه البلاد نحو حالة من الفوضى السياسية والأمنية التي قد تنزلق معها البلاد إلى حرب أهلية.
وترجح المعطيات الراهنة اقتصار المطالب الخاصة بحق تقرير المصير الحالية على مواصلة الضغط على السلطات الانتقالية لتعظيم المكاسب السياسية للقائمين على هذه المطالب، ورغم ذلك لا يمكن استبعاد احتمالات تحقق هذه المطالب على المدى البعيد، وإن كان ذلك سيظل رهناً باستمرار الأزمة السياسية الراهنة في السودان.