بات الساسة الإيرانيون منذ سقوط العاصمة الأفغانية كابل في يد حركة “طالبان” في شهر أغسطس 2021، مترددين للغاية إزاء طريقة التعامل مع التطورات المتعاقبة على الساحة الأفغانية. فعلى الرغم من دعواتهم المتكررة، التي بلغت ذروتَها في أعقاب مقتل قائد فيلق القدس السابق التابع للحرس الثوري قاسم سليماني خلال يناير 2020، لخروج القوات الأمريكية من المنطقة ومن بينها أفغانستان؛ إلا أن الوضع في كابل ما بعد 15 أغسطس الماضي يقلق إيران بشدة. إذ تخشى طهران كثيراً مما آلت إليه الحالة الأمنية الراهنة في أفغانستان؛ إثر تصاعد نفوذ تنظيم “داعش-خراسان” الإرهابي هناك والذي يُعد بدوره أحد أبرز التهديدات الكبرى التي تواجهها طهران في الإقليم، كما لم تحسم إيران قرارها بعد فيما يتعلق بطريقة التعامل المُثلى مع “طالبان” التي أصبحت الحاكم الفعلي لأفغانستان في الوقت الحالي، والكيفية التي سيتم التعامل بها مع احتمالات تزايد الاعتراف الدولي بطالبان.
تباينات الداخل
عند النظر بإمعانٍ داخل مجتمع الساسة ورجال الدين الإيرانيين في الوقت الحالي، سنجد اختلافاً كبيراً بين التصريحات الرسمية وما يعبر عنه هؤلاء المسؤولون المشار إليهم في طهران داخل وسائل الإعلام أو في الجلسات التي يعقدها بعض المفكرين والمنظرين ويحضرها بعض المهتمين. فعلى إثر سقوط كابل في يد “طالبان” العام الجاري، انقسم المجتمع الإيراني مباشرة إلى قسمين، منهم من يرى هذا السقوط أمراً “مخططاً له” لأهداف إقليمية أو دولية وهو الفريق الذي يُعارض بشدة الاعتراف بـ”طالبان”، وآخرون يعتقدون أن الانسحاب الأمريكي من أفغانستان وما تبعه من سقوط العاصمة في يد الحركة ما هو إلا نتيجة لـ”هزيمة الولايات المتحدة”، وأنّ البرنامج الإيراني الرامي إلى خروج واشنطن من المنطقة قد بدأ يدخل مرحلة التطبيق العملي.
وقد اعتقد هذا الفريق الأخير أن التطورات على الساحة الأفغانية تسير في صالح إيران، وأن على الأخيرة الاعتراف بـ”طالبان”. بل إن من يؤيدون الاعتراف، وعلى النقيض من الرؤى المعتادة لدى مُنَظِّري النظام الإيراني، رجحوا بأن “طالبان” اليوم ليست كما كانت قبل 20 عاماً، وأنها لم تعد ضد الطائفة الشيعية.
ومن الجدير بالذكر أنه على الرغم من أن هذا الانقسام كان بارزاً أكثر بين السياسيين أنفسهم وبعض رجال الدين؛ إلا أن الرأي العام الإيراني الذي يمثله الشعب كان رافضاً منذ البداية ليس فقط للاعتراف بالحركة الأفغانية، بل للحديث معها بالأساس، علاوة على أن طيفاً واسعاً من رجال الدين كان حذراً منذ البداية من وصول “طالبان” لحكم أفغانستان، علاوة على استبعاده أي اعتراف إيراني بها.
ولعلّ أحد مقاطع الفيديو على موقع “آبارات” الإيراني الشهير، النسخة الإيرانية المحلية من “يوتيوب”، توضح لنا طبيعة هذا الأمر. ففي شهر يناير الماضي، وفي وقتٍ مبكر قبل سقوط كابل، نشر الموقع شريطاً مُصَوَّراً مُسجَّلاً تحت عنوان “طالبان في إيران.. ماذا يقول الناس؟” استطلع القائمون عليه آراء مواطنين إيرانيين من العوام في الشارع حول زيارة وفد من الحركة للبلاد. وفيه، اتفق جميع من شاركوا في الإدلاء بالرأي المُشار إليه على معاداة “طالبان”.
