اندلعت اشتباكات مسلحة بين الجيش المالي و”تنسيقية الحركات الأزوادية”، بصورة مفاجئة، في 11 أغسطس الجاري، استمرت لساعات في بلدة بير بمنطقة تمبكتو، التي تخضع لسيطرة الأخيرة، بما يزيد التخوفات من انعكاساتها على الحالة الأمنية في مالي، وامتداداتها في منطقة الساحل، خاصة في ظل الاضطرابات التي تشهدها دول الجوار، لا سيما بوركينافاسو والنيجر.
ورغم أن الجيش المالي أعلن، بعد يومين من الاشتباكات، السيطرة على قاعدة كانت تتبع لقوات حفظ السلام في بلدة بير، إلا أن ذلك لا ينفي أن المواجهات قد تتجدد بين الطرفين خلال المرحلة القادمة، خاصة أن مُحفِّزاتها ما زالت قائمة بقوة.
أبعاد رئيسية
يمكن الإشارة إلى أبعاد المواجهات المسلحة بين الجيش المالي و”تنسيقية الحركات الأزوادية” في شمال البلاد، وذلك على النحو التالي:
1- مواجهات ممتدة وليست عابرة: رغم تضارب الروايات بين طرفي المواجهات حيال المسئولية عن اندلاع الأزمة، إلا أنه بدا واضحاً أن هذه الاشتباكات ليس عابرة، وإنما امتدت لساعات بين الطرفين خلال يوم الجمعة الماضي، خاصة مع إشارة “تنسيقية الحركات الأزوادية” إلى أن الجيش المالي استخدم طائرات لقصف مواقع تابعة لها.
واللافت أن المواجهات لا تعكس أن الاشتباكات وقعت بين خطوط التماس بين مناطق سيطرة “الحركات الأزوادية” ومناطق سيطرة الجيش المالي، وإنما يتبادل الطرفان الاتهامات بأن المواجهات كانت بسبب هجوم، إذ تزعم “تنسيقية الحركات الأزوادية” أنها تصدت لهجوم من قبل الجيش المالي، في حين أن الأخير يزعم أنه تصدى لهجوم من جانب الأولى.
ويبرز من خلال استمرار المواجهات لساعات، والتي ربما تتجدد خلال الفترة المقبلة، أن الطرفين لم يحرصا على وقف الاشتباكات المسلحة سريعاً، على خلفية التوترات التي يشهدها المسار السياسي لاستكمال تنفيذ بنود اتفاق السلام بين “الحركات الأزوادية” التي كانت تطالب بانفصال الشمال، والسلطة الانتقالية التي جاءت عقب انقلاب عسكري.
2- التركيز على نطاق جغرافي محدد: كان لافتاً أن المواجهات المسلحة التي اندلعت ظلت في نطاق جغرافي معين ولم تتوسع لتشمل جميع أنحاء منطقة تمبكتو. وقد تركزت هذه المواجهات، وفقاً لرواية طرفي المواجهات، في نطاق بلدة بير. وبقدر ما يشير ذلك إلى احتمالات عدم رغبة الطرفين في توسيع نطاقها وتحولها إلى اشتباكات مفتوحة، فإنه يكشف أن الطرف المسئول عن الهجوم يسعى إلى تحقيق أهداف محددة، جراء اندلاع المواجهات، في ظل استمرار التوترات بين الطرفين، إلى حد انسحاب وفد “تنسيقية الحركات الأزوادية” من العاصمة المالية.
3- حدود دور مجموعة “فاجنر”: لم يكشف بيان الجيش المالي عن تفاصيل المواجهات، واكتفى بالإشارة إلى تعرض قوات من الجيش لهجوم من عناصر “الحركات الأزوادية” في الشمال، إلا أن “تنسيقية الحركات الأزوادية” أشارت إلى مشاركة عناصر من مجموعة “فاجنر” في المواجهات إلى جانب الجيش.
ويطرح ذلك تساؤلات عديدة حول حدود دور مجموعة “فاجنر” في مالي، وهل يقتصر على التدريب فقط، أم يتخطى ذلك إلى المشاركة في العمليات القتالية إلى جانب الجيش المالي، خاصة مع إعلان جماعة “نصرة الإسلام والمسلمين” الإرهابية أنها تصدت لعمليات الجيش وعناصر “فاجنر”، بشكل أسفر عن مقتل بعضهم.
وبشكلٍ عام، فإن نفوذ “فاجنر” المتزايد في مالي يطرح تساؤلات أيضاً حيال حدود التأثير على عملية صنع القرار، بما ينسحب على المواجهات الأخيرة مع “الحركات الأزوادية”.
مُحفِّزات عديدة
في ظل تعقيدات المشهد في شمال مالي خلال الأعوام القليلة الماضية، على أكثر من مستوى سواء أمنياً أو سياسياً أو اقتصادياً، فإن المواجهات التي اندلعت بين الجيش المالي و”الحركات الأزوادية” في شمال البلاد، تأتي في ظل عدد من العوامل المُحفِّزة التي يتمثل أبرزها في:
1- تداعيات تصاعد التوتر وفشل المفاوضات: تتسم العلاقة بين السلطة الانتقالية في مالي منذ الانقلاب العسكري عام 2020، و”تنسيقية الحركات الأزوادية” التي تطالب بانفصال الشمال، قبل توقيع اتفاق السلام برعاية جزائرية عام 2015، بالتوتر الشديد، على خلفية تعثر مسار المفاوضات بين الطرفين، لتنفيذ بنود اتفاق السلام.
