سعى تنظيم “داعش”، منذ هزيمته في معركة “الباغوز” السورية في مارس 2019، إلى التكيف مع المتغيرات الميدانية التي شهدتها الساحة السورية على مدى الأعوام الأربعة الماضية، وفقاً للاستراتيجية التي اعتمدها وتضمنت مبدأ رئيسياً يركز على “القتال من أجل البقاء”، بهدف استعادة التوازن وإعادة بناء القدرات مجدداً، دون الاتجاه إلى السيطرة على الأراضي.
وعلى ضوء ذلك، لجأ التحالف الدولي لمواجهة “داعش”، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، إلى تغيير استراتيجية مكافحة الإرهاب، سواء على مستوى تكثيف العمليات، أو على مستوى التحولات النوعية في التركيز على تفكيك الخلايا والمجموعات، وعدم الاقتصار فقط على القيادات والكوادر الميدانية المسئولة عن النشاط العملياتي، بل وتفكيك مجموعات الدعم اللوجيستي، لتحجيم النشاط العملياتي لفرع “داعش” بسوريا.
تحولات رئيسية
يمكن الإشارة إلى ملامح استراتيجية تنظيم “داعش” على الساحة السورية، والتي ارتبط بعضها بجملة التحولات التي شهدها التنظيم منذ عام 2017، بعد طرد عناصره من مدينة الموصل العراقية، فيما يتصل البعض الآخر بصورة رئيسية بخصوصية الأوضاع داخل سوريا، وقدرة مجموعات “داعش” على التكيف معها، ويتمثل أبرزها في:
1- استعادة التوازن التدريجي والتماسك الداخلي: على مدار الأعوام الأربعة الماضية منذ معركة الباغوز، كانت السمة الرئيسية لنشاط تنظيم “داعش” على الساحة السورية هي محاولة استعادة التوازن الميداني تدريجياً، بعد تقلص المساحات التي كانت تحت سيطرة عناصر التنظيم بحلول شهر مارس 2019. إلا أن هذا التراجع في السيطرة على مناطق بسوريا لم يسفر عن انتهاء النشاط العملياتي، إذ ظل النشاط ولكن في إطار هدف مرحلي يتعلق بـ”القتال من أجل البقاء”، لإثبات استمرار نشاط فرع “داعش” في سوريا.
وعقب مقتل زعيم التنظيم أبو بكر البغدادي في نهاية 2019، وتولي أبو إبراهيم الهاشمي القرشي قيادة التنظيم، وبغض النظر عن رمزية البغدادي باعتباره أول زعيم للتنظيم الذي قاد التوسع الميداني البارز في العراق وسوريا، فإن الهاشمي قاد التنظيم في مرحلة تحول داخلية، بالتركيز على نمط “التمرد الريفي”، الذي يعتمد على تكثيف النشاط العملياتي دون السيطرة على الأراضي.
وقد أدت استراتيجية الهاشمي إلى الحفاظ على قدر من التماسك الداخلي بمجموعات “داعش” في سوريا، خلال عامي 2020 و2021، وتكثيف العمليات الإرهابية وتنويعها، والاعتماد على منطقة البادية السورية كنقطة ارتكاز رئيسية للتنظيم.
ورغم تذبذب النشاط العملياتي لمجموعات “داعش” في سوريا، إلا أن اللافت قدرة التنظيم على إعادة بناء قدرات مجموعاته، مثل تصاعد نشاط مجموعاته في محافظة درعا جنوب سوريا، بصورة ملحوظة خلال النصف الأول من عام 2022، في ظل تزايد معدلات عمليات الاغتيال، المنسوبة لعناصر التنظيم في درعا، من دون إعلان التنظيم مسئوليته عنها، في إطار سياسة إعلامية لعدم لفت الأنظار لمجموعاته.
2- إجراء عملية إعادة هيكلة تنظيمية: وذلكبفعل المرحلة الجديدة التي يمر بها فرع “داعش” في سوريا عقب معركة الباغوز وفقدان الأراضي التي كانت تحت سيطرته، والتركيز على استراتيجية “التمرد الريفي”، عبر شن عمليات خاطفة دون الاتجاه إلى السيطرة الميدانية. وقد صاحب هذه الاستراتيجية تحولات في هيكلة فرع “داعش” بسوريا، من خلال إعادة تقسيم عناصر التنظيم إلى خلايا داخل المدن، ومجموعات صغيرة لتنفيذ عمليات في البادية ذات المساحات الصحراوية الواسعة وقلة أعداد السكان.
