على مدى السنوات الأخيرة وتحديدًا منذ انفجار مرفأ بيروت المروع فى أغسطس 2020، لم تحمل لنا الأخبار التى نقلتها وكالات الأنباء إلا تلك السلبية التى تؤكد تدهور أوضاع الحياة والناس فى كُل المجالات، وتدعو إلى اليأس والإحباط. وقدمت صورة سوداوية للحياة فى هذا البلد الجميل الذى طالما وصفته الأقلام بسويسرا الشرق. دعم هذه الصورة، تفاقم الأوضاع السياسية والتى كان من مظاهرها عدم استكمال التحقيق فى قضية انفجار الميناء، وفشل مجلس النواب فى اختيار رئيس جمهورية جديد، وهو المنصب الشاغر من أول نوفمبر 2022، وكذلك عدم الوصول حتى الآن إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي.
تدافعت هذه الأفكار والصور فى مخيلتى قبل زيارتى الأخيرة لهذا البلد الذى أُحب وزرته عشرات المرات على مدى الخمسين عامًا الماضية. وقد خرجت من زيارتى بنتيجة رئيسية، وهى المفارقة الواسعة بين سلطة مأزومة لم تتمكن من التكيف مع التغيرات الكبيرة التى لحقت بلبنان والعالم، ومازالت حبيسة تصورات طائفية ومذهبية، وبين مجتمع مفعم بالخلايا الحية وبالقدرة على التكيف، وشعب يرفض الاستسلام للإحباط واليأس بحكم حبه للحياة وتطلعه إلى مستقبل أفضل.
من مظاهر أزمة السُلطة، توقف الحكومة عن أداء أغلب الخدمات العامة وأبرزها انقطاع الكهرباء لساعات طويلة فى المنازل وغياب شبه تام لإضاءة الطرقات العامة، وضعف تدفق المياه فى المنازل، وعدم جمع القمامة خصوصًا فى الأحياء الفقيرة والبعيدة عن وسط العاصمة. ومنها أيضًا تدهور قيمة العملة بشكل غير مسبوق، فانخفضت قيمة الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأمريكى من 1500 ليرة إلى خمسين ألف ليرة، وأدى ذلك إلى ارتفاع جنونى فى الأسعار، وإلى إفقار وانخفاض القيمة الحقيقية لدخول أصحاب المرواتب والمعاشات بالليرة.
ولمواجهة هذه الأزمة، أجرت الحكومة مُفاوضات مع صندوق النقد الدولى للحصول على قرض يُخرج الاقتصاد اللُبنانى من ورطته. وبالفعل وصل الخُبراء من الجانبين إلى اتفاق فى إبريل 2022 بشأن الإصلاحات المطلوبة، والتى تضمنت تعديل قوانين السرية المصرفية، والتحكم برءوس الأموال، والموازنة العامة، وإعادة هيكلة البنوك، إضافة إلى إصلاحات أٌخرى تشمل هيكلة الدين العام، وتوسيع شبكة الأمان الاجتماعى، وإصلاح المؤسسات المملوكة للدولة.
أعدت الحكومة مشروعات القوانين الأربعة وحولتها إلى مجلس النواب الذى تلكأ أعضاؤه فى الموافقة عليها مما دعا وزير الاقتصاد «أمين سلام» فى 20 سبتمبر 2022 إلى انتقاد هذا الأمر والتصريح بأن القادة السياسيين والبرلمانيين لم ينفذوا سوى القليل ودعا المجلس للقيام بدوره بعيدًا عن «الشعبوية السياسية». وحتى نهاية يناير 2023، كان المجلس قد أقر اثنين فقط من القوانين الأربعة المُقترحة. مما دعا رئيس بعثة الصندوق فى لبنان إلى انتقاد أعضاء المجلس، والتصريح بأن إصدار القوانين شرطً لكى ينظر مجلس إدارة الصندوق فى دعم لبنان.
