تتابع إيران بدقة التطورات الميدانية التي تشهدها الحرب الروسية-الأوكرانية، حيث ترى أن التداعيات التي سوف تفرضها تلك الحرب سوف تؤثر على نفوذها في منطقة الشرق الأوسط. ومن هنا، فإنها بدأت، حسب اتجاهات عديدة، في استغلال هذا النفوذ لخدمة حساباتها في تلك الحرب، على نحو يبدو جلياً في إشارة تقارير إلى قيام شبكات تهريب تشارك فيها المليشيات الموالية لها في العراق بنقل أسلحة إلى روسيا، بالتوازي مع التوسيع الميداني في وسط سوريا ولا سيما في جنوب حماة. ويمكن تفسير هذه التحركات الإيرانية في ضوء اعتبارات عديدة، يتمثل أبرزها في استغلال تداعيات الحرب على حسابات روسيا في سوريا، والتخوف من التعرض لضربات عسكرية إسرائيلية متتالية، وتعزيز قدرة موسكو على مواجهة العقوبات الغربية، والاستعداد للسيناريوهات المختلفة للاتفاق النووي.
يتزايد الاهتمام الإيراني تدريجياً بمتابعة ما يجري على الساحة الأوكرانية، منذ بداية العمليات العسكرية الروسية في 24 فبراير الماضي، حيث ترى إيران أن التداعيات التي سوف تفرضها تلك الحرب لن تقتصر على المستوى الدولي، وإنما ستمتد إلى الصعيد الإقليمي، ولا سيما في ظل الأدوار التي تقوم بها روسيا في بعض الملفات الإقليمية، وفي مقدمتها الملف السوري والليبي إلى جانب الملف النووي الإيراني. ومن هنا، بدأت إيران في اتخاذ خطوات إجرائية استباقية للتعاطي مع تلك التطورات، بهدف تعزيز مكاسبها وتجنب مواجهة أية عواقب محتملة قد تنتج عنها. ففي هذا السياق، أشار تقرير لصحيفة “الغارديان” البريطانية، في 12 أبريل الجاري، إلى تأسيس شبكات تهريب لنقل أسلحة إيرانية إلى روسيا تنشط فيها المليشيات الموالية لإيران في العراق، حيث تبحر السفن المحملة بالأسلحة من ميناء بندر أنزالي الإيراني على بحر قزوين إلى مدينة أستراخان الروسية على دلتا الفولغا، وتتضمن أنظمة “آر بي جي”، وصواريخ مضادة للدبابات، ونظام دفاع صاروخي “باوار 373”. وبالتوازي مع ذلك، بدأت المليشيات التابعة لإيران في سوريا في التوسع بريف حماة من خلال تعزيز سيطرة “فيلق القدس” على اللواء 47 الذي يتواجد في جبل معرين، بعد أن انتشرت قبل ذلك في مستودعات مهين العسكرية بريف حمص الشرقي التي انسحبت منها عناصر من مليشيا “فاغنر” و”الفيلق الخامس”.
أهداف عديدة
تسعى إيران عبر تبني تلك المقاربة إلى تحقيق أهداف عديدة ترتبط بموقعها من التطورات التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط في المرحلة الحالية، ويمكن تناولها على النحو التالي:
1- استغلال تداعيات الحرب على حسابات روسيا في سوريا: تراقب إيران بدقة التأثيرات التي تفرضها الحرب الأوكرانية على الحسابات الروسية في سوريا، خاصة بعد أن بدأت روسيا في توسيع نطاق عمليات تجنيد المرتزقة من المليشيات الموالية لها داخل سوريا للقتال إلى جانب قواتها المسلحة ومليشيا “فاغنر” في أوكرانيا. وترى إيران أن هذا التوجه سوف يؤثر على مواقع المليشيات الموالية لروسيا داخل سوريا، على غرار “الفيلق الخامس”، على نحو دفعها إلى محاولة ملء الفراغ الناتج عن الانشغال الروسي في الحرب الأوكرانية، خاصة أنه لا توجد مؤشرات توحي بأن تلك الحرب تقترب من نهايتها.
2- الاستعداد لضربات عسكرية إسرائيلية جديدة: لا تنفصل التحركات التي تقوم بها إيران والمليشيات الموالية لها داخل سوريا عن تزايد احتمالات قيام إسرائيل بشنّ ضربات عسكرية جديدة داخل الأخيرة. واللافت في هذا السياق، هو أن إيران نفسها لا تستبعد هذه الاحتمالات، في ضوء عاملين: أولهما، محاولة إسرائيل توجيه رسائل مباشرة لها بأنها لن تتوانى عن حماية مصالحها وأمنها مع اقتراب موعد انتهاء المفاوضات التي تجري في فيينا حول الاتفاق النووي. وثانيهما، سعي تل أبيب إلى منع طهران من استغلال أي ارتباك في التحركات العسكرية الروسية داخل سوريا- نتيجة تصاعد حدة الأزمة الأوكرانية- من أجل تعزيز نفوذها.
