نظّم مركز “العالم العربي للأبحاث والدراسات المتقدمة”، بالقاهرة، بتاريخ 13 سبتمبر 2023، جلسة استماع بعنوان “رؤى متقاطعة: كيف تتفاعل الجزائر مع تحديات الجوار الإقليمي؟”، واستضاف المركز الدكتور فتحي بولعراس، الأستاذ بالمدرسة الوطنية العليا للعلوم السياسية بالجزائر (كمتحدث رئيسي في الجلسة)، كما شارك في الجلسة عدد من الخبراء والباحثين المتخصصين في مجالات مختلفة، وهم: الدكتور محمد عز العرب، والأستاذ عمرو عبدالعاطي، والأستاذ محمد الفقي، والأستاذ كرم سعيد، والدكتور هيثم عمران، والأستاذ حسين معلوم، والأستاذ محمد عمر، والأستاذة نادين المهدي.
طبيعة التحديات
يرى “بولعراس” أن المعطيات الجغرافية للجزائر تفرض طبيعة وأنواع التهديدات، فالجزائر تعد أكبر بلد في أفريقيا، وتتقاسم أكثر من 6 آلاف كم من الحدود البرية مع دول الجوار (المغرب، والصحراء الغربية، وموريتانيا، ومالي، والنيجر، وليبيا، وتونس)، وجميع الحدود تشكل تهديداً للأمن الوطني الجزائري، وأبرز تلك التهديدات:
1– الاتجار بالمخدرات: خاصة مع نشاط منظمات من دولة المغرب. وخلافاً للشائع، فإن هناك تنسيقاً أمنياً مع المغرب في سياق تأمين الحدود بين البلدين، رغم بعض التوترات السياسية، والجزائر منفتحة على العلاقات مع المغرب، وكان عرض المساعدة في أزمة الزلزال مؤشراً على ذلك.
2- الهجرة غير الشرعية: إذ تحولت الجزائر منذ عقد تقريباً إلى بلد عبور لشبكة تهريب المهاجرين نحو أوروبا من مواطني الدول الأفريقية الذين يصلون للجزائر.
3- تهريب السلاح: تحول الفناء الخلفي للجزائر منذ سقوط نظام القذافي في ليبيا إلى سوق مفتوحة لتجارة الأسلحة وتهريبها بشكل واسع، عقب عودة المرتزقة من موريتانيا والنيجير ومالي، الذين كانوا يشاركون في كتائب القذائفوقاتلوا في صفوفها، وعادوا إلى بلدانهم بأسلحتهم، واستفادت التنظيمات الإرهابية من هذا السلاح، مثل: تنظيم القاعدة، وبوكو حرام، وتنظيم التوحيد والجهاد.
الأزمة أن منطقة الساحل، وأفريقيا جنوب الصحراء، منطقة خارج سيطرة القانون، ولا تخضع لسيطرة أي دولة، وبالتالي فتقييم الأسلحة ونوعياتها المتداولة أمر صعب، ولكن منظمات دولية غير حكومية أحصت ما لا يقل عن 15 مليون قطعة سلاح في جميع منطقة الساحل وجنوب الصحراء الكبرى.
استراتيجية متكاملة
يشير “بولعراس” إلى عددٍ من الإجراءات والتوجهات الحاكمة للاستراتيجية الجزائر للتعامل مع مختلف التهديدات في دول الجوار، على مختلف المستويات، كالتالي:
1- المشاركة الفاعلة إقليمياً ودولياً: الجزائر لم تتخلف يوماً ما عن المشاركة في جميع المبادرات الإقليمية والدولية لمكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة. منها على الصعيد الإقليمي: الاتفاقية العربية لمكافحة الإرهاب 1998، والبرتوكول الملحق باتفاقية الاتحاد الأفريقي لمكافحة الإرهاب، وكان سبباً في مواجهة الإرهاب بمنطقة الساحل، وتوقيع مذكرة تعاون وتنسيق مع مالي والنيجر وموريتانيا 2009.