أسباب رئيسية
بدأ هذا الانقسام “غير الحاد” داخل إيران بين الطرفين يتحول بمرور الأيام لصالح الطرف الأول، الذي يرفض الاعتراف بـ”طالبان” حتى بين كبار مسؤولي النظام ومن بيدهم صناعة القرار. وقد ساعد على بروز ذلك العديدُ من العوامل الرئيسية المتمثلة فيما يلي:
1- العلاقة بين طالبان والشيعة الأفغان، وخاصة شيعة الهزارة، إذ إن النظام الحالي في إيران لطالما وصف نفسه بأنه الداعم الأول للطائفة الشيعية، ولطالما حذّر “طالبان” أيضاً من الاعتداء على شيعة أفغانستان. وتزايدت مخاوف الإيرانيين شعباً ونظاماً من استهداف الحركة للشيعة في الداخل، سواء عن طريق تهجيرهم أو اضطهادهم بأي شكلٍ من الأشكال. وقد تضاربت الأنباء في كثير من وسائل الإعلام الإقليمية والدولية حول تهجير الحركة لشيعة أفغان أو قتل بعضهم، ولكن الجميع أكد على اتخاذها منهجاً غير مناسب معهم، كان من بين أحد دلائله إزالة “طالبان” خلال الشهر الجاري تمثالاً لأحد زعماء الشيعة الهزارة الأفغان وهو “عبد العلي مزاري” الذي قتلته “طالبان” عام 1995، واعتبرته الحكومة السابقة في كابل شهيداً.
إن القلق الإيراني من اضطهاد الحركة للشيعة الأفغان لا يتوقف عند حد كونهم شيعة فقط، بل يمتد إلى كونهم “احتياطياً استراتيجياً” للنظام السياسي الإيراني في الإقليم، وليس فقط في أفغانستان. إذ إن عدداً من وسائل الإعلام الإيرانية قد عبّرت صراحة عن مخاوف طهران من تهجير أو تفريغ أفغانستان من الشيعة بعد وصول الحركة إلى الحكم في أغسطس الماضي، مما يستتبعه فقدان النظام لأحد أهم حلفائه الاستراتيجيين في المنطقة، أو كما دأب الإعلام في إيران على إطلاق لفظ “احتياطيي الأيام الصعبة” على هذه الطوائف أو ما شابهها.
وعلى سبيل المثال، نشر موقع “دنياى اقتصاد-عالم الاقتصاد” الإيراني الذي يبث من العاصمة طهران يوم 12 أكتوبر 2021، موضوعاً تحت عنوان “التهجير القسري؛ اضطهادٌ آخرُ في سجل طالبان” قال فيه إن شيعة ولاية “دايكندي” الأفغانية الواقعة وسط البلاد يتعرضون لتهجير قسري وإحراق للمنازل وحتى القتل من دون محاكمة، موضحة أن من يتعرضون لذلك في الولاية هم الشيعة الهزارة.
2- حجر عثرة أمام النموذج الإيراني في آسيا الوسطى: لا شك أن اعترافاً دولياً بحكم “طالبان” في أفغانستان -إن حدث- سيمثل تهديداً جوهرياً لنظام الحكم في إيران. إذ إن الحركة من ناحية تُعد سنية، وهو ما يتناقض مع طبيعة نظام الحكم القائم في إيران الذي يقوم على المذهب الشيعي الاثني عشري. وليس هذا التناقض هو الأهم، بل إن التشابهات القائمة من ناحية أخرى بين نظام حكم الطرفين، طبقاً لما يوضحه ما يُعرف بـ”دستور طالبان” الصادر عام 2005، تجعل هناك تهديداً لنفوذ النظام الإيراني في إقليم آسيا الوسطى. فالجمهورية الإسلامية الإيرانية شيعية المذهب سوف تواجه في هذه الحالة نموذجاً آخر مخالفاً ممثلاً في “إمارة أفغانستان الإسلامية” في كابل.
ويجيء هذا التهديد في ظل محاولات عديدة للنظام الإيراني خلال السنوات الماضية لتصدير نموذجه إلى دول الجوار في الإقليم الواقع شرق وشمال البلاد على وجه التحديد، وقدّم نفسه على أنه المدافع عن الشيعة في تلك المنطقة. ونظراً لأن أغلبية الدول المجاورة لإيران في المنطقة المُشار إليها سنية، باستثناء أذربيجان التي وإن كانت أغلبيتها شيعية إلا أنها تتبع نظام الحكم العِلماني، فقد واجه النظام الإيراني صعوباتٍ كثيرة في ذلك، إلا أن سياسته ارتكزت على دعم الشيعة في هذه الدول، ومحاولة دعم أحزاب أو حركات شيعية بها، مثلما هو الحال في طاجيكستان.