وبدا أن التنظيم مضطر إلى إدخال تغييرات في الهيكلة والاستراتيجية على مجموعاته بسوريا، وتكرار الاستراتيجية نفسها التي عمد إليها في العراق عقب طرد عناصره من مدينة الموصل عام 2017، إذ أن الاستراتيجية السابقة أسفرت عن هزائم متتالية للتنظيم أفقدته مظاهر السيطرة المختلفة، وأعداداً كبيرة من عناصره، من خلال عمليات مكافحة الإرهاب التي قادها التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، وبالتالي فإن الهيكلة الجديدة يمكن، في رؤية قادته، أن تحد من الاستنزاف المتواصل للعناصر البشرية المتبقية لدى التنظيم، والتي تقدر بنحو 10 آلاف عنصر موزعين بين العراق وسوريا، وفقاً لتقديرات الأمم المتحدة.
وتفرض الهيكلة الجديدة لـ”داعش” بسوريا، واستراتيجية العمل التي تركز على “القتال من أجل البقاء” لاستعادة التوازن التدريجي، تحديات بالنسبة للتحالف الدولي والشريك الرئيسي الذي يتمثل في “قوات سوريا الديمقراطية” بمناطق شمال شرقي سوريا، خاصة على مستوى الجهد الاستخباراتي والمعلوماتي لتفكيك خلايا التنظيم التي بدأت منذ النصف الثاني من عام 2021، في إعادة تركيز النشاط العملياتي باتجاه مناطق شمال شرقي سوريا.
3- توظيف انعكاسات التحولات السورية: يمكن القول إن فرع “داعش” بسوريا تمكن من توظيف واستغلال بعض التحولات خلال الأعوام الثلاثة الماضية على الساحة السورية، على أكثر من مستوى، منها، استغلال تفشي جائحة كورونا،حيث واكب التحولات في استراتيجية تنظيم “داعش” على الساحة السورية وتحديداً مع مطلع عام 2020، وخلال الأشهر الأولى لقيادة الهاشمي عقب مقتل البغدادي،تفشي جائحة كورونا، والتي انعكست بصورة رئيسية في تراجع عمليات التحالف الدولي ضد التنظيم في سوريا خلال عامين، على نحو ساهم في دعم استراتيجية التنظيم، وقدرته على إعادة بناء القدرات، وتحديداً على المستوى اللوجيستي، لدعم عملياته، ولكن خلال عام 2022 بدا أن ثمة تحولات لافتة في استراتيجية التحالف الدولي لمواجهة الخرق الأمني لعناصر التنظيم بمناطق شمال شرقي سوريا، من خلال التركيز على تفكيك خلايا التنظيم، واستهداف موسع للقيادات والكوادر البارزة المؤثرة، سواء على المستوى العملياتي أو اللوجيستي، عبر توسيع عمليات الإنزال الجوي، والتي كان بعضها خارج نطاق سيطرة “قوات سوريا الديمقراطية”، في بيئات يُمكن تصنيفها بـ”المعادية” للوجود الأمريكي سواء في مناطق سيطرة النظام السوري، أو فصائل مسلحة تُوصف بـ”المعارضة” للنظام السوري.
كما استغل التنظيم العمليات العسكرية التركية بسوريا، والتيأدت إلى تراجع الضغوط التي تعرضت لها مجموعاته وتحديداً التي تنشط باتجاه مناطق سيطرة “قوات سوريا الديمقراطية”. كما أن “داعش” استغل التوترات الأمنية بعد عمليات القصف الجوي والمدفعي على مناطق شمال شرقي سوريا خلال الربع الأخير من العام الماضي، لجهة تنفيذ عمليات منسقة مثل الهجوم على مقر أمني مركزي بالرقة، إضافة إلى محاولة بعض المجموعات تهريب محتجزين في مخيم الهول، وتكثيف النشاط في دير الزور.
وبالتوازي مع ذلك، سعى “داعش” إلى توظيف التجاذبات بين القوى الفاعلة بسوريا، خاصة مع تنازع السيطرة بين الأطراف المحلية والإقليمية والدولية على مناطق النفوذ والسيطرة، بما أتاح للتنظيم مرونة حركية وتكتيكية في النشاط العملياتي. فعلى سبيل المثال، استغل التنظيم تراجع عمليات القصف الجوي الروسي خلال أول شهرين تقريباً من بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا عام 2022، لتعزيز الحضور في منطقة البادية، في حين كان تكثيف عمليات القصف على مناطق تمركز عناصر التنظيم، أحد العوامل التي دفعت الأخير لتوجيه النشاط العملياتي باتجاه مناطق شمال شرقي سوريا خلال النصف الثاني من عام 2021.
