مكاسب محتملة:
كيف تستفيد تركيا من الأزمة بين فرنسا ومالي؟

مكاسب محتملة:

كيف تستفيد تركيا من الأزمة بين فرنسا ومالي؟



في 31 يناير الماضي، وبعد تبادل التصريحات الحادة بين باريس وباماكو، طرد المجلس الانتقالي في مالي السفير الفرنسي جويل مايير من البلاد. ترتب على هذه الخطوة التي تمثل تراجعاً للنفوذ الفرنسي في غرب إفريقيا، فرصة لقوى إقليمية لتعزيز نفوذها في المجال الاستراتيجي الإفريقي، وبخاصة تركيا التي ترتبط بعلاقات وثيقة مع قيادات الحكم الانتقالي في مالي، منذ تجنبت إدانة تدخل المؤسسة العسكرية في العملية السياسية للإطاحة بالرئيس “كيتا” في أغسطس 2020، وذلك خلافاً للموقف الفرنسي الذي قاد ضغوطاً سياسية لعزل المجلس العسكري في مالي من خلال فرض عقوبات اقتصادية، ودفع دول غرب إفريقيا “إيكواس” نحو مقاطعة النظام العسكري في مالي.

ومع تصاعد حدة الأزمة الأخيرة بين باريس وباماكو، تدرك تركيا أن ثمة فرصة لتطوير حضورها على حساب التراجع الفرنسي في منطقة غرب إفريقيا، وبخاصة في مالي من خلال استثمار صورتها الذهنية بين جماهير القارة الإفريقية، فضلاً عن تمدد أنقرة اللافت في القارة لملء فراغ التوتر الحادث بين باريس وعدد من حكومات مستعمراتها السابقة.

لكن الأزمة السياسية الأخيرة بين فرنسا ومالي بقدر ما توفر بيئة خصبة للتمدد التركي في مناطق النفوذ الفرنسي داخل دول غرب إفريقيا، فإن التمدد الاستراتيجي التركي في منطقة الساحل وغرب إفريقيا، يثير قلق باريس منذ وقت، وكشف عن ذلك تصريحات الرئيس الفرنسي في نوفمبر 2020 عندما قال إن “تركيا تسعى لتعزيز المشاعر المعادية لفرنسا في إفريقيا”.

مؤشرات كاشفة

نجحت التحركات التركية، عبر أدوات ناعمة وقوى صلبة، في التواجد بقوة داخل إقليم الساحل والصحراء الذي يمثل منطقة تقليدية للنفوذ الفرنسي، وتعزز هذا الوجود مع تحول أنقرة إلى لاعب أساسي في السوق العسكرية الأمنية في إفريقيا بقطاعاتها المتنوعة. فقد كشفت التحركات التركية تجاه دول غرب إفريقيا، ومنها مالي والنيجر والسنغال، عن مساعي أنقرة لزيادة مساحة التمدد في عمق غرب إفريقيا لتأمين نفوذها، وتعزيز تمددها في منطقة الساحل والصحراء، التي باتت تحظى بمكانة متقدمة في استراتيجية الدولة التركية، نظراً لأهميتها الجيواستراتيجية، وموقعها الجغرافي الذي جعلها ترتبط بالتفاعلات التي تجري بمنطقة الشرق الأوسط.

في هذا السياق، كانت زيارة أردوغان لعدد من دول غرب إفريقيا في أكتوبر 2021، وشملت نيجيريا وأنغولا وتوغو. كما سبق هذه الجولة زيارته دولة مالي في مارس 2018، وهي أول زيارة من نوعها لرئيس تركي، وأعلن خلالها عن مساهمة بلاده بــ5 ملايين دولار لتمويل القوة العسكرية التي شكلتها مالي بمشاركة النيجر وتشاد وبوركينافاسو وموريتانيا، لمكافحة المجموعات الجهادية الناشطة في منطقة الساحل. وقامت أنقرة في السنوات الماضية، بتوسيع دبلوماسية المدارس والجوامع التركية، وهما أداتان أساسيّتان في القوّة الناعمة التي انتهجها الرئيس التركي تجاه مناطق النفوذ الفرنسي غرب إفريقيا، وذلك من خلال توظيف وكالة “تيكا” للتعاون، ومؤسسة “ديانات” التي مولت بناء العديد من المساجد والمؤسسات التعليمية في دول المنطقة.

