أعلنت تونس مطلع ديسمبر 2023 أنها ستفرض ضرائب جمركية على عدد من الواردات التركية، ضمن مراجعة لاتفاقية التجارة مع تركيا الموقّعة في العام 2004، والتي دخلت حيز التنفيذ في العام 2005، في خطوة تُظهر توجهاً مغايراً للحكومة التونسية يستهدف التقليل من خسائر إغراق الأسواق التونسية بالبضائع التركية خلال السنوات العشر الأخيرة، بعد فتح حركة النهضة الباب أمام أنقرة للإمساك بمفاصل الاقتصاد التونسي. وقررت حكومة الحشاني فرض الضرائب على المنتجات التركية مثل الملابس والمواد الغذائية، وغيرها من المنتجات التي لها مثيل في الأسواق المحلية، والتي تضررت بسبب اكتساح المنتجات التركية للسوق التونسية.
سياقات معقدة
تزامن قرار الحكومة التونسية بفرض ضرائب على المنتجات التركية، مع تصاعد أزمة الاقتصاد التونسي، وعدم قدرة المنتجات المحلية على منافسة البضائع التركية، إذ تسببت الاتفاقية التجارية مع تركيا في فقدان من 50 إلى 70 ألف عامل تونسي لوظائفهم.
بالتوازي، ارتفعت أرصدة الديون الخارجية بنهاية سبتمبر 2023 لتصل إلى ما يقرب من 39 مليار دولار، أي ما يعادل نحو 21% من أصول القطاع المصرفي، وهو ما دفع الحكومة التونسية للاقتراض الداخلي. وثمة تقديرات خارجية تشير إلى أن تونس ربما تتخلف عن سداد الديون المستحقة، إذ كشفت مؤسسة “كابيتال إيكونوميكس” البحثية في سبتمبر الماضي، عن ارتفاع استحقاقات الدين العام إلى مستويات غير مسبوقة.
على صعيد متصل، جاء قرار فرض ضرائب على المنتجات التركية مع تعثر المفاوضات مع صندوق النقد الدولي للحصول على تمويل بقيمة 1.9 مليار دولار، بسبب إصرار الصندوق على رفع الدعم عن قطاعات استراتيجية، وهو ما أثار مخاوف الرئيس التونسي من الارتدادات الاجتماعية المحتملة حال الموافقة على اشتراطات الصندوق.
في المقابل، جاء القرار التونسي مع تنامي التوتر المكتوم مع أنقرة التي عبرت عن رفضها لمحاكمة عناصر حركة النهضة، ودعت تونس إلى ضرورة التخلي عن الإجراءات السلطوية ضد “النهضة”. وهنا، يمكن فهم تصريحات الرئيس التركي في أبريل الماضي، حيث أعلن عن أنه سيتحدث مع السلطات التونسية لنقل مخاوفه حيال توقيف رئيس حزب النهضة راشد الغنوشي.
اعتبارات متنوعة
ثمّة العديد من الاعتبارات التي تقف وراء التحرك التونسي لفرض ضرائب على المنتجات التركية، وهو ما يمكن بيانه على النحو التالي:
1- معالجة العجز التجاري مع تركيا: يشكل العجز التجاري إحدى المشاكل الرئيسة للاقتصاد التونسي، إذ ارتفع إلى نحو 60% في خلال العام 2022 ليصل إلى مستوى قياسي بلغ 6,63 مليارات دولار. ويؤدي اتساع العجز التجاري إلى زيادة فجوة التمويل الأجنبي، والذي يتزامن مع ارتفاع أرصدة الديون.
وفي هذا الإطار، يمكن فهم التحركات التونسية لمعالجة الارتدادات السلبية التي أحدثتها اتفاقية التجارة مع تركيا، وأهمها رفع الرسوم من حالة الإعفاء الكامل حالياً (صفر) إلى نسب تتراوح بين 27% و37.5%. وتجدر الإشارة إلى أن الميزان التجاري التونسي شهد عجزاً مع تركيا من يناير إلى أكتوبر 2023، وصل إلى أكثر من 770 مليون دولار مع تراجع الواردات التركية بنسبة 23% عن الفترة نفسها في عام 2022، وفق بيانات المعهد التونسي للإحصاء.
2- موازنة الفوائد بمنح المنتجات الغذائية والفلاحية التونسية امتيازات في السوق التركية: مع حدود المحاولات التونسية التي جرت خلال السنوات التي خلت لضبط إيقاع الميزان التجاري مع تركيا، وتعزيز الاستفادة المتبادلة، بالإضافة إلى عدم نجاح آليات رفع التعريفات التجارية على بعض السلع التركية، وهو إجراء تسمح به مواد الاتفاق؛ اتجهت الحكومة التونسية إلى القرار الحالي برفع التعريفة على الواردات التركية، في إطار سعيها لتقليص العجز التجاري من جهة، والضغط على أنقرة لمنح المنتجات الغذائية والفلاحية التونسية امتيازات في السوق التركية من جهة أخرى، وتحديد حجم الصادرات التونسية من هذه السلع في صورة حصص سنوية معفاة من الرسوم الجمركية، بالإضافة إلى دفع تركيا لزيادة استثماراتها في السوق التونسية من جهة ثالثة.
