تأثيرات متبادَلة:
كيف تنعكس الحرب في أوكرانيا على ليبيا؟

تأثيرات متبادَلة:

كيف تنعكس الحرب في أوكرانيا على ليبيا؟



أبدت الأطراف السياسية الليبية المختلفة اهتماماً مبكراً بتطورات الأزمة الأوكرانية. فقد واكب التدخل العسكري الروسي، الذي بدأ في 24 فبراير الفائت، عملية تشكيل البرلمان الليبي لحكومة فتحي باشاغا، في الوقت الذي لا تزال فيه حكومة عبدالحميد الدبيبة مصرّة على عدم تسليم السلطة. وعلى الرغم من وحدة مواقف كل من باشاغا والدبيبة تجاه معارضة الحرب، حيث صوتت ليبيا في مجلس الأمن مع قرار إدانة التدخل الروسي؛ إلا أن موسكو أيدت موقف البرلمان في مسار خريطة الطريق وتشكيل حكومة بديلة لحكومة الوحدة الوطنية. واللافت في هذا السياق، أن الحرب سلطت الضوء على موقع ليبيا من خريطة الطاقة العالمية، بالإضافة إلى انعكاساتها على واردات ليبيا من القمح، فضلاً عن بعض التحركات الخاصة بعناصر المرتزقة، ولا سيما مليشيا “فاغنر” الروسية، باتجاه مغادرة ليبيا، وهو الموقف الذي ستكون له انعكاسات على توازنات القوى في الداخل الليبي.

مؤشرات عديدة

تكشف مؤشرات عديدة عن تزايد تأثير الحرب في أوكرانيا على التفاعلات التي تجري على الساحة الليبية، وهو ما يمكن توضيحه في التالي:

1- ارتدادات دعم موسكو لحكومة باشاغا: مع اندلاع الحرب في أوكرانيا، أبدت حكومة الدبيبة معارضة لها بناءً على موقفها من روسيا. فعلى الرغم من محاولتها بناء علاقات جيدة مع الأخيرة منذ تسلمها السلطة، في إطار الزيارة التي قام بها الدبيبة إلى موسكو (منتصف أبريل 2021)، والتي تبعها في يوليو من العام نفسه عودة شركات مثل “تات نفط” الروسية لاستئناف العمل المتوقف منذ 2011 في حقول (سرت – غدامس)؛ إلا أن تأييد موسكو لترشح سيف الإسلام القذافي للانتخابات الرئاسية الليبية التي كانت مقررة في 24 ديسمبر الماضي غيّر مسار هذه العلاقة. فمن المتصور -وفق تقديرات محلية- أن الدبيبة كان يعتقد أن تجسير العلاقة عبر المصالح المشتركة سيشكل دعماً لمواقفه السياسية، بينما تشير تلك التقديرات إلى أن روسيا لم تكن لتكتفي بمجرد استئناف الشراكة الاقتصادية وفقاً للعقود المجمدة فقط منذ الإطاحة بالنظام السابق، سواء في قطاع النفط والغاز أو السكك الحديدية أو البنية التحتية عموماً، وإنما كانت تطمح إلى رفع مستوى الشراكة الاقتصادية أكثر مما كانت عليه.

وقد توالت الخلافات بين الجانبين مع تأييد موسكو تشكيل البرلمان الليبي لحكومة باشاغا، الأمر الذي يفسر إصدار الخارجية الليبية في حكومة الدبيبة بيانات شبه يومية تعارض فيها التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا، كما لو كانت ليبيا طرفاً في الحرب. والمستغرب في هذا السياق أن موقف باشاغا لم يكن مختلفاً عن موقف الدبيبة المعارض للحرب. وفي كل الأحوال، يمكن فهم الموقف الروسي من زاوية أخرى، وهي أن تشكيل حكومة باشاغا ومسار خريطة الطريق البرلمانية بشكل عام هو مسار معاكس للرغبة الغربية، حيث تسعى البعثة الأممية إلى طرح مبادرة بديلة لوضع قاعدة دستورية وتسريع عملية الانتخابات، وهو ما رفضه البرلمان، على نحو ينسجم مع موقف روسيا التي تعارض كل ما تطرحه ستيفاني وليامز من مبادرات، وترى أنها تعبر عن موقف أمريكي أكثر منه موقفاً أممياً.

2- احتمال اندلاع أزمة غذاء وشيكة في ليبيا: تستورد ليبيا قرابة 43% من القمح (650 ألف طن) تقريباً من روسيا وأوكرانيا، وبالتالي كانت في منطقة التأثر بالحرب بشكل رئيسي، لا سيما وأن البنية التحتية التي تضررت من الصراعات في ليبيا خلال العقد الماضي لا تسمح بوجود مخزون استراتيجي يمكن الاعتماد عليه لفترة كافية. ولذا ارتفع سعر الخبز في ليبيا، خاصة في ظل عدم القدرة على ضبط الأسواق على خلفية الأزمة السياسية الراهنة بين حكومتي الدبيبة وباشاغا. ولا يزال من غير الواضح كيف ستتم معالجة هذه الأزمة في المستقبل، وما هي البدائل التي سيتم اللجوء إليها منعاً لنشوب أزمة غدائية، خاصة في حال استمرار الأزمة السياسية. وقد أشار محمد الحويج، وزير الاقتصاد في حكومة الدبيبة، إلى أن هناك 12 دولة أخرى يمكن اللجوء إليها لاستيراد القمح كبديل لأوكرانيا وروسيا؛ إلا أن حكومة الدبيبة لم تتحرك تجاه تلك البدائل، بينما لم تتعاطَ حكومة باشاغا مع تلك الأزمة حتى الآن، حيث لم تتمكن بعد من مباشرة عملها فعلياً.