كما حرصت تركيا على توظيف المشاعر الدينية والتاريخية لتوسيع تحركاتها في دول غرب إفريقيا، وفي الصدارة منها مالي (البلد ذو الغالبية المسلمة)، وذلك من خلال تقديم نفسها على أنها دولة مسلمة وأقرب للشعوب الإفريقية من فرنسا، وتعتمد في علاقاتها على التحالف وليس “عقلية المستعمر والفوقية”، وترتكز في علاقاتها الاقتصادية على مبدأ “رابح رابح” وليس مبدأ “نهب الثروات”.

على صعيد ذي شأن، أبدت تركيا اهتماماً خاصاً بتطوير العلاقات العسكرية في منطقة غرب إفريقيا على حساب النفوذ الفرنسي، وبدا ذلك في توقيع اتفاقيات عسكرية أمنية مع العديد من دول المنطقة كالسنغال ومالي وموريتانيا وتشاد. كما وقّعت في 20 نوفمبر الماضي صفقة تشمل توريد أسلحة للنيجر، بينها طائرات مسيرة ومدرعات لتعزيز قدرات الأخيرة العسكرية في مواجهة الجماعات الإرهابية.

الأرجح أن تحركات أنقرة المستمرة نجحت في تحقيق اختراقات معتبرة تجاه دول غرب إفريقيا التي تقع ضمن حزام النفوذ الفرنسي، كشف عنها تصريحات الرئيس السنغالي خلال حضوره القمة التركية الإفريقية في 16-18 ديسمبر الماضي، حيث قال: “إن تركيا والدول الإفريقية لديها علاقات في الوقت الحالي، قائمة على المساواة ومبدأ الربح المتبادل”، وتابع: “هذه العلاقات تتسم بالشراكة الفعّالة للغاية”.

محركات مختلفة

شكّلت الأزمة السياسية الأخيرة بين فرنسا ومالي فرصة مثالية للسياسة التركية لتطوير حضورها في إقليم الساحل والصحراء نظراً لما أتاحته من وضعية استثنائية لتقليص النفوذ الفرنسي، وتحقيق العديد من أهدافها خلال الفترة المقبلة، وهو ما يمكن بيانه على النحو التالي:

1- تكريس نفوذ أنقرة بمنطقة الساحل والصحراء: ترتبط تركيا بعلاقات وثيقة مع المجلس العسكري في مالي منذ إمساكه بمفاصل السلطة في أغسطس 2020. كما عززت روابطها العسكرية مع النيجر، ووفر التعاون العسكري بين البلدين بيئة مواتية لتعميق نقاشات مشتركة حول إمكانية إقامة قاعدة عسكرية تركية بالنيجر. في هذا السياق، يوفر الانسحاب الفرنسي من مالي فرصة لتعميق الشراكة التركية مع دول القارة الإفريقية، ويرسخ خطوات عديدة اتخذتها أنقرة في الفترة الماضية تجاه تجذير حضورها في دول القارة، أهمها القمة التركية الإفريقية، التي عُقدت دورتها الثالثة في ديسمبر 2021 بمدينة إسطنبول. ورغم تأكيد أنقرة على المداخل الثقافية والإنسانية كأدوات رئيسية في علاقاتها مع غرب إفريقيا، إلا أن التحركات التركية خلال العامين الماضيين ساهمت في تزايد المخاوف الفرنسية والأوروبية من تصاعد الدور التركي في الساحل، خاصة بعد انخراط تركيا في صفقات عسكرية مع دولها، مما يسمح بتوسع النفوذ التركي على حساب القوى التقليدية في المنطقة، ويشكل تهديداً لمصالحها الاستراتيجية هناك.

