أعلن تنظيم “داعش” عن زعيمه الجديد بعد مضيّ نحو 35 يوماً على مقتل أبو إبراهيم الهاشمي القرشي، في عملية إنزال أمريكية في 3 فبراير 2022، واكتفى التنظيم بإعلان كنية الزعيم الجديد أبو الحسن الهاشمي القرشي من دون الكشف عن هويته الحقيقية. وبمقارنة كلمة إعلان تنصيب أبو الحسن وسلفه أبو إبراهيم في 2019، يمكن القول إن كلمة المتحدث الإعلامي الجديد أبو عمر المهاجر تعبر عن خطاب أزمة؛ إذ جاءت حماسية وسعى خلالها لتهدئة عناصره في الأفرع المختلفة، إضافة إلى أنها أكدت على استمرار النهج نفسه في استهداف السجون كرؤية استراتيجية، كما أنها أوضحت مرافقة المتحدث الإعلامي لزعيم التنظيم، وأخيراً فإنها جاءت لترسيخ النهج الذي تبناه التنظيم في عدم إعلان الهوية الحقيقية لزعيمه. ويمكن تفسير تأخر إعلان “داعش” عن زعيمه الجديد في ضوء بعض الأسباب، منها احتمالية وجود خلاف على شخص الزعيم الجديد، وإجراء تغييرات هيكلية في إطار التكيف التنظيمي، وصعوبة اجتماع قيادات التنظيم في ظل الملاحقات الأمنية، وأخيراً اتخاذ تدابير أمنية أكثر تعقيداً لمنع استهداف الزعيم الجديد. وفي النهاية، فإن التنظيم حرص على قطع الطريق أمام إمكانية نقل مقر القيادة المركزية من العراق وسوريا، بإضفاء نوع من المشروعية على الزعيم الجديد، عبر الإشارة إلى أنه من “أهل السبق”، بما يعني أنه من قيادات التنظيم القديمة، التي شاركت في العمل المسلح ضد القوات الأمريكية في العراق منذ عام 2003.
بعد مضيّ نحو 35 يوماً على إعلان الرئيس الأمريكي جو بايدن نجاح القوات الأمريكية في قتل زعيم تنظيم “داعش” المكنى أبو إبراهيم الهاشمي القرشي في 3 فبراير الفائت، في منطقة إدلب شمال سوريا، في عملية إنزال؛ أعلن التنظيم مقتل زعيمه، وتنصيب زعيمه الجديد المكنى أبو الحسن الهاشمي القرشي في 10 مارس الجاري، في كلمة صوتية للمتحدث الجديد باسم التنظيم المكنى أبو عمر المهاجر. وتشير بعض التقديرات العراقية والغربية إلى أن الزعيم الجديد لـ”داعش”، هو جمعة عواد البدري شقيق أبو بكر البغدادي، والذي كان رئيساً لمجلس شورى التنظيم.
هوية مجهولة
مع مقارنة الكلمة الصوتية للمتحدث باسم “داعش” الجديد أبو عمر المهاجر، وكلمة سلفه أبو حمزة القرشي الذي أعلن مقتل أبو بكر البغدادي وتنصيب أبو إبراهيم الهاشمي، يمكن تحديد بعض السمات العامة، على النحو التالي:
1- تصاعد حدة الأزمة داخل التنظيم: يمكن النظر إلى كلمة تنصيب زعيم التنظيم الجديد، باعتبارها خطاب أزمة، إذ أقدم المتحدث الإعلامي الجديد على توجيه الحديث إلى عناصر التنظيم في مختلف أفرعه أكثر من مرة، فطالب بمبايعة الزعيم الجديد ثلاث مرات في أكثر من موضع، بخلاف أن الكلمة غلب عليها الخطاب الحماسي لعناصر التنظيم عبر إلقاء بعض أبيات الشعر، ويمكن تفسير ذلك في سياق التأخر في إعلان الزعيم الجديد والحاجة إلى طمأنة الأفرع بتماسك التنظيم على مستوى “القيادة المركزية”، مقارنة بكلمة المتحدث الإعلامي عقب مقتل أبو بكر البغدادي عام 2019، التي جاءت في أقل من 8 دقائق، وكان توجيه الحديث إلى عناصر التنظيم أقل، وركزت على سرد تفاصيل مقتضبة عن اختيار أبو إبراهيم الهاشمي.
2- ترسيخ نهج إخفاء هوية زعيم “داعش”: ثمة تشابه بين إعلان تنصيب أبو الحسن الهاشمي وسلفه أبو إبراهيم الهاشمي، من ناحية إحجام التنظيم عن إعلان الهوية الحقيقية لكلٍّ منهما، ولكن الكلمة الجديدة أبرزت مسألة تعمد التنظيم عدم الإعلان عن الهوية الحقيقية للزعيم الجديد بصورة أكبر، حيث قال المتحدث الإعلامي الجديد: “فيا أيها المسلمون في كلّ مكان قوموا وبايعوا أمير المؤمنين وخليفة المسلمين فإنّه من أهل السبق والصدق -نحسبه والله حسيبه- ولو أمكننا لكشفنا عن اسمه ورسمه، ولكن لكل مقام مقال”، ويبدو أن التنظيم يحاول التبرير لعناصره استمرار الهوية المجهولة لزعيم التنظيم، لعدم استهدافه، خاصة وأن شروط البيعة تقتضي معرفة الهوية الحقيقية.