وفى مُقابل أزمة السُلطة وجمودها، سعى اللبنانيون إلى التكيف مع هذه الأوضاع، وقام المجتمع بترتيب أوضاعه باستقلال عن الدولة. وفى حالة الكهرباء مثلا، نشأت شركات خاصة تمتلك مولدات وتقوم بتزويد المحال التجارية والمطاعم والفنادق والأبنية السكنية بما تحتاجه من طاقة، وتم ذلك على مستوى العمارة الواحدة أو مجموعة من العمارات المتجاورة أو مدينة بأكملها كما حدث فى «زحلة»، وتمت ترتيبات مماثلة بالنسبة للماء وجمع القمامة وحفظ الأمن.
من مظاهر التكيف والإصرار على الحياة أيضًا، هو استمرار السياحة فى لبنان. وحسب تقرير لوزارة السياحة عن عدد السياح فى الأشهر التسعة الأولى من عام 2022، فقد وصل العدد إلى 1.1 مليون سائح بزيادة 70% على الفترة المماثلة من عام 2021، و288% من 2020، ولا يدخل فى هذه الأعداد اللبنانيون والسوريون والفلسطينيون. وأدت هذه الزيادة فى عدد السياح إلى تنشيط عدد من الأنشطة كالفندقة والمطاعم والمقاهى وسيارات الأجرة، وتنشيط ما يرتبط بها من مدخلات ومستلزمات.
وارتباطا بالسياحة وحركة السفر الدولية، سجل التقرير الفصلى لبنك عودة عن نفس الفترة ارتفاع عدد المغادرين لمطار بيروت بنسبة 56% عن أعداد الأشهر التسعة الأولى من عام 2021. وهنا يأتى إلى الذهن شركة طيران الشرق الأوسط أو الخطوط الجوية اللبنانية التى أنشئت عام 1945والتى يمكن اعتبارها مرآة تنعكس عليها الظروف السياسية فى لبنان. فقد توقفت أعمال هذه الشركة عدة مرات: الأولى بسبب الظروف الإقليمية وحرب 1967، والثانية بعد اندلاع الحرب الأهلية واستمر وقف نشاطها حتى 1991، والثالثة فى 2006 بسبب الحرب الإسرائيلية على لبنان. رغم كل هذه العثرات، استمرت الشركة فى النمو، وفى 2019 أضافت عددًا من طائرات الإيرباص إلى أسطولها. وفى ظروف الأزمة الراهنة، لم تقم بإلغاء أى من رحلاتها المنتظمة لنحو ثلاثين دولة أخرى.
من أين يأتى اللبنانيون بالمال لمواجهة ارتفاع الأسعار؟ هناك فئة الذين يتقاضون رواتبهم بالدولار، ويشمل ذلك العاملين فى السفارات والمنظمات الدولية والشركات الأجنبية والعربية الموجودة فى لبنان. والفئة الثانية أصحاب المهن الحرة أيا كان نوعها خصوصًا تلك التى تُقدم خدمات للسياح، فإنهم يقومون برفع تكلفة الخدمات التى يقدمونها. والفئة الأكثر عددًا هى العائلات التى تتلقى تحويلات مالية من أحد أبنائها العاملين فى الخارج. وهذه الأعداد كبيرة بحُكم هجرات اللبنانيين المُبكرة منذ نهاية القرن التاسع عشر إلى كُل بقاع المعمورة.
ومن خلال الحديث مع كثير من المثقفين وعموم الناس، يشعر المرء بعدم ثقتهم فى المسئولين الحكوميين والسياسيين لأنهم يفضلون مصالحهم الحزبية والطائفية على المصلحة العامة. ويتطلعون إلى تغيير قواعد اللُعبة السياسية رغم إدراكهم بصعوبة تنفيذ ذلك.
وحمى الله لُبنان واللُبنانيين
نقلا عن الأهرام