ارتبط الظهور السياسي لحزب العدالة والتنمية التركي، منذ العقد الأول بالألفية الجديدة، بطرح المساعدات الإنسانية والإغاثية كأداة يمكن عبرها التكريس لنفوذ النظام التركي على الساحة الخارجية، وذلك ضمن ما أسماه الحزب “الدبلوماسية الإنسانية”humanitarian diplomacy، وبالرغم من أن قادة الحزب روجوا على مدار السنوات الماضية للطابع الإنساني والأخلاقي الخالص لهذه المساعدات، فقد بدا الواقع مغايرًا، بشكل أو بآخر، حيث باتت المساعدات الإنسانية أداة من أدوات خدمة المصالح التركية، وخصوصًا مع التحولات التي طرأت على السياسة الخارجية التركية في مرحلة ما بعد الربيع العربي، وتبني نهج تدخلي مثير للأزمات بدول الإقليم.
توظيف الأزمات
قدمت الأزمات التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط خلال السنوات الأخيرة مدخلًا هامًا للمنظمات الإغاثية والإنسانية التركية للاضطلاع بأدوار أكثر تأثيرًا في المنطقة، وبالتبعية خدمة المصالح التركية. وفي هذا الإطار، ضمت خريطة المنظمات الإنسانية التركية عددًا من الفاعلين الرئيسيين، وفي مقدمتهم الوكالة التركية للتعاون والتنسيق “تيكا”، وهيئة الإغاثة الإنسانية التركية، وإدارة الكوارث والطوارئ التركية “آفاد”، والهلال الأحمر التركي.
لقد كانت هذه المؤسسات حاضرة، بشكل أو بآخر، في كافة أزمات المنطقة. فمن جهة أولى، سعت أنقرة، عبر سياسة المساعدات، إلى التواجد في دول الصراعات للحفاظ على مصالحها. ففي سوريا، على سبيل المثال، تنشط المنظمات الإنسانية والإغاثية التركية منذ تفجر الصراع هناك في عام 2011، حيث لعبت إدارة الكوارث والطوارئ التركية دورًا في إنشاء مخيمات للاجئين السوريين داخل تركيا. وتشير البيانات الرسمية لهيئة الإغاثة الإنسانية التركية إلى ممارسة الهيئة أنشطتها في سوريا عبر 10 مراكز تنسيق، كما أن الهيئة قامت بأنشطة إنسانية متنوعة شملت إنشاء مخيمات للمتضررين من الصراع، وإقامة مخابز ومراكز طبية ودور لرعاية الأيتام، فضلًا عن دعم المؤسسات التعليمية.
ومن جهة ثانية، شكّلت الأزمات التي واجهتها بعض الدول بالمنطقة فرصة لأنقرة من أجل توسيع دائرة تحركاتها الخارجية، بعيدًا عن مناطق نفوذها التقليدية، ولعل هذا ما تُظهره التحركات التركية في الساحة اللبنانية، في مرحلة ما بعد انفجار مرفأ بيروت شهر أغسطس الماضي، فبعد أيام قليلة من الانفجار تم إرسال مساعدات طبية وإنسانية وفرق بحث وإنقاذ من قبل وزارة الصحة التركية وإدارة الكوارث والطوارئ والهلال الأحمر التركي. وفي السياق ذاته، أعلنت الوكالة التركية للتعاون والتنسيق “تيكا”، يوم 25 أغسطس 2020، بدء أعمال تأهيل وتشغيل المستشفى التركي في مدينة صيدا اللبنانية عقب نحو 10 سنوات من التوقف عن الخدمة.