وعلى الصعيد الدولي، تشارك الجزائر في اجتماعات 5+ 5 الخاصة بمنطقة البحر المتوسط، بما في ذلك اجتماعات وزراء الداخلية والدفاع، وتقديم توصيات للجمعية العامة للأمم المتحدة لتعزيز التعاون والأمن في منطقة البحر المتوسط، كما أن الجزائر جزء من اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الاتجار بالمخدرات والفساد والجريمة المنظمة عبر الوطنية.
2- اعتماد الجزائر على خمسة مبادئ: تقوم سياسة الجزائر لمواجهة التهديدات على 5 مبادئ، هي: الاعتراف بالحدود الموروثة لكل بلد منذ الاستقلال، والسيادة في المجال الجوي والبري، وحسن الجوار، وترسيم الحدود وتنمية المناطق الحدودية، وعدم التدخل في شؤون الدول، وهو أحد الثوابت في السياسة الخارجية الجزائرية.
3- تعزيز التشديدات الأمنية على الحدود: إذ تتجه الجزائر إلى تعزيز التأمين على الحدود الشرقية مع تونس وليبيا، والشرقية الجنوبية مع مالي والنيجر، والغربية مع موريتانيا والمغرب. وفي هذا الإطار فإن ميزانية الجيش الجزائري ارتفعت بدرجة كبيرة، مع امتلاك أحدث الوسائل التكنولوجية الحديثة الممكنة لتأمين الحدود، والجيش قادر على تأمين وحماية الحدود.
4- دعم استقرار دول الجوار سياسياً: السؤال الذي يشغل بال صناع القرار بالجزائر، كيف يمكن الحفاظ على الاستقرار في دول الجوار التي تشهد اضطرابات سياسية؟. على سبيل المثال، منذ الثورة التونسية، والجزائر تحاول دعم النظام في تونس حتى لا تسقط الدولة، اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً وأمنياً، ومنع انتشار الفوضى في هذا البلد.
وساهمت الجزائر في القضاء على التنظيمات الإرهابية على الحدود الشرقية مع تونس في الجبال، وهذه التنظيمات لم تظهر في عهد الرئيس السابق زين العابدين بن علي، ولكن بعد الثورة ظهرت الحركات الجهادية في تونس، وهو أمر يثير تساؤلات عديدة، كما وجهت الجزائر دعماً مالياً لتونس، بما يسمح بدفع أجور أفراد الجيش والشرطة.
5- استدارة لتنويع الشركاء الأجانب: على الصعيد الدبلوماسي، تتبنى الجزائر دبلوماسية منفتحة على تنويع الشركاء، وذلك خلال عهد بوتفليقة وتبون، إذ إن الدولة مدركة لطبيعة التهديدات على الصعيد الأفريقي، وهو ما يفسر قرار تنويع الشركاء الأجانب بعيداً عن الشركاء التقليديين، ونعني هنا فرنسا وروسيا.
اتضح هذا التوجه أكثر منذ عام 2019، منذ وصول الرئيس تبون للحكم، ومنذ ذلك التاريخ هناك نوع من الاستدارة في السياسة الخارجية إلى الشرق ناحية الصين وتركيا، وتعميق الشراكة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة في مجال مكافحة الإرهاب.
مرتكزات رئيسية
يُحدد “بولعراس” خصائص الاستراتيجية الجزائرية في مواجهة التهديدات الأمنية، وتحديداً تجاه دول الجوار التي تقع في منطقة الساحل، ودول جنوب الصحراء الكبرى، وهي:
1- رفض التغيير غير الدستوري: تتحفظ الجزائر على أي تغيير غير دستوري في أفريقيا، وهذا مبدأ رئيسي موجود في الاتفاق التأسيسي بالاتحاد الأفريقي، وهذه التغييرات خارج الأطر الدستورية أكبر تحدٍ يواجه أفريقيا، إذ ترى الجزائر أن عودة الانقلابات العسكرية التي تشهدها القارة الأفريقية ينسف كل أوجه التعاون، فضلاً عن كون هذه الظاهرة تفتح المجال للتدخلات الخارجية.