3- الاستعداد لنقل المرتزقة إلى أوكرانيا: كشفت تقارير محلية ليبية وأخرى سورية أن موسكو أعادت بعض العناصر السورية من ليبيا إلى قاعدة “حميميم” تمهيداً لنقلهم إلى أوكرانيا، إلا أن أياً من تلك التقارير لم يُشر بعد إلى نقلهم بالفعل إلى هناك. كذلك، أشارت تقارير محلية ليبية إلى تحرك مجموعات “فاغنر” الروسية في شرق ليبيا إلى قاعدة الجفرة، وسادت تكهنات بأن روسيا قد تحتاج إلى إخلاء هذه المجموعات للاستفادة منها في أوكرانيا؛ لذا يتم تجميعها في موقع الجفرة حيث تتواجد طائرات يمكن أن تنقلها إلى خارج ليبيا. وفي حال حدوث ذلك سيتعين على الجيش الوطني الليبي ملء الفراغ الذي قد يتسبب فيه هذا الإخلاء، خاصة وأن بعض هذه المجموعات كان منتشراً على خطوط التماس ما بين الشرق والغرب. وربما يفسر هذا السياق اهتمام الجيش الليبي في الأيام الأخيرة بالقيام بالعديد من المناورات العسكرية. لكن على الجانب الآخر، لم تقم تركيا بعملية إخلاء موازية وفقاً لما تم الاتفاق عليه في مؤتمر برلين الثاني ومؤتمر باريس (يونيو – نوفمبر 2021 على التوالي)، وبالتالي سيكون هناك ارتباك في هذا الملف، وفق ما أشارت إليه اللجنة العسكرية المشتركة (5+5).

4- تزايد الاهتمام بملف النفط الليبي: حرصت الدول الغربية على استمرار تدفق النفط الليبي إلى الخارج لتعويض احتياجات الطاقة، في ظل اتجاهها إلى تقليص الاعتماد على النفط والغاز الروسي، والحد من الارتفاعات المتوالية لأسعار الطاقة عموماً. ومع إعلان وزير النفط والغاز الليبي محمد عون أن ليبيا لا يمكنها تعويض فارق كبير في الاحتياجات؛ إلا أن الاختبار الحقيقي للموقف الليبي ظهر عندما أقبل الطوارق على إغلاق حقل “الشرارة” الذي يُعد أحد أهم الحقول المنتجة للنفط، حيث أصدرت السفارات الغربية بيانات عاجلة تطالب فيها بضمان استمرار تشغيل الحقول، كما أكدت على ضرورة عدم اندلاع صراع مسلح جديد قد ينعكس على الوضع الأمني في حقول النفط، وبالفعل تم استئناف العمل من الحقل بعد التفاهم ما بين حكومة الدبيبة والطوارق، وبالتالي فإن الدبيبة استفاد أيضاً من هذا الموقف لصالحه.

5- التوظيف السياسي لإخلاء الجالية الليبية من أوكرانيا: وهو موقف آخر تحمست حكومة الدبيبة للانخراط فيه بشكل فاعل، حيث قامت وزيرة الخارجية نجلاء المنقوش بالتوجه إلى سلوفاكيا في بداية الحرب للوقوف على عملية الإخلاء بنفسها، وتزامن ذلك مع تشكيل الحكومة الجديدة بما فيها تعيين حافظ قدور وزيراً للخارجية، والذي كان يشغل موقع سفير ليبيا لدى الاتحاد الأوروبي حتى منتصف أغسطس الماضي لكنه استقال احتجاجاً على السياسة الخارجية لحكومة الدبيبة، مما يُشكل مؤشراً على تباين في توجهات الحكومتين فيما يتعلق بالسياسة الخارجية، ويفسر أيضاً أسباب اهتمام المنقوش بملف الجالية الليبية والتحرك السريع في هذه الخطوة بشكل استباقي.

نتائج متقاطعة

في الأخير، يمكن القول إن انعكاسات الحرب الروسية في أوكرانيا على ليبيا لم تنحصر في وقوعها ضمن قائمة الدول التي سوف تتأثر بتداعيات تلك الحرب، وإنما تمتد أيضاً إلى تزايد الاهتمام الغربي بالاعتماد عليها كأحد مصادر الطاقة البديلة للطاقة الروسية، كما أن طبيعة التطورات السياسية في ليبيا فرضت على أطراف الأزمة تبني مواقف سياسية تجاه روسيا، حتى وإن كانت متقاربة في إدانة تدخلها في أوكرانيا، لكن كل طرف بنى دوافعه وفقاً لمنطلقاته السياسية، ومقاربة علاقاته الدولية. وفي المقابل، من المتصور أن الانشغال الدولي بالأزمة الأوكرانية سيأتي بطبيعة الحال على حساب الاهتمام الأوروبي والأمريكي بليبيا التي كانت أحد المشاغل الرئيسية للولايات المتحدة والدول الأوروبية في الفترة السابقة.