4- محاولة تنويع مصادر التمويل: رغم فقدان “داعش” في نطاق ما يُعرف بـ”القيادة المركزية” بدولتي العراق وسوريا، الأراضي التي كانت تحت سيطرته، بما أدى إلى تراجع مصادر التمويل، وتحديداً على مستوى عوائد تجارة النفط غير الشرعية، التي وفرت ملايين الدولارات له، إضافة إلى فرض “الزكاة” على سكان المناطق التي كانت تحت سيطرته، إلا أن التقديرات الأممية تشير إلى امتلاك التنظيم احتياطيات مالية تتراوح بين 25 إلى 50 مليون دولار، دون أن ينفي ذلك أنها تتآكل.
وبشكلٍ عام، فإن بعض أفرع التنظيم بدأت تتجه إلى الاعتماد على مصادر تمويل من البيئات المحلية، لتنويع تلك المصادر، ومنها فرع “داعش” بسوريا، الذي يعتمد على فرض إتاوات على أنشطة التهريب غير الشرعية، مثل تهريب البشر والسجائر وغيرها، فضلاً عن فرض إتاوات على الرعاة في منطقة البادية السورية، وربما كان أحد دوافع التنظيم لتوجيه النشاط العملياتي لمناطق شمال شرقي سوريا بصورة لافتة خلال النصف الثاني من عام 2021، هو فرض إتاوات على الشركات المحلية العاملة في نقل النفط أو التي تمتلك آباراً صغيرة.
5- السعي لاستقطاب مزيد من الإرهابيين: كشفت محاولة تنظيم “داعش” اقتحام سجن غويران في شمال شرقي سوريا، عن رغبته في تحرير عناصره المحتجزين في السجون التي تخضع لإشراف “قوات سوريا الديمقراطية”، بدعم من التحالف الدولي، إضافة إلى محاولات متكررة لتحرير عناصره وأسرهم من مخيمات الاحتجاز، وتحديداً مخيم “الهول”، الذي تعرض خلال السنوات الأربعة الأخيرة لعمليات محدودة لتهريب المحتجزين داخله، إذ تمثل تلك السجون والمخيمات “خزاناً بشرياً” يمكن أن يدعم نشاط التنظيم لاستعادة نفوذه.
وبقدر ما كشفت محاولة اقتحام السجن الاتجاه العملياتي لاستهداف السجون والمخيمات، فإنها كشفت أيضاً القدرات العملياتية لفرع “داعش” بسوريا، لناحية التخطيط لاقتحام سجن يخضع لتأمين مشدد، ونجاح المجموعة المنفذة في إحداث اختراق أمني كبير، استدعى عدة أيام لاحتوائه في الأحياء المحيطة بالسجن، لملاحقة الهاربين ومجموعة التنفيذ، بما دفع التحالف الدولي إلى تكثيف عمليات مكافحة الإرهاب، لتفكيك خلايا “داعش”.
استمرار الضغوط
رغم أن استراتيجية تنظيم “داعش” على الساحة السورية تُظهِر قدرته على التكيف مع المتغيرات الميدانية، ودعم محاولات إعادة بناء القدرات، إلا أن التنظيم يواجه معضلة تتعلق بعدم القدرة على الاستقرار، وتحديداً عقب الاستهداف المتكرر لقياداته سواء على مستوى القيادة العليا المتمثلة في زعيم التنظيم، أو على مستوى الكوادر الرئيسية. فخلال الأعوام الأربعة الماضية، أسفرت عمليات مكافحة الإرهاب، وبشكل خاص التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية، عن استهداف ثلاثة زعماء للتنظيم، إضافة إلى استمرار استهداف الكوادر والقيادات المؤثرة التي تقوم بأدوار عملياتية ولوجيستية.
ومع تأكيد الولايات المتحدة الأمريكية استمرار عمل التحالف الدولي في سوريا والعراق، بالتعاون مع الشركاء، لمواجهة تنظيم “داعش” الذي لا يزال يمثل تهديداً، فإن التنظيم يواجه ضغوطاً مستمرة لتفكيك خلاياه وشبكاته، خاصة مع إعلان وزارة الدفاع الأمريكية تنفيذ 313 عملية ضد “داعش” في البلدين خلال عام 2022.