يأتي التوجه الألماني لمحاصرة دور الأئمة الأتراك في سياق عدة مستجدات، وليست حرب غزة الراهنة سوى أحد هذه التحولات، ومنها أيضاً اتهامات للأئمة الأتراك بالتجسس على المهاجرين الأتراك في ألمانيا، بالإضافة إلى محاولة الاتحاد الإسلامي التركي “ديتيب” تصدير خطاب أصولي في ألمانيا. بيد أن التحول في المقابل ربما ارتبط بمتغيرات في الداخل الألماني، في الصدارة منها صعود التيار اليميني الألماني في السياسة والإعلام والفكر، وانتشار الإسلاموية، بما في ذلك المواقف النقدية المتبادلة بين الرئيس التركي والمستشار الألماني ضمن تحولات وتطورات أخرى.
فقد أعلنت وزارة الداخلية الألمانية، في 14 ديسمبر الجاري، عن الإلغاء التدريجي لبرنامج مشترك بين البلدين يتم بموجبه إرسال أئمة أتراك إلى المساجد في ألمانيا، مع الإشارة إلى أن هذه الخطوة ستعزز اندماج المسلمين في ألمانيا، وتوفر بيئة مناسبة لترسيخ خطاب ديني مستنير يتوافق مع خصوصية الإرث الثقافي والديني في البلاد. وتعتبر أجهزة الأمن الألمانية أن هذا الاتفاق كان مثار جدل طوال السنوات التي خلت، لا سيما وأن ثمة شكوكاً بشأن الدعاة الذين يتم إرسالهم عادة إلى ألمانيا، إذ كشفت تقديرات محلية في ألمانيا أنهم يتبعون تعليمات هيئة الشؤون الدينية التركية، ناهيك عن ضعف إدراكهم لواقع الحياة في المجتمع الألماني.
أبعاد متشابكة
تزامن قرار وزارة الداخلية الألمانية مع مجموعة من التطورات والأبعاد الشائكة بين البلدين، وهو ما يمكن بيانه على النحو التالي:
1- بلورة برنامج وطني لتدريب الأئمة في المجتمع الألماني: مع تصاعد الجدل في الأوساط الرسمية الألمانية بشأن استقدام الأئمة الأتراك، وتراجع الصورة الذهنية للأئمة الأتراك في المجتمع الألماني بعد اتهامات لهم بالتجسس على خصوم النظام التركي، اتجهت الحكومة الاتحادية لدعم تدريب أئمة إضافيين في الداخل من خلال تبني استراتيجية تعتمد على تدريب ما يقرب من 100 إمام في ألمانيا كل عام، وعلى أن يحل هؤلاء الأئمة تدريجياً محل الأئمة الأتراك للعمل في المساجد بألمانيا، بالإضافة إلى وضع أجندة مغايرة لعمل هؤلاء الأئمة، تتضمن بالأساس دروس اللغة الألمانية، والتعاليم الدينية الإسلامية، وكذلك التاريخ الألماني، والقضايا والقيم المجتمعية والسياسية. وهنا، يمكن فهم تصريحات وزيرة الداخلية الألمانية، التي قالت في بيانٍ لها: “نحتاج وعاظاً يتحدثون لغتنا ويعرفون بلدنا ويدافعون عن قيمنا”. وأضافت: “هذه ركيزة أساسية لاندماج ومشاركة الجاليات المسلمة في ألمانيا”.
2- تباين الرؤية بين برلين وأنقرة حول حرب غزة الخامسة: برز التباين بين أنقرة وبرلين بشأن الحرب على غزة بصورة لافتة، وظهر ذلك في التصريحات الحادة التي أطلقها الرئيس أردوغان عشية زيارته لألمانيا، في 17 نوفمبر الماضي، ففي الوقت الذي أدان فيه أردوغان المواقف الألمانية الداعمة لإسرائيل، أشار إلى أنّ موقف برلين يأتي بدافع الشعور بالذنب من محارق النازية، وذلك خلافاً لتركيا التي قال إنها قادرة على التحدث بلا انحياز. وكانت ألمانيا قد أعلنت عن دعمها المطلق للعمليات العسكرية الإسرائيلية ضد غزة، بالإضافة إلى تبنّيها سلسلة من الإجراءات الاستثنائية لدعم تل أبيب، تضمنت حظر التظاهرات الداعمة للفلسطينيين في المدن الألمانية ومحاصرة أنشطة عناصر حماس على أراضيها.
3- إدانة الاتحاد الإسلامي التركي العقاب الجماعي للمدنيين في غزة: على الرغم من رفض المراكز الإسلامية في ألمانيا، وفي الصدارة منها “المجلس الأعلى للمسلمين” والاتحاد الإسلامي التركي “ديتيب” الإرهاب و”معاداة السامية”، والتأكيد على رفض استهداف المدنيين في غلاف مستوطنات غزة عشية عملية “طوفان الأقصى” التي أطلقتها المقاومة الفلسطينية؛ إلا أنّ ذلك لم يكن كافياً، فقد أدانت الأوساط الألمانية المتشددة سياسة المراكز الإسلامية، ومنها مؤسسة “ديتيب”، بسبب دعوته إلى ضرورة وقف سياسة العقاب الجماعي للمدنيين في غزة.
