في ظل ما تشهده العلاقات الدبلوماسية بين المغرب وإسبانيا من علاقة شد وجذب خلال الفترة الأخيرة، أشارت بعض المصادر الإسبانية إلى أن المملكة المغربية أعلنت، في 26 يناير 2022، عزمها بناء قاعدة عسكرية بسواحل مدينة “الداخلة” الواقعة ضمن إقليم الصحراء المغربية، والواقعة على بعد حوالي 450 كم من جزر “الكناري” الإسبانية، على أن تضم هذه القاعدة البحرية 1700 عسكري من قوات البحرية الملكية المغربية.
عوامل مترابطة
يُمكن تفسير اتجاه المغرب إلى بناء هذه القاعدة البحرية العسكرية من خلال مجموعة من العوامل التي دفعتها لذلك، من أبرزها ما يلي:
1- بسط السيادة على إقليم الصحراء المغربية: بالنظر إلى الموقع المحدّد الذي سوف يتم فيه بناء القاعدة البحرية العسكرية بمدينة “الداخلة” بإقليم الصحراء المغربية، فإن ذلك يأتي في إطار استراتيجية المغرب الخاصة بتسوية قضية الصحراء المتنازع عليها مع جبهة البوليساريو المدعومة من الجزائر، وذلك عبر وضع استراتيجية تنموية تشمل إقامة مشروعات لتحقيق التنمية الاقتصادية في هذا الإقليم، وجذب الاستثمارات الأجنبية لإقليم الصحراء. وبعد نجاح الدبلوماسية المغربية في إقناع العديد من الدول الإفريقية والعربية والأجنبية بافتتاح قنصليات لهم في مدينتي الداخلة والعيون بإقليم الصحراء، يأتي الدور على تعزيز الوجود العسكري المغربي في تلك المدن أيضاً، بما يسهم في تأكيد السيادة المغربية على كامل إقليم الصحراء.
2- تعزيز القدرات العسكرية المغربية: تهدف المملكة المغربية من بناء هذه القاعدة البحرية العسكرية إلى تعزيز قدراتها العسكرية في ظل ما تشهده البيئة الإقليمية والدولية من تهديدات للأمن القومي المغربي. وقد رصدت الحكومة المغربية ميزانية كبيرة بلغت حوالي 12.8 مليار دولار لعقد صفقات لشراء السلاح لتطوير القدرات العسكرية لقواتها المسلحة، لرفع جاهزيتها لمواجهة تصاعد أنشطة التنظيمات الإرهابية في منطقة الساحل والصحراء وفي الداخل المغربي الذي يشهد نشاطاً محدوداً لتنظيم داعش. غير أن استراتيجية الضربات الاستباقية نجحت حتى الآن في تفكيك الخلايا النائمة التابعة له في الداخل، وأيضاً لمواجهة انتشار عصابات الجريمة المنظمة وتهريب البشر عبر الحدود الممتدة مع الدول الإفريقية، وأيضاً تزايد تدفقات الهجرة غير الشرعية عبر المحيط الأطلنطي للدول الأوروبية، وهو ما سيزيد من القدرات الدفاعية المغربية بما يمكّنها من مواجهة هذه المخاطر الأمنية ووضع حد لها والحفاظ على أمنها القومي.
3- ردع الجزائر عن توجيه تهديدات عسكرية للمغرب: لا يمكن النظر إلى اتجاه المغرب لبناء هذه القاعدة العسكرية بعيداً عن رغبة المغرب في تعزيز قدراتها العسكرية بما يمكنها من تحقيق التفوق العسكري على دول الجوار ولا سيما الجزائر، في ظل سباق التسلح بين الدولتين طوال السنوات الماضية. وبالتالي، تسعى الرباط لامتلاك أدوات القوة التي تمكنها من ردع الجانب الجزائري، وخاصة بعد قيام الأخير بقطع علاقاته مع الرباط واتهامها بممارسة أعمال عدائية تهدف إلى تهديد أمنه القومي، وهو ما دفع الجانب المغربي لتكثيف تحركاته الدبلوماسية على المستويين الإقليمي والدولي لمحاصرة الجانب الجزائري، مع العمل على تقوية الداخل ضد أية تهديدات خارجية.
