أصدرت حركة النهضة برئاسة “راشد الغنوشي” وتنظيم “مواطنون ضد الانقلاب” بياناً مشتركاً في 5 فبراير 2022، أعلنا فيه تأجيل التظاهرات الشعبية لمدة أسبوع، والتي كانت قد دعت لها الحركة في الثاني من فبراير الجاري لحشد أنصار الحركة للتظاهر في 6 فبراير للتضامن مع نائب رئيس الحركة “نور الدين البحيري” الذي تم اعتقاله في شهر ديسمبر الماضي والموضوع تحت الإقامة الجبرية، والتظاهر كذلك ضد رئيس الدولة “قيس سعيد” للتعبير عن رفضهم للإجراءات الاستثنائية التي لا يزال الأخير يتخذها منذ 25 يوليو الماضي، بما فيها استمرار تجميد عمل واختصاصات البرلمان، ورفع الحصانة عن كافة أعضائه، وصولاً إلى خريطة الطريق التي أعلن عنها الرئيس “قيس سعيد” في 31 ديسمبر الماضي متضمنة إجراء حوار إلكتروني واستفتاء شعبي في يوليو القادم على الإصلاحات السياسية والدستورية، وانتهاء بإجراء انتخابات برلمانية في 17 ديسمبر 2022، وطالبت الحركة في بيانها المشار إليه بإنهاء الوضع الاستثنائي، واستئناف الحياة الديمقراطية، وإجراء حوار وطني حقيقي شامل لتحقيق الاستقرار السياسي والاقتصادي في البلاد.
عوامل مفسرة
يمكن تفسير إعلان حركة النهضة وحراك “مواطنون ضد الانقلاب” التابع لها، عن تأجيل التظاهرات التي كانا يحشدان لها، من خلال بعض العوامل التالية:
1- احترام الوحدة الوطنية: جاء تأجيل حركة النهضة لمظاهرات أنصارها في 6 فبراير الجاري، بعد أن أثار البيان الصادر عن الحركة للتظاهر في هذا اليوم اعتراض العديد من الأحزاب والقوى السياسية والمدنية (حوالي 20 منظمة نقابية ومجتمعاً مدنياً في البلاد، على رأسها الاتحاد التونسي العام للشغل) التي دعت المواطنين للتظاهر إحياء للذكرى التاسعة لاغتيال المعارض اليساري “شكري بلعيد” الذي تم اغتياله في 6 فبراير عام 2013 على يد بعض أفراد الجهاز السري التابع لحركة النهضة والمسؤول عن تصفية واستهداف المعارضين، وهنا ادّعت حركة النهضة حرصها على الحفاظ على الوحدة الوطنية رغم التحريض ضدهم من أنصار الإجراءات الاستثنائية الصادرة في يوليو الماضي، إلا أن هذا التأجيل جاء خوفاً من الحركة على اصطدام أنصارها بالمتظاهرين المطالبين بالتحقيق مع قيادات حركة النهضة المتورطين في اغتيال “بلعيد”، وبالتالي رأت الحركة تجنب هذا الصدام الذي لن يكون في مصلحتها.
2- إبعاد تهمة إفساد القضاء: أجلت حركة النهضة أيضاً تظاهراتها التي كانت مقررة في 6 فبراير الجاري، بعدما أعلن رئيس الدولة “قيس سعيد” قراراً بحل المجلس الأعلى للقضاء المكون من 45 عضواً، بعد اتهامه للمجلس بتأجيل النظر في القضايا المتعلقة بالإرهاب ومن بينها قضية اغتيال الناشط “شكري بلعيد”، وأشار الرئيس “قيس سعيد” صراحة إلى ذلك الأمر في تصريحاته الأخيرة التي أطلقها خلال زيارته لمقر وزارة الداخلية التونسية في 6 فبراير الجاري، متهماً فيها بعض القضاة بالتلاعب في قضية “بلعيد”، خاصة وأن هذه القضية منظورة أمام المحاكم منذ تسع سنوات تقريباً، وهو ما دفعه إلى دعوة أنصاره كذلك للتظاهر في هذا اليوم للمطالبة بتطهير السلطة القضائية من القضاة الفاسدين الموالين لحركة النهضة، والذين عملوا طوال السنوات الماضية لتحقيق مصالح خاصة بإخوان تونس وليس لتحقيق مصالح الدولة التونسية، وهنا رأت حركة النهضة تجنب التظاهر في هذا اليوم، خاصة وأن نائب الحركة “نور الدين البحيري” متهم بتسييس القضاء خلال فترة توليه حقيبة وزارة العدل قبل سبع سنوات، وتورطه في دعم الإرهاب.