2- تسريع أفول النفوذ الفرنسي في الساحل الإفريقي: لا ينفصل الاهتمام التركي بتوظيف أزمة طرد السفير الفرنسي من مالي نهاية يناير الماضي عن التوتر الحادث في العلاقات التركية الفرنسية، والذي ظهر للعلن أكثر من مرة، آخرها تصريحات حادة للرئيس الفرنسي ماكرون في 8 يناير الماضي، اتهم فيها أنقرة بتنفيذ مشروع لتوسيع الإسلام السياسي، مشيراً إلى رفضه عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي. كذلك لا يُخفي الأتراك انزعاجهم من التحركات الفرنسية الأخيرة لمزاحمة النفوذ التركي في منطقة القوقاز، حيث عقد الرئيس الفرنسي في 4 فبراير الجاري اجتماعاً عبر الفيديو مع رئيس الوزراء الأرميني، والرئيس الأذربيجاني، في محاولة للقيام بوساطة جديدة لتطبيع العلاقات بين الدولتين، وهو تحرك قد يزاحم فيه تركيا التي تسعى للعب دور الوسيط في أزمات القوقاز. هنا، وفي إطار رغبة أنقرة في تسريع وتيرة أفول نجم باريس في إقليم الساحل الإفريقي الذي تتمتع فيه بأفضلية وبنفوذ تقليدي نتيجة خبرتها الاستعمارية، قد تسعى تركيا إلى استثمار الأزمة الراهنة بين باريس وباماكو بعد طرد الأخيرة السفير الفرنسي لإحداث مزيد من التآكل في رصيد النفوذ الفرنسي بمنطقة الساحل الإفريقي.

3- تعميق التعاون العسكري التركي الغرب إفريقي: توفر أزمة طرد السفير الفرنسي من مالي، وتصاعد السخط الشعبي في دول غرب إفريقيا ضد الوجود العسكري الفرنسي، مناخاً مواتياً لتعزيز الصادرات العسكرية التركية إلى منطقة الساحل. وتبدو تركيا شريكاً عسكرياً موثوقاً به مع مجموعة من دول غرب إفريقيا، التي كانت من أهم مشتري السلاح التركي خلال عام 2021. فعلى سبيل المثال، بلغت الصادرات العسكرية التركية إلى بوركينافاسو 8 ملايين دولار مقابل توريد معدات عسكرية لتشاد بقيمة 14,6 مليون دولار. كما وقّعت صفقة لتوريد طائرات مسيرة لحكومة النيجر نهاية العام الماضي.

تأسيساً على ما سبق، تبدو العلاقات العسكرية بين أنقرة ومنطقة الساحل مرشحة للتطور خلال المرحلة المقبلة في ظل تراجع الدور الفرنسي، ناهيك عن صورة ذهنية إيجابية لتركيا بين دول غرب إفريقيا التي ترى أنقرة أقل استبداداً من الاتحاد الأوروبي أو فرنسا، وشريكاً في المصالح نفسها. كما يتوقع أن تشهد الصادرات العسكرية التركية نقلة نوعية، إذ إن صانعي القرار في غرب إفريقيا باتوا يشعرون بالاستياء حيال اعتماد المنطقة على المساعدات الأوروبية والدعم العسكري الفرنسي.

4- إصلاح العلاقات التركية مع القوى الغربية: تعي أنقرة أن تعزيز حضورها في منطقة غرب إفريقيا على حساب النفوذ الفرنسي، يساهم في بناء فرص جديدة للتعاون بين أنقرة وقوى أوروبية أخرى مثل إيطاليا وإسبانيا، تعاني من تداعيات موجات اللجوء القادمة من هذه الدول. لكن الأهم أن التغلغل التركي في إقليم الساحل يمكن أن يمثل مدخلاً لإصلاح العلاقة مع واشنطن، إذ إن حضور أنقرة في هذه المنطقة قد يقنع إدارة بايدن بأهمية توظيف الأولى كعامل مهم لفرض التوازن في مواجهة النفوذ الصيني المتزايد في إقليم غرب إفريقيا، وهو أمر من شأنه أن يفتح آفاقاً جديدة للعلاقة بين أنقرة وواشنطن.

تحديات ضاغطة

إجمالاً، على الرغم من أن طرد المجلس الانتقالي في مالي السفير الفرنسي يمثل خطوة استراتيجية يمكن البناء عليها لتكريس النفوذ التركي في منطقة الساحل والصحراء، لكن تبقى ثمة تحديات تواجه الدور التركي، أهمها تداعيات الأزمة الاقتصادية التي تشهدها أنقرة. كما تشكل سيولة الوضع السياسي والأمني في دول غرب إفريقيا، إلى جانب الحضور المتزايد للنفوذ الصيني والروسي في الإقليم، عوامل ضاغطة على التحركات التركية في غرب إفريقيا.