رغم أن التداعيات التي تفرضها قضية اللاجئين على التفاعلات الإقليمية والدولية خلال السنوات الماضية ليست جديدة، إلا أن ذلك لا ينفي أنها ما زالت تطرح إشكاليات متجددة باستمرار على نحو يبدو جلياً في الأزمة التي تصاعدت حدتها على الحدود بين بيلاروسيا وبولندا في بداية نوفمبر الجاري. وبقدر ما استدعت القضية أبعاداً إنسانية عديدة ودفعت الدول والمؤسسات والمنظمات الدولية إلى صياغة برامج لمساعدة الدول المُستقبِلة في التعامل مع الضغوط الاقتصادية والاجتماعية الناجمة عن تدفق اللاجئين، فإنها أيضاً اجترت أبعاداً سياسية هامة، إذ باتت قضية اللاجئين ورقة تُوظِّفها بعض الدول من أجل ممارسة ضغوط على أطراف دولية وإقليمية أخرى ومساومتها، ناهيك عن استخدام بعض الدول للاجئين كأداة للرد على السياسات السلبية من جانب أطراف أخرى. فضلاً عن ذلك، فقد استمرت قضية اللاجئين كقضية كاشفة للمعضلات التي تواجهها العديد من دول الشرق الأوسط وخصوصاً أن الموجة الراهنة من اللاجئين في الدول الغربية انطلقت من الشرق الأوسط على خلفية الصراعات الحادة التي شهدتها المنطقة منذ عام 2011.
تصعيد متواصل
لم تنقطع أزمة اللاجئين، وانعكاساتها على التفاعلات الإقليمية والدولية، خلال السنوات الأخيرة بالرغم من حالة التهدئة النسبية التي شهدتها بعض الصراعات مؤخراً. فقد عادت القضية إلى الواجهة مجدداً، في بداية نوفمبر الحالي، عقب اندلاع أزمة اللاجئين على الحدود بين بيلاروسيا وبولندا، وهى القضية التي تتداخل فيها العديد من دول الشرق الأوسط، بالإضافة إلى بيلاروسيا والدول الأوروبية، إذ أن نسبة كبيرة من اللاجئين العالقين في بيلاروسيا قادمة من منطقة الشرق الأوسط، وبعضهم جاء عبر تركيا، حيث بات اللاجئون ينظرون إلى بيلاروسيا كمنطقة عبور للدول الأوروبية.
كما طرحت قضية اللاجئين والهجرة غير الشرعية نفسها على أجندة العلاقات البريطانية- الفرنسية، في 24 نوفمبر الجاري، إثر غرق 27 شخصاً أثناء محاولاتهم عبور بحر المانش من فرنسا، حيث قال رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون أنه “صُدِم بما حدث، وأن المملكة المتحدة لن تدخر جهداً لوقف عصابات الإتجار بالبشر”، وأضاف أن “المملكة المتحدة وفرنسا اتفقتا على الحاجة إلى بذل المزيد من الجهد”. كما قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن “فرنسا لن تدع (بحر المانش) يصبح مقبرة”، وأضاف أنه منذ بداية العام الجاري، ألقى القبض على 1552 مهرباً في شمال فرنسا وفُككت 44 شبكة تهريب. إلا أنه لم يكتف بذلك، بل حذّر رئيس الوزراء البريطاني من استغلال الأزمة سياسياً.
وفي سياق متصل، لا تزل قضية اللاجئين واحدة من القضايا الرئيسية في السياسة الخارجية التركية وخاصة مع اتجاه أنقرة إلى إعادة اللاجئين السوريين إلى سوريا، حيث صرح وزير الخارجية التركي مولود تشاويش أوغلو، في 15 سبتمبر الماضي، بأن “بلاده تعمل مع وكالة اللاجئين التابعة للأمم المتحدة لإعادة السوريين إلى وطنهم مجدداً”، وهو الأمر الذي تزامن مع تحركات تركية للتفاوض مع الدول الأوروبية لمواجهة أزمة اللاجئين الأفغان التي اندلعت عقب سيطرة حركة “طالبان” على السلطة في منتصف أغسطس الماضي.
دلالات جوهرية
يستدعي تجدد الإشكاليات التي تفرضها أزمة اللاجئين عدداً من الدلالات الجوهرية على مستوى التفاعلات الإقليمية والدولية، ويتمثل أبرزها في:
1- تعميق حدة التأزم السياسي: أفضت قضية اللاجئين إلى تعميق حدة التأزم السياسي بين عدد من الدول، ولعل هذا ما يتضح من نمط العلاقات الفرنسية- البريطانية في الوقت الراهن، فبعد نحو شهرين من التوتر الذي هيمن عليها بسبب الإعلان عن إطلاق شراكة دفاعية بين الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا واستراليا تحت مسمى معاهدة “أوكوس”، والتي خسرت على إثرها فرنسا عقداً ضخماً لبيع غواصات لاستراليا، جاءت قضية المهاجرين لتعمق من التأزم السياسي ومعضلة الثقة بين بريطانيا وفرنسا، لاسيما بعد غرق 27 شخصاً أثناء محاولاتهم عبور بحر المانش من فرنسا. فكلتا الدولتين حمّلت الأخرى مسئولية غرق المهاجرين، فعلى سبيل المثال، صرح رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، في 24 نوفمبر الحالي، بأن هناك “صعوبات في أقناع الفرنسيين للتصرف بطريقة نعتقد أن الوضع يقتضيها”، وأضاف أنه “من الواضح أن المحاولات الفرنسية لمنع مغادرة قوارب المهاجرين لم تكن كافية”.