3- التأكيد على استمرار استهداف السجون: اتفقت الكلمتان على ضرورة استمرار عمليات أفرع التنظيم في تحرير عناصره من السجون بمختلف الدول، خاصة وأنها استراتيجية وضعها زعيم التنظيم الأسبق أبو بكر البغدادي قبل مقتله، ونفذ التنظيم عمليات لاستهداف السجون على مدار العامين الماضيين، وكان أبرزها خلال العام الجاري الهجوم على سجن غويران في منطقة شمال شرق سوريا، الذي سبق مقتل أبو إبراهيم الهاشمي.
4- مرافقة المتحدث الإعلامي لزعيم التنظيم: من خلال مقارنة الكلمتين، فإنهما تضمنتا اقتران إعلان مقتل المتحدث الإعلامي باسم التنظيم، بمقتل زعيم التنظيم. ففي 2019، أعلن “داعش” عن مقتل المتحدث الإعلامي أبو الحسن المهاجر وأبو بكر البغدادي. وفي 2022، أعلن التنظيم عن مقتل المتحدث الإعلامي أبو حمزة القرشي وأبو إبراهيم الهاشمي، بما يشير إلى مرافقة المتحدث الإعلامي لزعيم التنظيم خلال السنوات الماضية. وهنا يمكن الإشارة إلى الدور المتصاعد للجهاز الإعلامي للتنظيم، ليس فقط على مستوى الترويج لـ”داعش”، وإنما أيضاً على صعيد ربط الأفرع بالقيادة المركزية، وإصدار التوجيهات الاستراتيجية، في ظل صعوبة التواصل، لاعتبارات ملاحقة قيادات التنظيم سواء في العراق وسوريا أو في الدول الأخرى.
أسباب عديدة
يمثل تأخر إعلان تنظيم “داعش” علامات استفهام، إذ يمكن أن يؤثر هذا التأخر في اهتزاز الثقة بين “القيادة المركزية” للتنظيم في العراق وسوريا، وأفرعه في آسيا وإفريقيا، على اعتبار اختلاف درجة الولاء بين تلك الأفرع للقيادة المركزية، وفقاً لبعض التقديرات الغربية. وبشكل عام، تتمثل أبرز الأسباب المحتملة لتأخر تنصيب الزعيم الجديد للتنظيم في:
1- خلاف على شخص زعيم “داعش”: يمكن تفسير تأخر الإعلان عن زعيم التنظيم في إطار عملية انتقال ليست سلسة، مقارنة باختيار خليفة أبو بكر البغدادي. ففي كلمة المتحدث الإعلامي الجديد لتنصيب أبو الحسن الهاشمي، تطرق إلى آليات الاختيار، والتي جاءت في توصية أبو إبراهيم الهاشمي ومجلس الشورى، و”أهل الحل والعقد”، والأخير مصطلح يشير إلى دائرة أوسع من الأشخاص عن مجلس الشورى، مما يثير علامات الاستفهام، خاصة أنه في كلمة تنصيب أبو إبراهيم الهاشمي في 2019 لم يرد أي ذكر لـ”أهل الحل والعقد”، ولكن تمت الإشارة فقط بشكل أساسي إلى مجلس الشورى ووصية أبو بكر البغدادي، بما يشير إلى أن حسم اسم الزعيم الجديد كان يحتاج ربما إلى دائرة أوسع من مجلس الشورى لاعتبارات متعددة، في ظل احتمال وجود خلاف على شخص الزعيم الجديد، وبالتالي لم يكن الوقت في صالح التنظيم.
2- صعوبة الاجتماع في ظل الملاحقات الأمنية: أسفر التصعيد العملياتي لـ”داعش” في إطار القيادة المركزية في العراق وسوريا، بعمليات في كركوك بالعراق واقتحام سجن غويران، عن حالة استنفار أمني شديدة؛ إذ أقدمت قوات الجيش العراقي، بدعم استخباراتي من التحالف الدولي لمواجهة “داعش”، على شن عمليات موسعة ضد أوكار التنظيم على أكثر من اتجاه في كركوك والأنبار وشمال العراق، فضلاً عن عمليات التمشيط التي تجربها قوات سوريا الديمقراطية “قسد” بدعم من القوات الأمريكية عقب اقتحام سجن غويران لملاحقة خلايا “داعش”، إضافة إلى التكثيف الأمريكي للعمل الاستخباراتي ميدانياً للبحث عن أي معلومات عن تحركات قيادات “داعش” عقب مقتل أبو إبراهيم الهاشمي، وجميعها عوامل يمكن أن تؤدي إلى صعوبة اجتماع قيادات “داعش” التي لا يتواجد جميعها في مكان واحد لحسم الزعيم الجديد للتنظيم، ويُحتمل أنها موزعة بين العراق وسوريا على وقع الملاحقات الأمنية الشديدة.
