صار “التعافي” Recovery أحد المفاهيم الرئيسية التي يتم استحضارها في خطابات حكومات الشرق الأوسط، أو روشتة إصلاح من قبل المنظمات الإقليمية والدولية المعنية بتسوية نزاعات مسلحة في المنطقة العربية، أو الحالتين معاً، لا سيما مع حدوث أزمة صحية كـ”كوفيد-19″ أو مالية عالمية كالتي تشهدها الأسواق بعد الحرب الروسية- الأوكرانية، بحيث يعكس التعافي في مضمونه العام القدرة على تجاوز العلل والأزمات التي تصيب المجتمعات والدول مثلما تصيب الأمراض الأفراد. وقد برزت حالات عدة لصعود خطاب التعافي ومنها بلورة الحكومة المصرية خطة للتعافي الاقتصادي من الأزمة العالمية الراهنة، ودعوة السعودية إلى تمويل أول صندوق دولي مخصص لدعم قطاع السياحة، ونقاش وزراء الطاقة في الرياض تعزيز التعافي العالمي، وتوقع تقرير للبرنامج الإنمائي للأمم المتحدة في يناير 2022 بتعافي اليمن في حال توقف الحرب، ورفض جمعية مصارف لبنان خطة التعافي المالية الحكومية، ودعوة البنك الدولي حركة طالبان في أفغانستان لاتخاذ سياسات اقتصادية سليمة للوصول إلى التعافي.
تشير التفاعلات التي تشهدها دول متعددة في الإقليم، مثل مصر والسعودية واليمن ولبنان وأفغانستان، إلى تصاعد مفهوم التعافي، وبشكل خاص في المجال السياسي، ولاسيما في الثلث الأول من عام 2022، وذلك على النحو التالي:
إجراءات مُحفِّزة
1- بلورة الحكومة المصرية خطة للتعافي الاقتصادي من الأزمة العالمية الراهنة: أكد وزير المالية د.محمد معيط خلال لقائه مع ممثلي بنك التصدير والاستيراد الأمريكي، على هامش اجتماعات الربيع لصندوق النقد والبنك الدوليين في واشنطن في 23 أبريل الجاري، أن خطة التعافي الاقتصادي من آثار الأزمة العالمية الراهنة تتضمن حزمة من الإجراءات المُحفِّزة للاستثمارات الأجنبية والمحلية خاصة القطاع الخاص، موضحاً أن هناك وثيقة جديدة لسياسة ملكية الدولة، تُعد استراتيجية قومية تستهدف تعظيم مشاركة القطاع الخاص في النشاط الاقتصادي؛ بما يُمثِّل “رسالة طمأنة” للمستثمرين المحليين وعنصر جذب للاستثمارات الأجنبية، وتعزيز ثقة المؤسسات الدولية.
وذكر الوزير معيط أن مصر أصبحت أكثر جذباً للاستثمارات بفرص تنموية واعدة، ترتكز على بنية أساسية داعمة وقوية، باتت أكثر قدرة على استيعاب توسيع الأنشطة الاستثمارية، حيث تم الإنفاق على تطوير البنية التحتية بما يصل إلى أكثر من 400 مليار دولار في السنوات السبع الأخيرة، وهو ما تقاطع مع ما ذكره الرئيس عبد الفتاح السيسي خلال حفل إفطار الأسرة المصرية، في 26 من الشهر نفسه، من أن المواطن المصري تحمل الآثار الناجمة عن تنفيذ برنامج طموح وضروري للإصلاح الاقتصادي وذلك بالتوازي مع إعادة بناء وتطوير البنية التحتية للدولة.
دعم السياحة
2- دعوة السعودية لتمويل أول صندوق دولي مخصص لدعم السياحة: وذلك لتجاوز تبعات جائحة “كوفيد-19″، نظراً لأن السياحة تعد قطاعاً رئيسياً بالاقتصاد العالمي، فقد دعت الحكومة السعودية على لسان الوزير أحمد بن عقيل الخطيب في اجتماعات الربيع الخاصة بصندوق النقد الدولي ومجموعة البنك الدولي، إلى المشاركة في تمويل أول صندوق دولي مخصص لدعم قطاع السياحة، حيث قال في هذا الصدد: “إن تعهد حكومة المملكة بتقديم 100 مليون دولار لتأسيس صندوق دعم السياحة، بالتعاون مع البنك الدولي، يُسهم في دعم المجتمعات التي تأثرت بالجائحة في مساعدتها على تجاوز الأثر المدمر الناتج عن جائحة كورونا وسواها من الأزمات العالمية”.