3- تجنب إثارة الرأي العام ضد الحركة: رأت قيادات حركة النهضة صعوبة التظاهر في اليوم الذي يتظاهر فيه أنصار الرئيس “قيس سعيد”، وذلك انطلاقاً من حرص النهضة على عدم إثارة الرأي العام التونسي ضدها بشكل أكبر مما هو عليه الآن، والعمل على حشد وتعبئة الأنصار في يوم آخر، يتم فيه رفع شعار المظلومية والتركيز على تدهور الحالة الصحية لمعتقليها وعلى رأسهم نائب الحركة “البحيري”، واتهام السلطات بعدم قانونية إجراءات اعتقاله، حيث لم يصدر ضده أي حكم قضائي أو اتهام مباشر له (على حد زعمهم)، والتركيز كذلك على مطالب الحركة بإنهاء الإجراءات الاستثنائية، في محاولة لجذب بعض شرائح المجتمع التونسي المعارضين لرئيس الدولة، ومن بينهم القضاة الرافضون قرارَ حل المجلس الأعلى للقضاء، والذين عبروا عن رفضهم لهذا القرار باعتباره قراراً لا يتمتع بالشرعية القانونية أو الدستورية. كما ستعمل حركة النهضة على توظيف الموقف الرافض لهؤلاء القضاة للإجراءات الاستثنائية التي أصدرها الرئيس “قيس سعيد” وتحديد موعد جديد (الأحد 13 فبراير الجاري) للتظاهر ضد هذه القرارات، في محاولة لممارسة ضغوط داخلية جديدة لعرقلة إجراءات الإصلاح السياسي والدستوري التي ينادي بها رئيس الدولة، متهمين إياه بتكريس حكم الفرد بشكل لا يتماشى مع التجربة الديمقراطية التي كانت تعيشها البلاد في مرحلة ما قبل 25 يوليو الماضي.
4- رفض إحياء استقطابات مغلوطة: عبرت حركة النهضة في بيانها الخاص بتأجيل التظاهرات التابعة لها، عن رفضها التظاهر منعاً لما أطلقت عليه “إحياء استقطابات مغلوطة”، في إشارة إلى رفضها ما يقوم به رئيس الدولة “قيس سعيد” وبعض الأحزاب السياسية والنقابات العمالية ومنظمات المجتمع المدني من تحالفات لتأييد وشرعنة الإجراءات والسياسات الاستثنائية التي يتخذها رئيس الدولة، وبالتالي رأت الحركة تفويت الفرصة على أنصار الرئيس “قيس سعيد” لاستقطاب شرائح معارضة من الشعب التونسي المؤيد لحركة النهضة والتي تصفهم بمناهضي الانقلاب، ومن ثم الحفاظ على قواعدها الشعبية الداعمة لها، وإبقاؤهم على أهبة الاستعداد للتعبير عن معارضتهم للرئيس “قيس سعيد”.
تصدير الأزمات
تزامنت دعوات حركة النهضة للتظاهر والاحتجاج ضد الرئيس “قيس سعيد”، والتراجع مرة أخرى والدعوة لتأجيلها، في ظل الإجراءات التي تحاول الحركة اتخاذها خلال الفترة الأخيرة، في محاولة للبقاء في المشهد السياسي الراهن من خلال قيادة المعارضة ضد سياسات وإجراءات رئيس الدولة، والهروب من الأزمات الداخلية التي تعاني منها الحركة، وصدور أحكام في حق رئيسها “الغنوشي” في 28 يناير الماضي، بالغرامة المالية بـ 10 آلاف دينار من أجل تهمة مخالفة قانون الإشهار السياسي، وبالتالي محاولة تصدير الأزمات الداخلية بإثارة الرأي العام ضد رئيس الدولة، وذلك على النحو التالي:
1- محاولة تدويل الأزمة السياسية: يُحاول رئيس حركة النهضة “راشد الغنوشي” إيصال رسائل سياسية للمجتمع الدولي بضرورة التدخل في الشؤون الداخلية للبلاد في ظل استمرار تطبيق وفرض الإجراءات الاستثنائية التي اتّخذها رئيس الدولة “قيس سعيد”، وذلك من خلال إطلاق تصريحات مكثفة يركز فيها على أن هذه الإجراءات أدت إلى فرض حالة من العزلة إقليمياً ودولياً على البلاد، ووصفه الدائم بأن البلاد أصبحت في عزلة خانقة، وبأن البلاد مهددة بحدوث انفجار اجتماعي كبير بعد مرور سبعة أشهر على فرض هذه الإجراءات، خاصة وأن استمرار الحالة الاستثنائية سوف يؤدي إلى استمرار إحجام الشركاء الإقليميين والدوليين عن تقديم كافة أنواع الدعم -ولا سيما الاقتصادي- للحكومة التونسية التي أصبحت غير قادرة على التفاوض مع صندوق النقد الدولي للحصول على قروض جديدة لإنعاش الاقتصاد الوطني المتهالك، وفي ذلك محاولة من “الغنوشي” لزيادة الضغوط الخارجية على الرئيس “سعيد” لدفعه نحو إنهاء ما اتخذه من إجراءات، وإطلاق حوار يشمل حركة النهضة، غير أن ذلك الأمر يرفضه الرئيس “سعيد” بشدة، بسبب السياسات والمواقف التي اتخذتها حركة النهضة طوال السنوات العشر الأخيرة وأدت إلى تأزيم كافة الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في البلاد، إضافة إلى تورطهم في قضايا الإرهاب والفساد.
