بقدر ما عكس قرار رئيس الحكومة المُكلَّف سعد الحريري، في 15 يوليو 2021، بالاعتذار عن تشكيل الحكومة اللبنانية حالة من التأزم السياسي الداخلي في لبنان، فإنه استدعى أيضاً البعد الخارجي في المعادلة السياسية اللبنانية. صحيح أن لبنان ظلت لعقود ساحة لتداخل العديد من القوى الإقليمية والدولية، بيد أن تأثير هذا المتغير تزايد بشكل كبير خلال الأعوام الأخيرة، لاسيما مع تصاعد حدة الأزمات الاقتصادية والسياسية التي تواجهها لبنان، ومن ثم، شكلت هذه السياقات المأزومة فرصة مواتية لعدد من القوى من أجل خدمة مصالحها وذلك ضمن استراتيجيات تعزيز النفوذ التي تتبناها، ناهيك عن استخدام لبنان من قبل بعضها كورقة مساومة في قضايا وملفات أخرى. ومن هنا، لا تتوقع اتجاهات عديدة أن يساهم بدء المشاورات النيابية لتكليف شخصية جديدة لتشكيل الحكومة، في 26 يوليو الجاري بعد انتهاء أجازة عيد الأضحى، في احتواء أزمة تأخير تشكيل الحكومة في وقت قريب.
معضلة جوهرية:
تقدم الأدوار الخارجية المتعددة أحد مداخل تفسير أسباب تأخر تشكيل الحكومة اللبنانية الجديدة، واعتذار رئيس الحكومة المُكلَّف سعد الحريري مؤخراً عن تشكيلها، وفي هذا الصدد، بدت الأدوار الخارجية بمثابة معضلة جوهرية، وهو الأمر الذي يستدعي عدداً من الدلالات التي تتمثل في:
1- تنامي الاستقطابات الداخلية: أدى تعدد الفاعلين الخارجيين في المشهد اللبناني إلى مضاعفة التعقيدات الداخلية في لبنان، خاصة أن الكثير من هؤلاء الفاعلين لديه مصالحه الخاصة، ورؤيته المنفصلة للأوضاع داخل لبنان، والتي لا تتماشى بالضرورة مع مصالح ورؤى الأطراف الأخرى، ناهيك عن ارتباط كل طرف خارجي بشبكة من الحلفاء الداخليين، وهو أمر يفضي إلى تزايد حدة الاستقطابات السياسية في لبنان، وليس أدل على ذلك من حالة الاستقطاب والصراع الحادث بين تيار المستقبل والتيار الوطني الحر، والذي يعبر، في جانب منه، عن صراعات إقليمية ودولية. وقد انعكس ذلك في “تغريدة” الحريري على موقع “تويتر”، في 19 يوليو الجاري، التي قال فيها أنه “لولا تعنت البعض وأنانيته كان بوسعنا أن نضع حداً لهذا الانهيار المريع”، في إشارة إلى الأزمة الاقتصادية الحرجة التي تمر بها لبنان حالياً.
2- دور مفاوضات فيينا النووية: اعتادت طهران خلال العقود الماضية على التعاطي مع قضايا المنطقة بسياسة الحزمة الواحدة، ومن ثم، يرجح أن يكون لها دور رئيسي في تعطيل عملية تشكيل الحكومة اللبنانية، عبر حليفها حزب الله، بحيث تستخدم الملف اللبناني كورقة للضغط والمساومة مع القوى الدولية بهدف إنجاز الاتفاق بشأن الملف النووي الإيراني، ودفع الولايات المتحدة الأمريكية إلى رفع العقوبات المفروضة عليها. ودلل على هذا التوجه التصريحات الصادرة من السياسيين اللبنانيين خلال الأيام الماضية، ففي حوار مع قناة “العربية” في 15 يوليو الجاري، أشار رئيس الوزراء اللبناني الأسبق فؤاد السنيورة إلى أن “حزب الله يستخدم لبنان كورقة تفاوضية لصالح إيران في المفاوضات النووية”.
وكان لافتاً حرص الولايات المتحدة الأمريكية على الربط بين قرار تمديد حالة الطوارئ الوطنية تجاه لبنان، في 20 يوليو الجاري، وبين “استمرار نقل الأسلحة المستمرة من إيران إلى حزب الله، والتي تشمل أنظمة متطورة، تعمل على تقويض السيادة اللبنانية”، باعتبارها أنشطة تهدد الأمن القومي الأمريكي.