ووفقاً لرؤية وزير السياحة السعودي، فإن التعاون الدولي لا غنى عنه من أجل تحقيق النمو الاقتصادي المرجو، داعياً الدول المانحة والقطاع الخاص للإسهام في بناء الصندوق الائتماني، حيث أن المجتمع الدولي يقع على عاتقه مهمة تسريع التعافي، مما يستلزم التعاون المشترك وخاصة مع المنظمات والمؤسسات المعنية بالسياحة والتنمية، لا سيما أن المملكة وقعت في مايو 2021 على مذكرة تفاهم مع البنك الدولي ومنظمة السياحة العالمية لتفعيل “مبادرة المجتمع السياحي” التي تهدف إلى تعزيز السياحة المستدامة والنمو الشامل وتوفير فرص عمل إضافة إلى الحفاظ على التراث الطبيعي في الدول النامية. وتعمل المملكة على تعزيز بيئتها السياحية والإسهام في تحقيق مستهدفات استراتيجية تنمية السياحة الوطنية التي تسعى بحلول عام 2030 إلى استقبال 100 مليون زيارة سنوياً من داخل المملكة وخارجها وزيادة إسهام القطاع في إجمالي الناتج المحلي إلى 10% مع توفير مليون فرصة عمل جديدة.
الاستقرار الاقتصادي
3- نقاش وزراء الطاقة في الرياض تعزيز التعافي العالمي: عقدت في الرياض أولى الجلسات الحوارية للمؤتمر الدولي لتقنية البترول في 21 فبراير الماضي، بعنوان “تعزيز التعافي العالمي من خلال الطاقة المستدامة”، بمشاركة الأمير عبدالعزيز بن سلمان بن عبدالعزيز وزير الطاقة السعودي، ووزير الطاقة والبنية التحتية الإماراتي سهيل محمد المزروعي، ووزير النفط الكويتي الدكتور محمد عبداللطيف الفارس، ووزير النفط البحريني الشيخ محمد بن خليفة آل خليفة، ووزير النفط العراقي إحسان إسماعيل، ووزير البترول والثروة المعدنية المصري طارق الملا. وقد تركزت معظم المداخلات على ضرورة الاستقرار المالي والاقتصادي والتعافي في مرحلة ما بعد الوباء.
توقف الحرب
4- توقع تقرير للبرنامج الإنمائي للأمم المتحدة بتعافي اليمن في حال توقف الحرب: أشار تقرير صادر عن البرنامج في يناير 2022 تحت عنوان “تقييم أثر النزاع في اليمن: مسارات التعافي”، إلى أنه إذا تم التوصل إلى سلام مستدام مستقر وقابل للتنفيذ، فلايزال هناك أمل بمستقبل مغاير في اليمن. وفي حال استمرار الحرب، فإن التقرير يرجح أن 3.1 مليون شخص سوف يفقدون أرواحهم بحلول عام 2030. علاوة على ذلك، فإن نسبة متزايدة من هذه الوفيات لن تكون بسبب القتال، لكن بسبب تأثير الحرب على أسعار الغذاء وتوافر الدواء والرعاية الصحية والتعليم والخدمات الأساسية. وخلص التقرير إلى أن الفقر المدقع في اليمن يمكن القضاء عليه في غضون جيل أو بحلول عام 2047 إذا توقف القتال، عبر عملية تعافي شاملة تتضمن جميع قطاعات المجتمع اليمني.