2- دعوة لاجتماعات افتراضية للبرلمان المجمد: حيث دعا رئيس حركة النهضة “راشد الغنوشي”، بصفته رئيساً للبرلمان “المُجمد”، عدداً من أعضاء البرلمان لحضور اجتماع افتراضي، ولم تَلْقَ هذه الدعوة قبولاً سوى من بعض أعضاء حركته وحزبي قلب تونس وائتلاف الكرامة (أعضاء تحالف النهضة) وبعض النواب المستقلين في محاولة للبحث عن دور في الحياة السياسية الاستثنائية الحالية وذلك بعد أن فقدت تلك الأحزاب قواعدها الشعبية.
3- عقد جلسات مع بعض الفنانين: شهدت الفترة الأخيرة اتجاه رئيس الحركة “راشد الغنوشي” وبعض كبار قيادات الحركة نحو حشد وتعبئة الرأي العام الداخلي لتأليبه ضد الرئيس “قيس سعيد”، ومن ذلك عقد لقاءات مع بعض أطياف وطبقات المجتمع التونسي، والتي شهدت عقد لقاءات واجتماعات بين “الغنوشي” وعدد من الفنانين التونسيين المعارضين لسياسات الرئيس “سعيد”، وذلك في محاولة من حركة النهضة لاستمالة بعض أفراد المجتمع وتكوين قواعد شعبية جديدة لها.
4- تشكيل جبهات سياسية جديدة: حيث أعلن القيادي في حركة النهضة “العجمي الوريمي” في نهاية شهر يناير الماضي، وجود مشاورات وتحركات مكثفة مع بعض أعضاء الحركة وبعض الأحزاب السياسية المعارضة مثل حزب “حراك تونس الإرادة” وحزب “قلب تونس” وحراك “توانسة من أجل الديمقراطية”؛ بغرض تشكيل جبهة سياسية جديدة على غرار حراك “مواطنون ضد الانقلاب” الذي شكلته الحركة قبل عدة أشهر، و”المبادرة الديمقراطية”؛ لتوضيح أن هناك اتجاهاً شعبياً معارضاً لسياسات رئيس الدولة والإجراءات الاستثنائية التي اتخذها، وبهدف أن تعمل هذه الجبهة الجديدة على فتح آفاق سياسية جديدة، وتشكيل أرضية سياسية لبديل ديمقراطي ووطني وشعبي وذلك استعداداً للاندماج في مرحلة “ما بعد عودة الديمقراطية” خلال الفترة القادمة، وذلك في محاولة من حركة النهضة الحثيثة لاستعادة وضعها السياسي كما كان عليه الحال قبل مرحلة 25 يوليو الماضي.
معضلة البقاء
خلاصة القول، تأتي التحركات التي تقوم بها حركة النهضة في محاولة للبحث عن الشرعية التي فقدتها في مرحلة ما بعد 25 يوليو، بغرض ضمان البقاء في المشهد السياسي بعد انتهاء الفترة الاستثنائية الحالية، إلا أن تلك المحاولات يواجهها رفض شعبي ومطالبات بإقصاء حركة النهضة من الحياة السياسية بشكل نهائي، وترجح المعطيات الراهنة استمرار محاولات حركة النهضة الساعية للهروب من أزماتها الداخلية عبر مواصلة تشتيت جهود الدولة التونسية والرأي العام الداخلي بقضايا فرعية تحت مسمى معارضة الإجراءات الاستثنائية الحالية.