وخلال العامين الماضيين، توجه “الحركات الأزوادية” اتهامات للسلطة الانتقالية بعرقلة بنود الاتفاق، بما يشير إلى انسداد في مسار المفاوضات خلال الفترة الماضية، وبالتالي فإن المواجهات التي اندلعت أخيراً بين الطرفين تمثل انعكاساً لهذه الحالة، خاصة مع بدء انسحاب ممثلي “تنسيقية الحركات الأزوادية” من العاصمة، قبل وأثناء اندلاع المواجهات، بدعوى أن الوضع الأمني غير مناسب في العاصمة.
ولم تسفر جهود الجزائر عن تقريب وجهات النظر بين الطرفين، خاصة مع تأكيد “تنسيقية الحركات الأزوادية” على الاستعداد للدفاع عن حقوقها، خلال اجتماع في الجزائر عقد مطلع أغسطس الجاري.
2- احتمالات تأثير الحكومة على جهود التسوية: اتصالاً بانسداد مسار المفاوضات بين السلطة الانتقالية و”تنسيقية الحركات الأزوادية”، وانعكاسات ذلك على اندلاع مواجهات بين الطرفين، فإنه من المحتمل أن تكون الاشتباكات محاولة من جانب السلطة الانتقالية في مالي للتأثير على مسار المفاوضات.
إذ من شأن الاشتباكات، خاصة إذا ما كانت ناتجة عن تحركات من قبل الجيش المالي باتجاه مناطق سيطرة “تنسيقية الحركات الأزوادية”، أن تكون رسالة مفادها أن الانسحاب أو تراجع الانخراط في المفاوضات سيؤدي إلى اندلاع مواجهات بين الطرفين، وتزايد احتمالات التراجع عن بنود اتفاق السلام، واعتبار “تنسيقية الحركات الأزوادية” منظمة إرهابية، خاصة أن بيان الجيش المالي لإعلان السيطرة على القاعدة العسكرية في بلدة بير التي شهدت الاشتباكات، أشار إلى “الاشتباك مع إرهابيين”.
3- صراع ثنائي على قواعد “مينوسما” الأممية: قرر مجلس الأمن الدولي، في 30 يونيو الفائت، إنهاء مهام بعثة حفظ السلام الدولية في مالي المعروف بـ”مينوسما”، بناءً على مطالبات السلطة الانتقالية عقب الانقلاب العسكري. وعلى الرغم من امتداد مهلة سحب القوات حتى نهاية العام الجاري، إلا أن عمليات إجلاء القوات وإخلاء القواعد العسكرية التي كانت تتمركز فيها قوات “مينوسما”، تجري بشكل تدريجي.
وهنا، فإن الاشتباكات الأخيرة بين الجيش المالي وعناصر من الحركات الأزوادية ربما جاءت في إطار صراع على السيطرة على القواعد التي تخليها قوات حفظ السلام، خاصة مع تأكيد الجيش المالي في بيان له السيطرة على القاعدة العسكرية في بير، والتي كانت مخصصة لقوات حفظ السلام، عقب انسحابها في 13 أغسطس الجاري.
وبالنظر إلى توقيت الاشتباكات (11 أغسطس الجاري)، الذي استبق عملية الإخلاء المفاجئ لقوات حفظ السلام، فإن ذلك يعني أن الجيش المالي ربما حاول استباق أي تحركات من قبل “تنسيقية الحركات الأزوادية” للسيطرة على القاعدة عقب إخلائها.
4- تأمين “التنسيقية” السيطرة على الشمال: يمكن النظر إلى اندلاع المواجهات بين الطرفين في إطار مواجهة أي تحركات للجيش المالي للتقدم باتجاه مناطق سيطرة “تنسيقية الحركات الأزوادية” خلال الفترة المقبلة، خاصة عقب انسحاب قوات حفظ السلام.ويبرز في هذا السياق إقدام عناصر “الحركات الأزوادية” على مواجهة الجيش المالي بشدة لمدة تمتد لساعات، مع تأكيدات سابقة بالدفاع عن حقوقهم في الإقليم.
وهنا، كان لافتاً استخدام بيان “التنسيقية” عن المواجهات مع الجيش المالي مصطلح “التصدي” وليس “اندلاع اشتباكات”، وهو ما يحمل دلالات ثلاث: الأولى، محاولة تحميل الجيش المالي مسئولية الاشتباكات، باعتبار أنه هو من حاول التقدم باتجاه مناطق سيطرة “تنسيقية الحركات الأزوادية”.
والثانية، استدعاء العامل الخارجي في المواجهات، بالإشارة إلى مشاركة عناصر “فاجنر” مع الجيش المالي لمحاولة التقدم في بلدة بير. والثالثة، أن عناصر “الحركات الأزوادية” كانت في موقف دفاعي، للتصدي لأي تقدم للجيش المالي خلال الفترة المقبلة.
ضغوط متزايدة
من شأن المواجهات الأخيرة التي وقعت بين الجيش المالي و”الحركات الأزوادية” في شمال البلاد أن تزيد من تعقيدات الأزمة الأمنية التي تشهدها مالي خلال السنوات الماضية، خاصة مع إمكانية أن تؤدي تلك الاشتباكات إلى تعطيل اتفاق السلام، عقب انسداد مسار المفاوضات بين الطرفين.
وربما يؤدي تكرار مثل هذه الاشتباكات خلال الفترة المقبلة، والانخراط في مسار المواجهات المفتوحة، إلى زيادة حدة الضغوط التي تتعرض لها مالي، مع تصاعد النشاط الإرهابي داخلها، وامتداد نطاقه إلى دول منطقة الساحل، وتحديداً بوركينافاسو والنيجر، خاصة بعد الانقلاب العسكري الذي شهدته الأخيرة في 26 يوليو الفائت.