إعادة هيكلة
5- رفض جمعية مصارف لبنان خطة التعافي المالية الحكومية: وهو ما يرتبط بتعقيدات الأزمة المالية داخل لبنان، ولاسيما منذ عام 2019، إذ تعاني لبنان أزمة حادة نتيجة السياسات السيئة التي اتخذت لإخراج البلاد من تلك الأزمة، وهو ما جاء في بيان لتلك الجمعية في 23 إبريل الجاري، حيث وصفت الجمعية الخطة بالكارثية لأنها تلقى باللائمة بشأن النسبة الكبيرة من الخسائر الناجمة عن سياسات الحكومة على عاتق البنوك والمودعين. وهنا تجدر الإشارة إلى أن العملة اللبنانية “الليرة” فقدت ما يقرب من 90 في المئة من قيمتها. كما منعت البنوك معظم المدخرين من الوصول إلى حسابات بالعملة الصعبة.
وقد كانت البنوك اللبنانية المُقرِض الرئيسي للحكومة لسنوات حتى تعرضت للأزمة الأخيرة. وقدَّرت الخطة الحكومية حجم خسائر القطاع المالي بحوالي 72 مليار دولار، وعلى الرغم من أن موافقة الجمعية ليست ضرورية لكي تبدأ الحكومة في تنفيذ الخطة، إلا أن دعمها من قبل القطاع المصرفي سوف يساعد في تجاوز تلك الأزمة. فالمسودة الحالية للحكومة تضع سلسلة من الإصلاحات المالية، تشمل إصلاح القطاع المصرفي ووضع حدود قصوى للمبالغ التي يمكن للمودعين استعادتها من حساباتهم، وتوصلت الحكومة اللبنانية في أبريل الجاري إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي للاستفادة من (تسهيل الصندوق الممدد) لمدة 46 شهراً، وطلبت لبنان بموجبه الوصول إلى ما يعادل نحو 3 مليارات دولار، غير أن الوصول إلى هذه الأموال مرهون بتنفيذ عدد كبير من الإصلاحات الاقتصادية وإعادة هيكلة القطاع المالي، على نحو يشير إلى أن التعافي اللبناني بعيد المنال مستقبلاً. لذا، أشار رئيس الوزراء اللبناني نجيب ميقاتي، في 10 فبراير الماضي، إلى صعوبات في الاتفاق على خطة للتعافي لمواجهة الانهيار الاقتصادي في البلاد ووصفها بأنها “عملية صعبة”.
مسار بديل
6- دعوة البنك الدولي حركة طالبان أفغانستان لاتخاذ سياسات اقتصادية سليمة: وذلك بهدف الوصول إلى التعافي، إذ حذر أحد التقارير الاقتصادية الصادرة عن البنك الدولي، في منتصف أبريل الجاري، من أن آفاق الاقتصاد الأفغاني في الظروف الاقتصادية الراهنة “كارثية”، وتوقع أن ينخفض نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي بحلول نهاية عام 2022 نحو 30% مقارنة بنهاية عام 2020، و”عدم نمو الاقتصاد بالسرعة الكافية لتحسين سبل العيش أو خلق فرص لـ600 ألف أفغاني يبلغون سن العمل كل عام”، غير أن التقرير أشار إلى أن هناك مساراً بديلاً يمكن أن تسلكه الإدارة الانتقالية لحكومة طالبان وهو الالتزام بالمعايير الأساسية لمعاملة النساء والفتيات واحترام حقوق الإنسان وتبني إدارة اقتصادية سليمة، ويتوازى مع ذلك استمرار المجتمع الدولي في الاستجابة للاحتياجات الإنسانية الأساسية.
التعافي الفعّال
خلاصة القول، إن التعافي يعد أحد المفاهيم الذائعة الانتشار في الإقليم بعد الحراك الثوري العربي وتوابعه وخاصة بعد تحوله إلى موجة من الصراعات المسلحة الممتدة، وتزايد استخدامه في مرحلة ما بعد انتشار وباء كورونا وما سببه من تغيرات يبدو أنها ستطول، فضلاً عن الحديث عن دعم جهود التعافي الاقتصادي بعد الحرب الروسية- الأوكرانية في العام الجاري. غير أن مسارات التعافي تأخذ فترة زمنية طويلة في معظم الحالات، وتختلف من حالة لأخرى ومن فترة زمنية لأخرى، وهو ما تشير إليه الحالات التاريخية السابقة.