4- تصاعد الخلاف حول شرعيّة حماس: شهدت الفترة الماضية خلافاً لا تخطئه عين بين أنقرة وبرلين بشأن الموقف والرؤية لحركة حماس، فبينما رفضت أنقرة اعتبار حماس إرهابية، وصنفتها حركة مقاومة مشروعة، دعت ألمانيا، في 11 ديسمبر الجاري، الاتحاد الأوروبي إلى وضع خطة عقوبات خاصة لاستهداف حركة المقاومة الإسلامية الفلسطينية (حماس)، وذلك في اجتماع لوزراء خارجية التكتل الأوروبي. كما أعلنت النيابة العامة الفيدرالية الألمانية، في 14 ديسمبر 2023، توقيف أربعة أشخاص في ألمانيا وهولندا، يُشتبه بانتمائهم إلى حركة حماس، بتهمة التخطيط لـ”اعتداءات محتملة على مؤسسات يهودية في أوروبا”.
ولم تكن هذه الإجراءات الألمانية هي الأولى من نوعها، ففي 28 نوفمبر الماضي، دشنت ألمانيا حملة استهداف وتعقّب للإسلاميين المتعاطفين مع حماس، حيث استهدفت الشرطة الألمانية 15 موقعاً لأعضاء ومتعاطفين مع حركتَي حماس و”صامدون” الفلسطينيتين بعد حظرهم في 2 نوفمبر الماضي. وكانت وزيرةُ الداخلية الألمانية نانسي فيزر، قد أشارت -في بيان لها- في نوفمبر الماضي إلى أنّ الأجهزة الأمنية ستواصل التحرك ضد الكيانات والجمعيات الإسلامية الموجودة على أراضيها، والمتعاطفة مع حماس.
دلالات مهمة
تعكس الإجراءات الألمانية الأخيرة بشأن الأئمة الأتراك جملةً من الدلالات المهمة، على النحو التالي: أولها، اتساع الهوة بين أنقرة وألمانيا حيال العديد من الملفات الخلافية، بدءاً من الحرب على أوكرانيا ومروراً بحرب غزة، والجدل بشأن شرعية المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي. كما ازداد توتر العلاقة بين أنقرة وبرلين على خلفية اتهامات للأئمة للأتراك بتصدير خطاب أصولي لمصلحة النظام الحاكم في تركيا، ناهيك عن عدم انسجام هذا الخطاب مع واقع الشباب المسلم في مجتمعات الهجرة، بسبب الإصرار على تقديم مواعظ مؤدلجة لا تنفصل عن قيم وأفكار نظام الحكم في تركيا.
وثانيها، التأكيد على حزم الموقف الألماني حيال منع استقدام الأئمة الأتراك، حيث يأتي قرار وزارة الداخلية الألمانية في ظل تضييق المؤسسات الرسمية الألمانية على نشاط المنظمات الإسلامية، والتي وصلت إلى الذروة بعد الحرب على قطاع غزة، حيث تفشى خطاب الكراهية ضد المسلمين والمؤسسات الدينية الإسلامية،وهو ما يعكس رغبة ألمانيا في إضفاء الطابع الجاد على الجهود التي تقودها وزارة الداخلية الألمانية من أجل تقييد عمل هذه المنظمات، وخصوصاً الكيانات التركية المتغلغلة في المجتمع الألماني.
وتجدر الإشارة إلى تصاعد حوادث الإسلاموفوبيا في ألمانيا في ضوء الاستقطاب السیاسي الحاد الذي أحدثته العمليات العسكرية الإسرائيلية على قطاع غزة. ووفقاً لتقديرات محلية، فقد تنامى الشّعور العام بین الجالیات المسلمة في ألمانيا بعدم الأمان، وبرز ذلك في تصاعد العداء تجاه المهاجرين، بالإضافة إلى استهداف تجمعات التضامن مع غزة منذ بدایة الحرب، كما أشار توقيت الإعلان عن قرار الداخلية الألمانية بعد زيارة الرئيس التركي الأخيرة لألمانيا، والتي أحدثت جدلاً حاداً بسبب إدانة أردوغان للسياسات الألمانية تجاه المسلمين والأوضاع في غزة.
وثالثها، يُعبّر عن رغبة برلين في قطع الطريق على النظام التركي بشأن الاستثمار السياسي للأئمة الأتراك، إذ إن ثمّة شكوكاً مستمرة بشأن تورط أنقرة في توظيف الأئمة التابعين لها للتجسس على مواطنين أتراك في ألمانيا. ويشار إلى أن ثمة قناعة ألمانية بأن الأئمة الأتراك يعدون واجهة خفية لتشكيل الحياة الدينية للأتراك المقيمين في أوروبا لخدمة أهداف سياسية. كما أنّ ثمة دوراً محورياً لتكريس توجهات سلطة الحكم في تركيا، قام بها الاتحاد التركي الإسلامي للشؤون الدينية. وبرغم أنّ الاتحاد الذي تأسس في العام 1924، كان الهدف منه الحفاظ على الإسلام في الجمهورية التركية العلمانية، لكن بحسب مسؤولين ألمان، فقد تحول في عهد أردوغان إلى أداة سياسية لتعزيز مصالح حزب العدالة والتنمية.
اتساع التوتر
ختاماً، يمكن القول إن التوجه الألماني نحو محاصرة استقدام الأئمة الأتراك قد يدفع نحو اتساع رقعة التوتر بين أنقرة وبرلين، ناهيك عن أنه سيسحب من الرصيد التقليدي لتركيا في المجتمع الألماني، خاصةً أنها تعتمد على المنظمات الدينية الممولة لها، سواء في التأثير على الجالية التركية المقيمة في ألمانيا أو توظيف هذه المؤسسات كأوراق ضاغطة على برلين في القضايا الخلافية. بيد أن ذلك قد لا يجعل العلاقة تصل إلى حد القطيعة، فثمة مصالح أمنية واقتصادية تدفع البلدين إلى ضبط خلافاتهما وعدم وصولها إلى حافة الهاوية.