ودخلت الأزمة بين الدولتين مرحلة جديدة بعد إعلان فرنسا، بعد ذلك بيومين، إلغاء الحضور البريطاني لاجتماع مخصص لأزمة المهاجرين، مقرر له يوم 28 من الشهر نفسه، وهو القرار الذي جاء على خلفية رسالة من رئيس الوزراء البريطاني يطلب فيها من فرنسا استعادة المهاجرين الذين وصلوا بطريقة غير قانونية إلى المملكة المتحدة، وهى الرسالة التي قوبلت بانتقاد من جانب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي صرح، في 26 نوفمبر الجاري، بأن “لندن غير جادة بشأن ملف المهاجرين”. ورداً على سؤال حول رسالة رئيس الوزراء البريطاني، قال ماكرون: “أستغرِب الأساليب عندما لا تكون جدية”، وأضاف: “لا يتم التواصل بين مسئول وآخر بمسائل كهذه عبر تويتر وعبر نشر رسائل”.
2- الرد على العقوبات الأوروبية: وهو النمط الحاضر في أزمة اللاجئين العالقين بين بيلاروسيا وبولندا، والتهديد البيلاروسي بفتح الحدود أمام اللاجئين ليدخلوا إلى الدول الأوروبية. إذ توجه الأخيرة اتهامات إلى الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو بالتسبب في تكوين حشود ضخمة من المهاجرين على الحدود في الأسابيع الأخيرة. كما صرح الرئيس البيلاروسي في أكثر من مناسبة بأنه لن يمنع أى شخص من عبور الأراضي البيلاروسية للوصول إلى الكتلة الأوروبية. وتعكس هذه السياسة ديناميات العلاقة بين النظام البيلاروسي والاتحاد الأوروبي، وخاصة بعد فرض الاتحاد عقوبات على بيلاروسيا في أعقاب الانتخابات الرئاسية المتنازع عليها في عام 2020. ومن ثم، يبدو أن لوكاشينكو يراهن على قضية اللاجئين كأداة للرد على العقوبات الأوروبية، وربما أيضاً من أجل ممارسة ضغوط على أوروبا لتخفيف العقوبات المفروضة.
ويعزز من هذه الفرضية التصاعد في حدة التصريحات بين بيلاروسيا والدول الأوروبية، حيث خرج وزير الدفاع البيلاروسي فيكتور خرينين، في 12 نوفمبر الجاري، ليهدد الدول الأوروبية ويقول: “يبدو أن جيراننا في الغرب، وخصوصاً بولندا، مستعدون لإشعال نزاع يرغبون في أن يجروا أوروبا إليه”، محذراً من أن “القوات المسلحة في بيلاروسيا مستعدة للرد بقسوة على أى هجوم”.
3- الاستقطاب بين روسيا والغرب: أضفت أزمة اللاجئين المزيد من الزخم على الاستقطاب والصراع القائم بين روسيا والدول الغربية، لاسيما مع التصعيد الملحوظ في العلاقات بين بيلاروسيا، المدعومة من موسكو، والدول الأوروبية، وتهديد الأخيرة بفرض عقوبات على بيلاروسيا واتهامها بمحاولة ابتزازها عبر ورقة اللاجئين. وفي خضم هذا التوتر، عبّرت موسكو عن دعمها للنظام البيلاروسي من خلال إرسال قاذفتين استراتيجيتين بقدرات نووية للقيام بدورية في المجال الجوي لبيلاروسيا في 12 نوفمبر الجاري. ويلاحظ في هذا السياق، أن موسكو تتهم أوروبا بعدم الالتزام بـ”المُثُل الإنسانية” الخاصة بها ومحاولة “خنق” بيلاروسيا بخطط إغلاق جزء من الحدود. كما دعا وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف الدول الأوروبية إلى “عدم الانجرار إلى دوامة خطيرة بشكل واضح”.
4- التوظيف التركي لملف اللاجئين: ما زالت تركيا حريصة على مواصلة توظيف ملف اللاجئين كورقة لممارسة ضغوط ومساومة الدول الأوروبية لتحقيق مصالح محددة. فقد ارتبط الاتفاق بين الدول الأوروبية وتركيا، الذي تم التوصل إليه في 18 مارس 2016، بشأن تنظيم أوضاع اللاجئين، بمحاولة أنقرة الحصول على مكاسب في إطار ملف الانضمام للمنظومة الأوروبية، فضلاً عن سعيها لإعادة تأكيد أهمية دورها للدول الغربية في مواجهة المشكلات الناتجة عن منطقة الشرق الأوسط.