4- تعزيز التعاون العسكري مع الولايات المتحدة الأمريكية: فمن شأن إقامة هذه القاعدة أن يسهم في تطوير وتعزيز العلاقات العسكرية المشتركة بين الرباط وواشنطن، واستخدامها في إجراء المزيد من المناورات والتدريبات العسكرية المشتركة بينهما، وذلك على غرار المناورات العسكرية المشتركة “مصافحة البرق” التي حدثت في شهر مارس الماضي، وذلك في إطار التقارب الأمريكي المغربي الملحوظ منذ الاعتراف الأمريكي بسيادة المغرب على إقليم الصحراء المغربية في ديسمبر 2020.
5- حفظ السلم والأمن على المستويين الإقليمي والدولي: من شأن بناء الرباط لهذه القاعدة البحرية العسكرية أن يسهم في تقديم الخدمات اللوجيستية اللازمة للدول الصديقة للمغرب، سواء داخل القارة الإفريقية وأيضاً على المستوى الإقليمي والدولي. كما تسعى المغرب لاستخدام هذه القاعدة في استضافة قوات حفظ السلام التابعة للاتحاد الإفريقي والأمم المتحدة، وهو ما يساعد في تحقيق هدف أكبر مرتبط بحفظ السلام والأمن الإقليمي والدولي.
علاقات متوترة
تزامن الإعلان المغربي عن بناء هذه القاعدة العسكرية مع ما تمر به العلاقات المغربية الإسبانية من متغيرات هامة، وذلك على خلفية الأزمة الدبلوماسية التي استمرت قرابة ثمانية أشهر بين الدولتين، ومن المؤشرات الدالة على ذلك ما يلي:
1- تصريحات الملك الإسباني “فيليبي السادس” الأخيرة بشأن رغبته في إعادة العلاقات الدبلوماسية مع المغرب، والعمل على حل المشكلات العالقة بين الجانبين المغربي والإسباني منذ شهر مايو الماضي عندما قرر المغرب استدعاء سفيرته لدى مدريد “كريمية بنيعيش” احتجاجاً على استضافة إسبانيا زعيمَ جبهة البوليساريو “إبراهيم غالي” خلال الفترة من أبريل وحتى يونيو 2021، وأيضاً بشأن قضية الهجرة إلى جزيرة “سبتة” المتنازع عليها بين الجانبين المغربي والإسباني، ودخول حوالي عشرة آلاف مهاجر إلى سبتة في مايو الماضي، واستمرار إغلاق الرباط للمعابر الواقعة على سبتة ومليلة حتى شهر مارس القادم.
2- إصرار الجانب المغربي على إقامة علاقات دبلوماسية مع الجانب الإسباني تقوم على الندية، وتعديل السياسة الخارجية الإسبانية تجاه قضية الصحراء، سواء باحترام السيادة المغربية على إقليم الصحراء، أو على أقل تقدير تبنّي موقف يتسم بالحياد تجاه أطراف هذه القضية، وعدم تأييد مطالب جبهة البوليساريو بشأن الحصول على حق تقرير المصير. ولعل استمرار غياب سفيرة المغرب لدى إسبانيا حتى الآن، مؤشر هام على تمسك الجانب المغربي بشروط عودة العلاقات الدبلوماسية مع إسبانيا وفقاً للشروط المغربية، وذلك استناداً إلى ما تتمتع به الرباط من ثقل سياسي واستراتيجي في منطقة شمال إفريقيا والمغرب العربي.
