اتسمت العلاقة بين تركيا وإيران خلال السنوات التي خلت بالانفتاح، وسمح التعاون الاقتصادي المشترك بترسيخ هذه العلاقة، فضلاً عن نجاحات البلدين في خلق توازن معقد بشأن القضايا الخلافية بينهما، وهو توازن مدفوع بجملة من الاعتبارات الإقليمية والدولية في مقدمتها مخاطر توسع الأكراد، ولا سيما بعد النجاح الذي حققته قوات سوريا الديمقراطية في الحرب على تنظيم “داعش”، فضلاً عن التطور الحادث في العلاقات الإسرائيلية مع بعض دول الخليج. غير أن العلاقة شهدت في الآونة الأخيرة تحولات عدة، لأسباب خلافية ترتبط بالقضايا الثنائية، وأخرى تتعلق بالتطورات الإقليمية، والمواقف المتباينة التي تتبناها الدولتان تجاه بعض الأزمات.
توقيت لافت
تتصاعد التوترات المستترة بين أنقرة وطهران في توقيت لافت، حيث تتزامن مع إبداء تركيا اهتماماً خاصاً برفع مستوى التنسيق مع القوى الغربية بشأن الأزمة الأوكرانية. بالتوازي مع ذلك، فإن التوتر يتزامن مع مساعي طهران إلى استثمار التراجع الروسي على الساحة السورية، ومحاصرة التدخلات التركية في شمال سوريا.
في المقابل، فإن التوتر المستتر بين البلدين لا ينفصل عن جهود أنقرة للقفز على الضغوط الإقليمية والدولية التي تتعرض لها في المرحلة الحالية، وذلك على المستويات المختلفة، وظهر ذلك في التقارب التركي مع دول الخليج، وترطيب العلاقة مع واشنطن وأوروبا. لكن في المقابل لا تزال القضايا الخلافية هي العناوين الأبرز في علاقات إيران مع الغرب والخليج، وهي خلافات يمكن أن تساهم في تضييق هامش المناورة وحرية الحركة المتاحة أمام طهران على الساحتين الدولية والإقليمية، بينما تفتح الباب واسعاً أمام صعود النفوذ الإقليمي لتركيا.
مؤشرات متباينة
شهدت الأشهر القليلة الماضية العديد من المؤشرات التي تكشف عن تصاعد التوتر المستتر بين أنقرة وطهران، والتي ربما تحمل ارتدادات سلبية على مساحات التقارب بينهما، وعلى مصالحهما المشتركة، ويمكن بيان ذلك على النحو التالي:
1- الخلاف حول بناء السدود على الأنهار الحدودية: دخل المناخ مرحلة الشحن بين أنقرة وطهران، وتزايدت الخلافات حول عدد من القضايا الثنائية المهمة، وفي الصدارة منها السدود التركية على المعابر المائية العابرة للحدود، والتي أثارت قلق طهران، خاصة أن السدود التي دشنتها تركيا تسببت -إلى حدّ كبير- في تقليص حصة طهران من الماء. وأدت أزمة السدود التركية إلى توتر غير مسبوق مع طهران، إلى حد أنها باتت تهدد بحرب سدود محتملة في ظل تنافس البلدين غير المرتبطين باتفاقية حول إدارة الثروة المائية العابرة للحدود. ولهذا أعرب وزير الخارجية الإيراني، في 10 مايو الجاري، عن استيائه أمام البرلمان الإيراني من قيام تركيا ببناء سدود على الأنهار الحدودية بين البلدين، وأضاف “أنه ليس من المقبول لإيران أن تقوم تركيا بإجراءات في مجال بناء السدود تكون نتيجتها مشاكل للشعب الإيراني وشعوب المنطقة، ونعلن بصوت عالٍ معارضتنا لهذه الإجراءات”.
2- تصاعد فرص التنسيق بين تركيا وإقليم كردستان العراق حول مشاريع الطاقة: وهو ما توازى مع صعود أولوية أنقرة كناقل لغاز الإقليم إلى أوروبا خلال المرحلة المقبلة، في سياق مساعي أوروبا لتقليل الاعتماد على الغاز الروسي، حيث تزايدت حدة المنافسة بين تركيا وإيران. وتعي طهران أن دخول أنقرة على خط مشاريع نقل غاز إقليم كردستان يمثل خصماً من قدراتها في مواجهة الضغوط الغربية عليها. وتصاعدت المخاوف الإيرانية مع تكثيف أربيل جهودها لتعزيز علاقاتها في مجال الطاقة مع الجهات الإقليمية الفاعلة، وبخاصة تركيا، لتعويض الإمدادات الغازية الروسية لأوروبا.
وفي ظل تغيّر الأولويات السياسية لدى إقليم كردستان، واتجاه الإقليم نحو زيادة النفوذ التركي في المشهد السياسي العراقي؛ يمكن تفسير الهجمات الإيرانية على مدينة أربيل في مارس الماضي، حيث بدت بمثابة رسالة إلى تركيا بشأن صادرات النفط والغاز للإقليم عبر تركيا، حيث لا ترغب إيران في تشجيع فرص تصدير غاز إقليم كردستان العراق في هذا التوقيت عبر تركيا، لا سيما وأن صناعة النفط والغاز الإيرانية لا تزال تحت العقوبات، ولا تزال نتيجة المفاوضات مع الولايات المتحدة والقوى الأوروبية بشأن أزمة البرنامج النووي الإيراني غير مؤكدة.