وقد أعادت الأزمة الأفغانية الاعتبار لهذا النهج التوظيفي التركي، وخاصة مع إعلان أنقرة رفض استقبال اللاجئين الأفغان، ومطالبة الدول الأوروبية بضرورة التدخل لمواجهة أزمة اللاجئين. إذ أكد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أثناء اتصال هاتفي مع المستشارة الألمانية المنتهية ولايتها انجيلا ميركل، في 21 أغسطس الماضي، أن “بلاده لا تستطيع تحمّل عبء هجرة إضافية من أفغانستان”، وأضاف، منتقداً الاتحاد الأوروبي، أن “الموقف المتردد للاتحاد الأوروبي في شأن تلبية تطلعات تركيا المشروعة المتمثلة بتحديث اتفاق الهجرة المبرم في 18 مارس 2016، يؤثر سلباً على إمكان التعاون في مجال الهجرة”. وعكست هذه التصريحات محاولة أنقرة للضغط على الدول الأوروبية، وربما تهديد هذه الدول بموجة جديدة من اللاجئين الأفغان في حال إذا لم تقدم المزيد من التمويل لأنقرة لمواجهة تداعيات قضية اللاجئين، وكذلك دفع هذه الدول لتقليص حدة انتقاداتها للسياسة التي تتبناها أنقرة على المستوى الداخلي.
5- دعم الخطاب اليميني المتطرف: أدى تصاعد أزمة اللاجئين إلى دعم الخطاب اليميني المتطرف في الدول الغربية، ولاسيما مع تجاوز العديد من الدول للبعد الإنساني في قضية اللاجئين وتحويلها إلى مجرد ورقة سياسية تستخدم لتحقيق مكاسب محددة. فعادة ما يعزى صعود اليمين المتطرف في أوروبا، في السنوات الأخيرة، إلى التدفقات الهائلة من المهاجرين من منطقة الشرق الأوسط، والتي أدت إلى احتكاكات ثقافية واقتصادية بين المجتمعات الأوروبية وهؤلاء المهاجرين، إذ نظرت قطاعات كبيرة من الأوروبيين إلى المهاجرين بوصفهم تهديداً كبيراً لأمن مجتمعاتهم، وهى النظرة التي أكسبت الخطاب اليميني المزيد من الزخم. فعلى سبيل المثال، خاض الحزب اليميني الألماني “البديل من أجل ألمانيا” الانتخابات التشريعية الأخيرة، في 26 سبتمبر الماضي، ببرنامج انتخابي يقوم على الصرامة في مواجهة الهجرة واللجوء، وترحيل اللاجئين، وينتقد الحزب نظام اللجوء القائم، ويدعو إلى نظام حماية على أساس النموذج الاسترالي، والذي ينص على رفض طالبي اللجوء عند الحدود.
6- إدارة الخلافات حول قضايا أخرى: بدت قضية اللاجئين في بعض الأحيان أداة للاعتراض السياسي من جانب بعض الدول تجاه سياسات الدول الأخرى، ولعل النموذج الأهم على ذلك، حالة المغرب وأسبانيا والأزمة التي تصاعدت بينهما في الشهور الماضية، وبالتحديد في 20 مايو الماضي، عقب تجاوز آلاف الأشخاص الحدود إلى مدينة سبتة. لقد عبرت هذه الأزمة عن خلافات أعمق بين الدولتين نتجت عن استقبال أسبانيا لزعيم جبهة “البوليساريو” إبراهيم غالي بدعوى تلقي العلاج الطبي، وهو الأمر الذي أثار حفيظة المغرب. وفي سياق هكذا، عكست قضية المهاجرين الخلافات حول قضية الصحراء. وقد أصدرت وزارة الخارجية المغربية بياناً في 31 من الشهر نفسه، جاء فيه أن “مثول زعيم جبهة تحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب (البوليساريو) إبراهيم غالى، أمام القضاء الأسبانى في أول يونيو خطوة إيجابية”، مؤكدة في الوقت نفسه على أن “محاكمة غالى ليست جوهر الأزمة الدبلوماسية مع أسبانيا”، وأضاف البيان أن “عمق الأزمة الحالية مع أسبانيا يتمثل في كسر الثقة بين الشريكين والصورة العدائية التي تعاملت بها مع موضوع الصحراء التي تشكل قضية مقدسة بالنسبة للشعب المغربي”.
ملف ضاغط
على ضوء ذلك، يمكن القول إن ملف اللاجئين والمهاجرين سوف يبقى محوراً رئيسياً له دور في تحديد اتجاهات التفاعلات بين دول منطقة الشرق الأوسط والقوى الدولية المعنية بأزماتها والمنخرطة فيها، خاصة في ضوء استمرار تعثر الجهود المبذولة لتسوية تلك الأزمات، فضلاً عن عدم البدء في عمليات إعادة الإعمار في بعض الدول التي تشهد تهدئة أو تراجعاً في حدة الصراع العسكري.