مداخل للتفسير
يُشير تقرير المساعدات الإنسانية العالمية، الصادر عام 2020 عن مؤسسة مبادرات التنمية Development Initiatives، إلى تركيا بوصفها واحدة من أكبر الدول المانحة في مجال المساعدات الإنسانية خلال عام 2019، إذ بلغت المساعدات الإنسانية التركية، بحسب التقرير، نحو 7,6 مليارات دولار. وهذا التوسع التركي في سياسة المساعدات كان وثيق الصلة بتوجهات النظام التركي، والطموحات التوسعية لأنقرة بالمنطقة. وفي هذا الإطار، حدث ما يشبه التلاقي بين المنظمات الإغاثية ومصالح النظام التركي، والذي تجلت ملامحه من خلال المداخل الرئيسية التالية:
أولًا- البحث عن المكانة: حيث يفترض “مايكل برنيت” في كتابه “إمبراطورية الإنسانية” Empire of Humanity أن العمل الإنساني بات رمزًا للمكانة في السياسة العالمية، وهو ما دفع عددًا من القوى الدولية المتوسطة والصاعدة إلى التعاطي مع العمل الإنساني كأداة هامة للحصول على الشرعية الدولية. وهذه الفرضية لم تكن غائبة عن قيادات حزب العدالة والتنمية، وخصوصًا مع طرحهم فكرةَ الدبلوماسية الإنسانية كمدخل لإعادة صياغة الدور الخارجي لتركيا، وحتى مع التحولات التي طرأت على السياسة الخارجية التركية، والابتعاد عن سياسة تصفير المشكلات مع دول الجوار التي رفعها الحزب في المراحل الأولى لحكمه؛ فقد استمرت المساعدات الإنسانية كحيز هام يمكن عبره لأنقرة إعادة ترميم صورتها التي تضررت بفعل سياساتها الإقليمية.
ثانيًا- خلق بيئة متسامحة مع المصالح التركية: فمنظمات الإغاثة تستهدف خلق بيئة متسامحة مع المصالح والرؤية التركية، ولعل هذا ما كشفت عنه السياسة التركية تجاه الصومال، فبعد زيارة “رجب طيب أردوغان”، الذي كان آنذاك رئيسًا للوزراء، للصومال في أغسطس 2011، سارعت المؤسسات الإغاثية والإنسانية التركية، مثل الهلال الأحمر التركي والوكالة التركية للتعاون والتنسيق، إلى التواجد في الصومال. ووفقًا لبعض التقديرات التركية، في شهر ديسمبر 2020، قدمت تركيا مساعدات إنسانية وتنموية إجمالية بقيمة مليار دولار للصومال.
لقد ساهمت هذه المساعدات، بشكل أو بآخر، في تعزيز المصالح التركية في مقديشو، وبالرغم من الأزمات الداخلية التي تواجهها الصومال، فقد كان للاستثمارات التركية تواجد واضح؛ ففي شهر أكتوبر 2020 وقّعت شركة مشغل الموانئ التركي (البيرق) عقد تشغيل للميناء مع الحكومة الاتحادية الصومالية، والذي منح الشركة امتيازًا مدته 14 عامًا جديدة لإدارة ميناء مقديشو، الذي تديره الشركة منذ 2014. كما لعبت شركة “فافورى” التركية، خلال السنوات الماضية، دورًا هامًا في عمليات تطوير وتحديث مطار مقديشو الدولي الجوي. وفي السياق ذاته، أعلن الرئيس التركي، في شهر يناير 2020، أن “مقديشو دعت أنقرة للتنقيب عن النفط والغاز في المياه الإقليمية الخاصة بالصومال”.
ثالثًا- تخفيف آثار التدخل العسكري: إذ يكشف تتبع السياسة التركية خلال السنوات الأخيرة عن درجة من التلازم بين التدخلات العسكرية التركية في المنطقة وأنشطة منظمات الإغاثة التركية، كما لو كانت المنظمات الإغاثية تعمل على تخفيف آثار التدخل العسكري التركي، وتقليل حدة الانتقادات لأنقرة. وتجلى هذا النمط في طريقة تفاعل المنظمات الإغاثية مع العمليات العسكرية التركية في سوريا، حيث كثفت هذه المنظمات أنشطتها في مناطق العمليات العسكرية.