3- التقارب التركي مع الرؤية الغربية حيال النووي الإيراني: وجهت تركيا في الآونة الأخيرة انتقادات غير مسبوقة هي الأولى من نوعها للبرنامج النووي الإيراني. وفي هذا السياق، أشار السفير التركي لدى واشنطن “حسن مراد مرجان” في مقال له على موقع مركز “موشيه ديان لدراسات الشرق الأوسط”، في أبريل الماضي، إلى أن برنامج إيران النووي يُهدد تركيا وإسرائيل على حد سواء، وشدد في مقاله على ضرورة التعاون المشترك بين تركيا وإسرائيل للتعامل مع التهديدات الإقليمية.
ويُعبّر مقال السفير التركي عن تحول نوعي في الموقف التركي من البرنامج النووي الإيراني، والذي ظل يتسم لوقت طويل بالثبات، ويؤكد حق إيران في امتلاك التكنولوجيا النووية للأغراض السلمية. ويشار إلى أن تحولات الموقف التركي حيال البرنامج النووي الإيراني قد تستمر خلال المرحلة المقبلة، وخاصة بعدما شهدت العلاقة بين أنقرة وتل أبيب تطوراً ملحوظاً بعد سنوات من القطيعة، فضلاً عن المصلحة المشتركة للطرفين بعدم امتلاك إيران سلاحاً نووياً. كما أن التحولات التركية حيال البرنامج النووي الإيراني لا تنفصل عن التقارب الحادث في العلاقة بين أنقرة وواشنطن مؤخراً، واتجاه واشنطن إلى حل القضايا الخلافية مع النظام التركي، وظهر ذلك في مطالبة إدارة بايدن، في أبريل الماضي، الكونغرس بالموافقة على بيع أسلحة متطورة منها مقاتلات F16 لتركيا، تقدر قيمتها بنحو 400 مليون دولار.
كما سعى الرئيس بايدن مؤخراً إلى تعزيز التفاهمات مع الرئيس التركي أردوغان، خاصة بعد دوره في عملية الوساطة لحل الصراع الأوكراني، وهو الأمر الذي وفر بيئة خصبة للقفز على جانب معتبر من الملفات الشائكة بين أنقرة وواشنطن. وتعي طهران أن التطبيع التركي الإسرائيلي الأخير، وكسر حدة التوتر بين أنقرة وواشنطن على خلفية تنسيقهما المشترك في الأزمة الأوكرانية؛ يؤدي إلى اختلال التوازنات القائمة في المنطقة لغير صالح قضايا إيران الملحة، وبخاصة برنامجها النووي. وهنا، يعتقد بعض المراقبين أن اتجاه إيران، في 28 يناير الماضي، لقطع الغاز الطبيعي عن تركيا لمدة ١٠ أيام، كان بمثابة رسالة سياسية توجهها طهران لأنقرة.
4- الخيارات المضادة تجاه بؤر الصراعات الإقليمية: لا ينفصل التوتر المستتر بين أنقرة وطهران في هذا التوقيت عن الخيارات المضادة للبلدين في ساحات الصراع الإقليمية، والتي وصلت إلى الذروة في ظل الانشغال الروسي بالحرب في أوكرانيا. فبينما تتصاعد المخاوف التركية من تنامي نفوذ طهران على الساحة السورية بعد تراجع حضور موسكو، تُبدي الأخيرة قلقاً من زيادة الأنشطة العسكرية التركية في شمال سوريا، وهو ما قد يؤدي إلى احتمال مواجهة بين تركيا وجماعات مرتبطة بإيران على الساحة السورية. بالتوازي مع ما سبق، فإن تركيا ترى أن موقف طهران المتطرف والمتشدد في العراق، واتصالاتها مع منظمة العمال الكردستاني التي انتعشت بصورة لافتة مؤخراً؛ بات ينعكس على الأمن القومي لتركيا ومصالحها في الإقليم.
5- تصاعد الانتقاد الداخلي الإيراني لتركيا: كشفت التغطية الإعلامية الإيرانية لتحركات السياسة الإقليمية لتركيا خلال الفترة الأخيرة عن غضب إيراني حيال هذه السياسات، وظهر ذلك في مواصلة الصحافة الإيرانية خطابها المعادي لقرار أنقرة نقل ملف قضية مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي للقضاء السعودي، كما تبنى الإعلام الإيراني نهجاً متشدداً حيال التقارب التركي مع إسرائيل، واعتبر أن تطبيع العلاقات بين تل أبيب وأنقرة أدى إلى تمادي “الكيان الصهيوني” في إجراءاته القمعية والعنف الذي يمارسه ضد الفلسطينيين.
ضبط الخلاف
ختاماً، يمكن القول إنه بالرغم من مؤشرات كاشفة عن عمق التوتر المستتر بين أنقرة وطهران؛ إلا أن ثمة اعتبارات عديدة تدفع الطرفين إلى محاولة ضبط حدود هذه الخلافات، خلال المرحلة المقبلة، في إطار ما يمكن تسميته “توافق الضرورة” الذي تفرضه المصالح الخاصة بكل من البلدين، خاصة أن أنقرة وطهران تجمعهما علاقات تاريخية، إضافة إلى توافقهما على ضرورة تعزيز العلاقات الاقتصادية، وتعظيم المبادلات التجارية. كما أن البلدين لا يزالان بحاجة إلى منع وصول العلاقة إلى مرحلة الصدام، وذلك في إطار حرصهما على تحييد الضغوط الغربية عليهما، ومساومة القوى الغربية بشأن القضايا الخلافية.