3- الترويج للدور الإيراني “المحايد” في الأزمة: تعكسهذه التطورات في مجملها سمة الازدواجية التي تتسم بها السياسة الإيرانية بصفة دائمة. إذ إن إيران حريصة على تقديم هذا الدعم العسكري لروسيا دون أن توفر فرصة لخصومها لتأكيد انخراطها في الحرب الأوكرانية لصالح الأخيرة. ومن هنا، فإنها تسمح، على الأرجح، بنقل هذه الأسلحة عبر هذه الشبكات التي تنخرط فيها المليشيات الموالية لها في العراق، وفي الوقت نفسه لا تعلن بشكل مباشر مسئوليتها عن ذلك، وهو ما يشبه، إلى حد ما، السياسة التي تتبعها في تقديم الدعم إلى بعض حلفائها من المليشيات الموجودة في بعض دول الأزمات في الشرق الأوسط. وفي رؤية طهران، فإن هذا الموقف يخدم موقفها من الأزمة الأوكرانية، والذي تزعم أنه “محايد”، لدرجة أنها حاولت ممارسة دور الوسيط بين روسيا وأوكرانيا، على نحو بدا جلياً في الزيارة التي قام بها وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبداللهيان إلى موسكو، في 15 مارس الفائت، والتي أشار فيها إلى أن نظيره الأوكراني ديمتري كوليبا حمّله رسالة إلى وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف مفادها أن أوكرانيا تركز على الوصول إلى تسوية سياسية للأزمة.
4- الالتفاف على العقوبات الغربية المفروضة على روسيا: يبدو أنّ إيران تسعى إلى مساعدة روسيا في الالتفاف على العقوبات الغربية التي تعرضت لها منذ بداية العمليات العسكرية، والتي فرضت حظراً على بعض السلع ذات الاستخدام المزدوج، على غرار قطع غيار المركبات، وهو ما دفع موسكو إلى محاولة توسيع هامش الخيارات المتاحة أمامها عبر مطالبة القوى الحليفة لها بمساعدتها في الالتفاف على تلك العقوبات، وفي مقدمتها إيران والصين. وربما يمكن من خلال ذلك فهم أسباب حرص الولايات المتحدة الأمريكية، في 14 مارس الفائت، على توجيه تحذيرات إلى الصين من مغبة تقديمها دعماً عسكرياً لروسيا.
5- الاستعداد للمسارات المختلفة لمفاوضات فيينا: لم تعد إيران تستبعد أياً من السيناريوهات المحتملة للمفاوضات التي تجري في فيينا حول الاتفاق النووي. فرغم أنه تم الانتهاء من تسوية معظم الخلافات حول البنود الرئيسية في الاتفاق، إلا أن التباين حول رفع اسم الحرس الثوري من قائمة التنظيمات الإرهابية الأجنبية، ما يزال يمثل عقبة أمام الإعلان عن الصفقة الجديدة. وقد كان لافتاً أن تصريحات المسئولين الإيرانيين والأمريكيين باتت تشير إلى عدم استبعاد انهيار المفاوضات، وهو ما انعكس، على سبيل المثال، في التصريحات التي أدلى بها المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي، في 12 أبريل الجاري، وقال فيها إنه “ينبغي عدم ربط مستقبل إيران بنجاح المحادثات النووية مع القوى العالمية أو فشلها”، مضيفاً: “لا تنتظروا المفاوضات النووية لوضع الخطط للبلاد وامضوا (في ذلك) قدماً. ولا تتركوا أعمالكم تتعطل، سواء وصلت المفاوضات إلى نتائج إيجابية أو شبه إيجابية أو سلبية”.
هذه التطورات تعني أن إيران لم تعد تستبعد استمرار العقوبات الأمريكية المفروضة عليها، في حالة انهيار المفاوضات، ومن ثم فإنها تحرص على مساعدة روسيا في الحرب الأوكرانية، لدفع موسكو إلى مواصلة دورها الداعم لها في مواجهة العقوبات الأمريكية.
تحركات متواصلة
ختاماً، يُمكن القول في النهاية إن إيران سوف تواصل تحركاتها على المستويات المختلفة في بعض دول الأزمات، ولا سيما العراق وسوريا، استباقاً لما يمكن أن تنتهي إليه المفاوضات النووية التي تجري مع قوى مجموعة “4+1” بمشاركة أمريكية غير مباشرة في فيينا، فضلاً عن الحرب الروسية في أوكرانيا، حيث ترى أن التطورات التي يشهدها الملفان النووي والأوكراني سوف تفرض تداعيات مباشرة سواء على موقعها في الإقليم أو على اتجاهات التفاعلات التي تجري مع القوى الرئيسية فيه، وفي مقدمتها إسرائيل.