3- حماية الصناعات والمنتجات المحلية: لا ينفصل قرار تونس بفرض رسوم ضريبية على المنتجات التركية عن محاولة الحكومة التونسية حماية الصناعات المحلية التي تعرض قطاع معتبر منها للإغلاق والتآكل بسبب الامتيازات التي منحتها اتفاقية التجارة مع تركيا، حيث لم تساهم فقط في إغراق السوق التونسية من السلع والمنتجات التركية، بل سمحت للبضائع التركية التي تتميز بالجودة والرخص في آن معاً بتعظيم منافستها للمنتجات المحلية التونسية، مثل المنسوجات والجلود وغيرها.
4- مطالبة بعض الاقتصاديين بفرض الضريبة: مع تفاقم أوضاع الاقتصاد التونسي، والذي وصل إلى مستوى غير مسبوق من الضعف بسبب جائحة كورونا، والحرب الروسية الأوكرانية، بالإضافة إلى ارتدادات حرب غزة؛ اقترح العديد من النشطاء والاقتصاديين التونسيين ضبط دخول البضائع التركية للأسواق التونسية، أو على الأقل فرض ضريبة على السلع التركية التي لها منتجات شبيهة في الأسواق المحلية، خاصة أن السلع التركية أضرت بالصناعات المحلية، وتسببت في ركود البضائع التونسية، جنباً إلى جنب مع إغلاق أنشطة عدد واسع من المنشآت الاقتصادية، أو على الأقل أسهمت في ارتفاع خسائرها.
5- الرد على الدعم التركي لحركة النهضة: على الرغم من اعتراف تركيا بشرعية البرلمان التونسي الجديد، وضبط مواقفها بشأن توجهات الرئيس قيس سعيد، وممارساته التضييقية ضد حركة النهضة، ومنها عزل تيار النهضة من الحياة السياسية التونسية؛ إلا أن العديد من التقديرات تشير إلى أن معارضة أنقرة لمحاكمة الغنوشي، وتوقيف عدد من عناصر النهضة خلال الفترة الأخيرة، ربما دفع الرئيس قيس سعيد لدعم المطالب المتعلقة بإعادة النظر في اتفاقية التجارة الحرة مع تركيا.
وتثير المواقف التركية الداعمة لحركة النهضة استياء داخلياً من جانب الرئيس سعيد والأحزاب والقوى السياسية الداعمة له، والتي دعت إلى ضرورة إعادة النظر في المبادلات التجارية مع تركيا، خاصةً أن هناك اتهامات لحركة النهضة بفتح المجال أمام تركيا لإغراق الأسواق المحلية التونسية بالمنتجات التركية من دون الأخذ في الاعتبار المصالح الاقتصادية للدولة التونسية.
انعكاسات محتملة
الأرجح أن قرار تونس بإقرار ضريبة على المنتجات التركية يحمل في طياته انعكاسات محتملة، في الصدارة منها أنه قد يسهم في إعادة تشكيل العلاقات الاقتصادية بين تونس وتركيا بما ينعكس على حركة الاستيراد والتصدير بين البلدين وعلى حجم الاستثمارات، فربما يؤدي فرض قواعد جديدة تتضمن ضرائب على السلع التركية إلى مراجعة المستثمرين والشركات التركية لعلاقاتهم الاقتصادية مع الأسواق التونسية، مما يسهم بدوره في تقليص حجم المبادلات التجارية بين البلدين.
بالتوازي، قد يُسفر القرار التونسي عن زيادة مساحات التوتر السياسي بين تونس وأنقرة، وهنا يمكن مسارعة الحكومة التونسية للتأكيد على أنها ليست الوحيدة التي تتجه نحو سن ضرائب على المنتجات الوافدة، وأشارت إلى أن العلاقات الاقتصادية الدولية الراهنة تطبق النمط ذاته، وهو ما ظهر مؤخراً في فرض الولايات المتحدة ضريبة على المنتجات الصينية والأوروبية التي تدخل إلى الأسواق الأمريكية، بهدف حماية المنتجات المحلية، وتعزيز قدرتها على المنافسة، خاصة أن المنتجات الوافدة رخيصة وبعضها مدعوم من الدولة.
إضافة لما سبق، فإنه في حال عدم توافق تونس وتركيا على الوصول إلى اتفاق بشأن التعريفات الجمركية التي تصر عليها الأولى، فربما يدفع ذلك تركيا لإلغاء الاتفاقية، بيد أن هذا السيناريو مستبعد، حيث ستعمل تركيا على احتواء الموقف التونسي حفاظاً على مصالحها التجارية والاستثمارية.
إجراء ضروري
ختاماً، يمكن القول إن قرار تونس بفرض ضرائب على المنتجات التركية يبقى ضرورياً من وجهة النظر التونسية، ليس فقط لتشجيع وحماية المنتجات المحلية، وإنما في إطار محاولات الرئيس سعيد إقالة الاقتصاد المتعثر من خلال تدابير موارد محلية، خاصة في ظل ارتفاع كلفة الاستجابة لاشتراطات جهات الاقتراض الخارجية.