3- تصاعد التقارب المغربي الأمريكي بشكل أصبح يمثل قلقاً إسبانياً من تأثير هذا التقارب على العلاقات مع المغرب، والحديث حول احتمالات نقل القاعدة العسكرية الأمريكية “روتا” من إسبانيا إلى إقليم الصحراء المغربية في إطار تعزيز العلاقات العسكرية المشتركة بين واشنطن والرباط. ومن جهة أخرى، ارتباط التقارب الأمريكي المغربي بتوقيع اتفاق تطبيع العلاقات المغربية الإسرائيلية في كافة المجالات السياسية والاقتصادية والأمنية، وتوقيع اتفاقيات لتعزيز التعاون المشترك في هذه المجالات، وهو ما قد يؤثر سلباً على المصالح الاستراتيجية الإسبانية لدى المغرب، على نحو قد يدفع الجانب الإسباني لإعادة التفكير في بناء علاقات جديدة مع المغرب وفقاً للتوازنات السياسية الجديدة في منطقة الشمال الإفريقي ذات الأهمية الاستراتيجية لإسبانيا.
سيناريوهان محتملان
وفي إطار احتمالات تأثير القرار المغربي ببناء قاعدة عسكرية على سواحل مدينة الداخلة القريبة من الحدود الإسبانية، يمكن الإشارة إلى بعض السيناريوهات المحتملة بشأن تأثير ذلك على مستقبل العلاقات المغربية الإسبانية، وذلك كما يلي:
السيناريو الأول: استمرار التوتر الحاصل في العلاقات الدبلوماسية بين الرباط ومدريد، ويستند هذا السيناريو إلى أنه رغم إعلان الجانبين رغبتهما في تجاوز الخلافات القائمة بينهما، وخاصة فيما يتعلق بقضيتي الصحراء المغربية، والهجرة عبر سبتة ومليلة؛ إلا أن تمسك كلٍّ منهما بشروط عودة هذه العلاقات لطبيعتها قد يؤدي إلى تأخر عودتها، حيث تطالب مدريد باحترام الحدود الوطنية، في إشارة إلى سبتة ومليلة، والولاء في التعاون مع إسبانيا. وفي المقابل، تطالب الرباطُ مدريدَ بالاعتراف بسيادتها على الصحراء، ووقف دعمها للبوليساريو، وخاصة بعد اعتراض مدريد على الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء، هذا إلى جانب عدم إرسال المغرب سفيرتها لإسبانيا بسبب استمرار التوتر الحالي المرشح للتصعيد خلال الفترة القادمة مع تزايد القلق الإسباني بسبب بناء قاعدة عسكرية مغربية بالقرب منها.
السيناريو الثاني: اتجاه إسبانيا لاحتواء المغرب وتجاوز خلافاتها معها، ويستند هذا السيناريو إلى إدراك القيادة الإسبانية أهمية تجاوز التوترات السياسية الراهنة مع المغرب من أجل الحفاظ على المصالح الاستراتيجية الإسبانية، وأن التصعيد مع الرباط من شأنه التأثير سلباً على هذه المصالح المشتركة، في الوقت الذي تتنافس فيه واشنطن وإسرائيل مع إسبانيا لتمديد النفوذ وتعزيز دوريهما في منطقة المغرب العربي وشمال إفريقيا. وهنا تأتي تصريحات بعض المسؤولين الإسبان، وعلى رأسهم الملك الإسباني، بشأن أهمية تعزيز العلاقات وتجاوز الخلافات مع المغرب؛ إلا أن المؤشرات الحالية تذهب في اتجاه استبعاد حدوث تحسن في العلاقات المغربية الإسبانية على المدى القريب.
ورقة ضغط
خلاصة القول، من شأن اتجاه المغرب لبناء قاعدة عسكرية بالقرب من الحدود الإسبانية تعزيز القدرات العسكرية المغربية، وفي الوقت نفسه إثارة قلق ومخاوف الجانب الإسباني في ظل ما يتسم به نمط العلاقات المغربية الإسبانية من توتر. وتشير المعطيات الراهنة إلى رغبة الرباط في امتلاك مزيدٍ من أوراق الضغط على مدريد لدفعها نحو تغيير موقفها إزاء قضية الصحراء المغربية، وتعظيم المكاسب السياسية والاقتصادية للجانب المغربي في حال تجاوز الخلافات القائمة مع الجانب الإسباني، مع عدم استبعاد حدوث تحسن تدريجي في العلاقات المغربية الإسبانية على المدى المتوسط.