فعلى سبيل المثال، أعلنت إدارة الكوارث والطوارئ التركية في شهر أكتوبر 2020، أنها قدمت للأهالي في منطقة نبع السلام السورية، شرق الفرات، منذ انطلاق عملية نبع السلام التركية العسكرية في أكتوبر 2019، العديد من المساعدات التي ضمت “7 ملايين و183 ألفًا و150 كيلوجرام دقيق، ومليونًا و22 ألفًا و186 رغيف خبز، و41 ألفًا و703 طرود غذائية، بالإضافة إلى 271 ألفًا و727 من المواد الغذائية الأخرى، و135 ألفًا و242 عبوة مياه، و10 آلاف و466 قطعة مستلزمات نظافة، و10 آلاف و303 مستلزمات إيواء، و5 آلاف و315 من ألعاب للأطفال”.
ويتكرر هذا الاتجاه في الحالة الليبية، ومحاولات استخدام ورقة الإغاثة والمساعدات للتغطية على آثار التدخل العسكري التركي في ليبيا. فعلى سبيل المثال، أعلنت “تيكا”، في شهر أكتوبر 2020، تنفيذها “ما يقرب من 60 مشروعًا في مختلف المجالات في ليبيا، من أهمها بناء المستشفيات ومشاريع التعليم والصحة والزراعة”.
رابعًا- اختراق مناطق جديدة: تساعد منظمات الإغاثة النظام التركي في اختراق مناطق جديدة، بعيدة عن مناطق النفوذ التقليدية لأنقرة، ولعلّ هذا ما يتضح من خلال السياسة التركية تجاه اليمن، فالمساعدات تقدم لتركيا مدخلًا للانخراط في الصراع اليمني. وفي هذا الإطار، تعلن تركيا، بين حين وآخر، عن مساعدات إنسانية وإغاثية لليمن، ففي مايو 2019 أعلنت هيئة الإغاثة الإنسانية التركية أنها قدمت مساعدات إنسانية للمحتاجين في مدن مأرب والجوف وسيئون. وفي أغسطس 2019، أعلنت الهيئة عن افتتاحها 11 مركزًا صحيًا في اليمن بقدرة استيعابية 250 ألف مريض سنويًا، وإنشاء مركز صحي بقدرة استيعاب سنوية تبلغ 800 ألف مريض ومجهز بتقنيات طبية عالية لمعالجة المرضى وخاصة المصابين منهم بالسرطان والفشل الكلوي.
وفي شهر إبريل 2020، ذكرت وكالة الأناضول أن “هناك 2760 أسرة يمنية استفادت من مشروع السلال الغذائية الرمضانية المقدمة من هيئة الإغاثة الإنسانية التركية، كما كشفت الهيئة في شهر يونيو 2020 عن تزويدها مستشفى الحياة في محافظة حضرموت اليمنية، بمستلزمات طبية، وأدوات وقائية للمساهمة في مكافحة فيروس كورونا المستجد”.
وأنتج هذا الاهتمام الإغاثي بالصراع اليمني شكوكًا حيال طبيعة الدور التركي في اليمن، وخصوصًا مع التوجهات الإعلامية التركية الظاهرة خلال الشهور الأخيرة، والتي تنطوي على إشارات للتمهيد لدور تركي ما في اليمن. فعلى سبيل المثال، نشرت وكالة الأناضول، يوم 8 يونيو 2020، تصريحات لعدد من الدبلوماسيين الأتراك وناشطين يمنيين عقدوا ندوة عبر دائرة تلفزيونية مغلقة بعنوان “حرب اليمن والمجتمع الدولي”، تضمنت دعوة، غير مباشرة لأنقرة، للاضطلاع بدور في اليمن، على غرار الصومال وليبيا.
خلاصة القول، إن الدور الإغاثي والإنساني للمنظمات التركية سيظل موضع جدل هائل في السياق العربي الراهن، فأنقرة لم تعد ملتزمة بمقاربة “تصفير المشكلات” مع دول الجوار، ولجأت إلى سياسات مثيرة للأزمات لدول الإقليم. وفي خضم هذه الأزمات، صارت المنظمات الإغاثية التركية أداة لتحسين صورة النظام التركي، وخدمة مصالحه الذاتية، ومحاولة تخفيف حدة الانتقادات الموجهة للسياسة التركية.