وتعمل الجزائر جاهدة على احتواء الانقلابات، من خلال تنسيق الجهود مع البرلمانات الأفريقية جنوب الصحراء، ودول شمال أفريقيا، من أجل تكثيف الجهود والتعاون لتحقيق الاستقرار.
2- عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول: لأن هذا يؤدي لتفاقم الأوضاع في ذلك البلد، وبدلاً من ذلك تؤمن الجزائر بضرورة تعزيز روح التعاون وتبادل الخبرات مع الدول الأفريقية.
3- رفض التدخلات الأجنبية: وترفض الجزائر أي تدخلات في شؤون دول القارة، فمنذ انقلاب النيجر خلال شهر أغسطس الفائت، ودخلت المنطقة في دوامة اضطرابات سياسية وأمنية، واتجاه إقليمي للتدخل العسكري، من أجل إعادة النظام الدستوري، والجزائر ترى ذلك تهديداً أمنيا، وسيجر المنطقة إلى سيناريو استنساخ تجربة ليبيا في المنطقة، وتستند الجزائر في رأيها إلى ثلاث تجارب لتدخلات عسكرية (سوريا، والعراق، وليبيا)، حيث لا تزال تعاني تلك الدول من اضطرابات سياسية.
وتدفع الجزائر إلى اقتراح بديل لتعزيز الحل السياسي في النيجر، ولها رصيد من التجارب الخارجية للوساطة الدبلوماسية، وتجنيب البلد والمنطقة مخاطر التدخل العسكري الذي يصعب التنبؤ بعواقبه وتداعياته.
كما تتخوف الجزائر من التدخل العسكري في النيجر، بالنظر إلى تجربة التدخل العسكري الفرنسي في مالي، الذي أدى إلى نتائج وخيمة، من تنامي نشاط الجماعات الإرهابية، مما دفع بالسكان المحليين إلى الثورة ضد الوجود العسكري الفرنسي، مع وجود علاقة ارتباطية بين العمليات العسكرية الفرنسية، وتنامي عودة الجماعات المسلحة.
4- تفعيل الدبلوماسية الدينية: يزخر تراث الجزائر بدور الطرق الصوفية، ومنذ عهد الرئيس تبون لاحظنا تزايد الاهتمام بتفعيل دور الطرق الصوفية، وهي حركات قومية عابرة للحدود بين الجزائر والنيجر ومالي ودول الساحل. وخلال عهد بوتفليقة، شهد عام 2013 تأسيس رابطة أئمة ودعاة منطقة الساحل الأفريقي، والجزائر تشغل منصب الأمين العام في هذه الرابطة، وأوكلت لها مهمة التصدي لخطاب التطرف للحركات الإرهابية، ونشر الإسلام الوسطي.
حلول سلمية
ويؤكد “بولعراس” تفضيل الجزائر مبدأ حل النزاعات بالطرق السلمية، وتفادي الحلول العسكري والأمنية، باعتبارها ليست القاعدة، والأولوية للجزائر الآن تحقيق الأمن والاستقرار في دول الجوار، ومنذ عام 2020 تشعر الجزائر بقلق شديد منذ توقيع المغرب اتفاقاً أمنياً وعسكرياً مع إسرائيل، إضافة لتمدد دولة إقليمية في المنطقة، وهو ما يثير القلق تجاه سيناريو محتمل يستهدف الأمن الوطني الجزائري.
ويرى أن الجزائر قادرة على توازن العلاقات الاستراتيجية الخارجية بين العلاقات مع أمريكا وأوروبا والصين وروسيا، خاصة أن السياسة مليئة بالمتناقضات. وفي سياق إدارة الجزائر لمصالحها في بعض الملفات مثل ليبيا، فإن هذا الملف أولوية لمصر والجزائر، وكان يفترض التقاء الدولتين مع أطراف الأزمة، واستبعاد كل الأطراف الإقليمية والدولية لحل الأزمة، ولكن لكل دولة حساباتها، والعلاقات المصرية الجزائرية قوية جداً.