3- ترتيبات أمنية مشددة لحماية زعيم التنظيم: ويكتسب ذلك أهمية خاصةفي ضوء الاستهداف المتكرر لزعيم تنظيم “داعش”، إذ إن الفارق بين مقتل أبو بكر البغدادي وأبو إبراهيم الهاشمي كان عامين وشهراً فقط، هذا على الرغم من اتجاه الأخير إلى هيكلة الجهاز الأمني والاستخباراتي الخاص بالتنظيم، الذي تعرض لهزات كبيرة بعد مقتل عدد كبير من قياداته خلال معركة تحرير الأراضي التي كان يسيطر عليها “داعش” في العراق وسوريا بين 2017 و2019، وبالتالي فإن التنظيم ربما كان يحتاج إلى ترتيب الوضع الداخلي لتوفير مقر إقامة للزعيم الجديد، وفقاً لترتيبات أمنية أكثر تعقيداً من التي كانت متوفرة للبغدادي والهاشمي، لمنع إمكانية الوصول للزعيم الجديد. وهنا يُمكن الإشارة إلى ما نشرته وكالة “رويترز”، نقلاً عن مصادر عراقية، من أن جمعة البدري شقيق أبو بكر البغدادي انتقل عبر الحدود من سوريا إلى العراق أخيراً، وسط ترجيحات بأنه زعيم التنظيم الجديد.
4- إجراء تغييرات هيكلية في إطار التكيف التنظيمي: يُعد التكيف التنظيمي أحد أهم عوامل بقاء واستمرار الجماعات والتنظيمات الإرهابية، والذي يوفر قدراً من المرونة في التعامل مع المتغيرات الداخلية والخارجية. وخلال العامين الماضيين، تشير بعض التقديرات الغربية إلى أن “داعش” بات يمتلك قدراً من المرونة والتكيف التنظيمي في ضوء الاستجابة للوضع الجديد، بعد فقدانه الأراضي التي كانت تحت سيطرته، وكان آخرها معركة الباغوز في سوريا عام 2019، وكذلك بعد مقتل زعيم التنظيم أبو إبراهيم الهاشمي ومقتل عدد من القيادات، واعتقال آخرين في العراق خلال الأشهر القليلة الماضية، وأبرزهم سامي الجبوري الذي كان يشغل رئيس اللجنة المفوضة في “داعش” وكان نائباً للبغدادي، وما يترتب على ذلك من إجراء تغييرات هيكلية داخل التنظيم، إما لتعويض القيادات التي فقدها وتصعيد آخرين، أو لإدخال تعديلات على طبيعة التحركات والخطط وشبكات الدعم والتمويل، خاصة مع إدلاء بعض القيادات البارزة باعترافات تفصيلية، قبل الإعلان عن الزعيم الجديد.
إضفاء “المشروعية”
وأخيراً، يمكن القول إنه لم يكن من المتوقع تأثير تأخر الإعلان عن هوية زعيم تنظيم “داعش” الجديد على مستوى تماسك الأفرع وعلاقاتها بـ”القيادة المركزية” على المستوى القريب المنظور، هذا على الرغم من عدم إعلان التنظيم الهوية الحقيقية لزعيمه، والاكتفاء بذكر كنيته فقط “أبو الحسن الهاشمي القرشي”، في ضوء تمحور “داعش” حول التنظيم وليس شخص الزعيم، من دون إغفال أهمية معرفة الهوية الحقيقية بالنسبة لقواعد التنظيم في تلك الأفرع، ولكن قد تظهر التأثيرات خلال الفترة المقبلة في إطار انشقاقات محدودة للعناصر، خاصة مع طبيعة التنظيمات “الجهادية” التي تتسم بالسيولة. وبالنسبة للأفرع بشكل عام، فإن العلاقة مع القيادة المركزية ترتبط بحجم الدعم المقدم لاستمرار العمليات الإرهابية. وحاولت كلمة المتحدث الإعلامي الجديد قطع الطريق أمام أي محاولات لإمكانية نقل القيادة المركزية من العراق وسوريا، إذ أعطى “مشروعية” للزعيم الجديد، باعتباره من “أهل السبق”، في إشارة إلى أنه من قيادات التنظيم القديمة التي ربما التحقت بالتنظيم إبان مواجهة القوات الأمريكية في العراق منذ عام 2003. وبمعنى آخر، فإن الزعيم الجديد له تاريخ طويل في العمل الإرهابي، وبالتالي من الصعب مقارنته بقادة أي من أفرع التنظيم.