3- الخلافات الفرنسية- الأمريكية: ربما تكون الخلافات الفرنسية- الأمريكية قد انعكست، بصورة سلبية، على عملية تشكيل الحكومة اللبنانية، فخلال الشهور الماضية، وخاصة إبان نهاية فترة رئاسة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب انكشف التباين في وجهات النظر الأمريكية والفرنسية حول الملف اللبناني، وكيفية التعامل مع حزب الله. فالولايات المتحدة الأمريكية لم تخف امتعاضها من المبادرة الفرنسية تجاه لبنان، وخصوصاً أنها تقوم على دمج كافة القوى السياسية، بما فيها حزب الله، والذي تتعامل معه واشنطن كتنظيم إرهابي دون التفريق بين جناحه السياسي والعسكري. بينما ترفض فرنسا هذا التصنيف، وتصر على الفصل بين الجناحين العسكري والسياسي، حيث تتعامل فرنسا مع حزب الله كفاعل سياسي في المشهد، ويتعين التواصل والحوار معه، وبالتالي، فإن باريس ترى أن تصنيف الجناح السياسي للحزب، كتنظيم إرهابي، سيكون له تأثير سلبي على الأوضاع في لبنان والدور الفرنسي هناك.
4- التنافس الروسي- الأمريكي: تتعامل موسكو مع الملف اللبناني على أنه جزء من السياسة الروسية الأوسع في منطقة الشرق الأوسط والتي باتت، من وجهة نظر صانعي القرار الروسي، خلال السنوات الماضية ساحة لمواجهة نفوذ الولايات المتحدة الأمريكية وإعادة التأكيد على مكانة روسيا كقوة عالمية لديها حق المشاركة في قيادة النظام الدولي. وعليه قدمت صراعات وأزمات الشرق الأوسط، على غرار الأزمة اللبنانية، لموسكو فرصة مواتية لإثبات مكانتها ونفوذها في مواجهة واشنطن، لاسيما وأن الشرق الأوسط ظل لعقود حكراً على النفوذ الأمريكي المنفرد. وفي رؤية اتجاهات روسية عديدة، فإن ذلك يعنى تعزيز قدرة موسكو على إثارة مشكلات لواشنطن مماثلة لتلك التي تسعى الأخيرة لإثارتها في مناطق الجوار والنفوذ المباشر للأولى، لاسيما في الفضاء السوفيتي السابق.
هذا التنافس بين واشنطن وموسكو أدى إلى المزيد من التشابكات داخل لبنان، وخاصة أن موسكو تستغل أى فرصة متاحة للتأكيد على تمايز دورها عن الدور الأمريكي في لبنان، ولعل هذا ما أشارت إليه تصريحات السفير الروسي السابق في لبنان ألكسندر زاسبيكين، في 29 يونيو 2020، حينما انتقد السفيرة الأمريكية في لبنان دوروثيشيا، بعد تصريحاتها حول حزب الله، واتهامه بـ”ابتلاع مليارات الدولارات من أموال الدولة”. واستغل السفير الروسي حينها هذه التصريحات ليصدر صورة سلبية عن الدور الأمريكي في لبنان، حيث قال إن “واشنطن تحمل الحزب مسئولية الفساد والمأزق الاقتصادي وأزمة النظام المصرفي ووضع الجمارك والمعابر الحدودية، في حين أننا جميعاً نعرف أن الواقع المالي والاقتصادي في لبنان يتأثر كثيراً بالعقوبات الأمريكيةوالقيود على التحويلات، خصوصاً أن واشنطن تسيطر على الدولار وتتحكم بإدارة الشئون المالية العالمية”.
5- التنازع على دور الوساطة: أدى التعدد في حضور الفاعلين الخارجيين بالمشهد اللبناني إلى تصاعد حدة التنافس على دور الوساطة في أزمة تشكيل الحكومة اللبنانية، فهناك محاولات متعددة تقوم بها دول مثل فرنسا وروسيا وكذلك تركيا للاضطلاع بدور الوساطة، وهذه المحاولات ربما تكون انعكست بالسلب على الوضع الداخلي في لبنان، لأن كل دولة تسعى لانتزاع دور الوساطة لصالحها، وربما قطع الطريق على محاولات الدول الأخرى، وهو الأمر الذي قلل، بشكل أو بآخر، من فاعلية مسار الوساطة الدولية في الأزمة اللبنانية.
خلاصة القول، إن المحدد الخارجي سيظل معطى هاماً في المعادلة السياسية اللبنانية، وليس من الممكن استبعاده. وفي هكذا سياق، تفرض التعددية في خريطة الفاعلين الخارجيين المؤثرين الحاجة إلى توافق سياسي خارجي حول تسوية الأزمة اللبنانية، وبقدر ما يمثل التوصل إلى هذا التوافق تحدياً كبيراً نظراً لارتباطه بقضايا أخرى، على غرار الملف النووي الإيراني، فإنه أمر هام للحيلولة دون تفجر الأوضاع في لبنان، والتي قطعاً سيكون لها انعكاسات إقليمية حادة.