وعليه، فإن تأسيس “طالبان” لنظام حكم “سني” في أفغانستان سوف يعني نشأة عائق جغرافي أمام التواصل الإيراني مع شعوب آسيا الوسطى، وأيضاً بروز تهديد كبير لنفوذها السياسي والاستراتيجي في تلك المنطقة. بل إن الأكثر تهديداً لنفوذ طهران الإقليمي في هذه المنطقة سيتمثل في استقرار العلاقات بين “طالبان” وحكومات دول وسط آسيا، إن حدث ذلك، حيث سيمثل هذا ضربة كبرى لنفوذ النظام الإيراني في هذه المنطقة الحيوية.
3- صعود باكستاني صيني على حساب إيران والهند: حيث تنظر إيران إلى أفغانستان على أنها الامتداد التاريخي والثقافي لها، فلهما تاريخ مشترك ولغة واحدة يتحدث بها الأفغان إلى جانب البشتو، علاوة على الثقافة المتقاربة. وإلى جانب هذا، أصبحت إيران على مدار السنوات الماضية، وتحديداً منذ عام 2001، أحد أكبر الشركاء التجاريين الرئيسيين لأفغانستان، كما أن الأخيرة أضحت أحد أهم المنافذ الكبرى لإيران للإفلات من العقوبات الأمريكية خلال السنوات الماضية. وحاولت إيران منذ رحيل “طالبان” عن السلطة في عام 2001 توسيع صادراتها وزيادة حجم تجارتها وتعزيز العملية الاقتصادية بينها وبين أفغانستان. فاستثمرت إلى جانب ذلك في مشاريع للبنى التحتية، علاوة على كونها مصدراً رئيسياً للوقود إلى أفغانستان.
وفي هذا الإطار، فإن أغلب الساسة الإيرانيين يرون في “أرض الأفغان” عمقاً استراتيجياً وأمنياً للبلاد، مما يجعلهم في توجس دائم من سقوطها في يد أي طرف معادٍ لها، بمعنى توليه السلطة في كابل.
وليس بعيداً عن هذا، يخشى الإيرانيون من توسع النفوذ الباكستاني، الجارة الجنوبية لأفغانستان، أو الصيني في أفغانستان، خاصة في مرحلة ما بعد 15 أغسطس 2021. إذ إنه بينما كانت إسلام آباد تتمتع بنفوذ جلي في كابل خلال السنوات الماضية، فقد بات وصول “طالبان” إلى السلطة مؤشراً قوياً على إمكانية تعزيز وتوسع هذا النفوذ وذلك الدور. فقومية البشتون التي تنحدر منها أغلبيةُ عناصر “طالبان” تتمتع بعلاقات قوية داخل باكستان. ولعل التنافس الإقليمي بين إسلام آباد وطهران يجعل الأخيرة في حالة توجس غير عادية إزاء التطورات المتلاحقة في أفغانستان.
وقد توافقت خلال العقود الماضية مصالحُ إيران مع الهند على حساب المصالح الصينية الباكستانية في أفغانستان، ونشأ ما يشبه الصراع الخفي بين الكتلتين في كابل، وحاولتا على مدار هذه الأعوام كسب النفوذ سياسياً واقتصادياً داخل الأراضي الأفغانية. فالصراع الهندي الباكستاني، والصيني الهندي، نجد صداه هنا في كابل.
وقد يفسر هذا التنافس محاولة بكين خلال الأشهر الماضية إطلاق حوار سلمي مع “طالبان” وترحيبها على لسان المتحدث باسم وزارة خارجيتها، وانج ون بين، بإعلان الحركة في سبتمبر الماضي عن تشكيل الحكومة، قائلاً إن “الإعلان أنهى أكثر من 3 أسابيع من الفوضى، ويُعد خطوة ضرورية نحو استعادة النظام وإعادة الإعمار بعد الحرب”. ولعل تركيز تصريحات المسؤول الصيني الكبير على إعادة الإعمار يحمل دلالاتٍ واضحة على رغبة الصين في تعزيز تواجدها الاقتصادي داخل أفغانستان مستقبلاً.
ختاماً، بقدر ما تشكل العوامل السابقة محفزاً للهواجس الإيرانية من احتمالات الاعتراف الدولي بحركة طالبان، فإن طهران قد لا تجد في حالة الاعتراف الدولي بحكم الحركة، بُداً سوى التعامل مع “طالبان”، ومحاولة فتح جسور للتعاون معها وضمان أمن الشيعة المحليين والمرور الآمن لآسيا الوسطى، فضلاً عن تعزيز أطر التبادل التجاري، وإلا فسوف تتضرر مصالحها كثيراً على المستويات السياسية والاقتصادية.